ينبغي ان نتحدث قليلا عن النقد في فرنسا قبل أن نعالج أصول النقد التى حاول أن يؤصلها " ماتيو أرنولد " . وذلك لان ماتيو ارنولد قد تأثر اشد التأثر بحركة النقد الأولى في فرنسا خلال القرن التاسع عشر
ولقد ذهب كثير من الكتاب والأدباء إلي أن العقل الفرنسي يمتاز بالصفاء والتنظيم في كل منتجاته . يظهر ذلك واضحا في تاريخ الفلسفة الحديثة ، فقد تناول الفلاسفة الفرنسيون ما انحدر إليهم من الفكر الأوربي ، فجودوه وصقلوه ورتبوه . وابتدع المفكرون الفرنسيون اساليب للنقد هي التي ميزت أفكارهم في العصور الحديثة . وقد بلغ هذا التفكير النقاد اسمى ما بلغ من التحليل والتنظيم في القرن السابع عشر . لان الفلسفة الفرنسية بلغت في ذلك القرن أسمى ما بلغته . وكذلك نري أن الفلسفة قد اقترنت بالنقد الأدنى ، وان النقدة قد حاولوا ان يتبعوا الأساليب الفلسفية التى ترسمها الفلاسفة
لقد حاول الفكر الفرنسي أن يقيم الحياة جميعا على أساس من القانون العام ، وكذلك حاول النقد الفرنسي ان يقيم الأدب على جملة من المبادئ العامة . وقد كان هذا النقد قوة دافعة في القرنين اللذين جاا بعد القرن السابع عشر . فقد ذهب سابقة في تاريخ الأدب ، وأصبح النقدة فيما بعد ذلك القرن يردون كل اصل من اصول الأدب إلي الفلسفة . وحينما قامت مدرسة القرن التاسع عشر كانت تحاول أن تقيم أساسا فلسفيا للنقد الأدبى . فنقاد القرن التاسع عشر احتفظوا بذلك الطابع الموضوعي للنقد . إلا أن الفلسفة التي احتفوا بها والتي حاولوا أن يستمدوا منها أصول النقد ، كانت فلسفة اجتماعية خاصة ،
تحاول أن تدرك العلاقة بين الأديب وبين الوسط الذي يعيش فيه . كانت نظرة فلسفية تحاول أن تدرس المبدا العام او القيمة الخلقية والجمالية العامة قبل أن تدرس الشاعر أو الأديب نفسه
ذهب تين taine إلي أن الأدب في نفسه نتاج ثلاثة عوامل : هي الجنس والساعة والوسط . ومن الجنس والساعة والوسط يستطيع مؤرخ الأدب ان يستنتج حياة الشاعر أو الأديب . ومثل تلك الناحية من نواحي النقد كانت علمية أكثر منها فنية ؛ كانت تعتمد على العقل والتحليل اكثر مما كانت تعتمد على الوجدان والتركيب ؛ كانت موضوعية اكثر منها ذاتية ؛ وكانت تحتفي بالقاعدة أكثر مما كانت تحتفل باللقائة ؛ كانت كلاسيكية أكثر منها رومانتيكية .
وكذلك كانت تستطيع أن تتأثر هذا العنصر فيما ذهب إليه سان بيف saine beuve وقد كان سان بيف مؤرخا للأدب ، وداعية للثقافة الأدبية الخالصة . وكان يري ان الأدب خير علاج لثقافة الطبقة الوسطى . وقد أنشأ في النقد أصولا وقيما . وكانت طريقته في التحليل أن يبدأ بوصف الميول الأدبية الشائعة ، وان يستنبط منها حياة الأديب الخاصة
أما رينان renan فقد قدر الجنس تقديرا عظيما في حياة الأدب ، حتى لقد أرجع إلي الجنس تطور الأدب وارتقاءه ؛ وارجع إليه ايضا انحطاطه واضمحلاله . وكان يري أن الآجناس حينما توزعت في شعاب الأرض ، واضطربت في نواحيها قد خلقت لنفسها أخيلة خاصة ، هي التي يتوارثها جيل بعد جيل ، ولكل ادب نصيب من
تلك الاخيلة ، يغوص ويطفو في الشعر والقصص والملاحم وغير ذلك .
تأثر " ماتيو ارنولد " بكل ذلك ؛ والحق ان النقد الإجليزي طالما تأثر بالنقد الفرنسي ؛ فقد وقف النقد في انجلترة مترددا بين الفكر وبين الوجدان منذ القرن السادس عشر ، وتأثر الانجليز بمدرسة النقد الفرنسي في القرن السابع عشر ، وكانت نتيجة ذلك مدرسة بأسرها ، كان منها " ملتون " ، ودرج على آثارها " دريدن " drydenوبوب pope إلا ان النقد الانجليزي لا يمتاز بما يمتاز به الفرنسي من صفاء المعنى ، ومن دقة التحليل ، هو نقد ذاتي أكثر منه موضوعي ، وهو نقد لقين اكثر منه نقد تعمل وتكلف . فإذا كان " ماتيو أرنولد)) لجأ إلي النقد الفرنسي يستمد منه أصوله ، فإنه لم يكن يعمل إلا ما فعله النقاد الانجليز من قبله ؛ وإذا كان قد حاول أن يعالج النقد في انجلترة ، فقد انقلب إلي النقد في فرنسا ليتخذ منه العلاج الناجع
ولقد قارب النقد الأدبي وهذه فكرته عن الثقافة والنقد . ولقد كان يضيق بالمدرسة الشعرية التي قامت في الربع الأول من القرن التاسع عشر . وكان يري انها قامت على بضعة من الأفكار المبهمة المهوشة ، وانها لم تقم بعد مجهود عقلي جبار . ولذلك اعتمدت على آراء وأصول ومثل هي نفسها منهوكة بالية . كان يري أن المدرسة التي شملت وردزورث " و بيرون و شلي " و " كيتس " مدرسة غير خالدة ، لأنها لا تقوم على مثل تلك الثقافة التي دعا إليها . ولم يكن يعجب من بين هؤلاء الشعراء إلى بوليمر وردزورث ، وحتي وردزورث نفسه لم يكن يرضيه كل الرضى . وهو قد كان يري علي الضد من ذلك أن الحركة الأدبية التي قامت في فرنسا وألمانيا في ذلك
العهد ، كانت أسمي إنتاجا وأعمق شعورا من الحركة التي قامت في انجلترة . كان يري أن " جوت " خير من " بيرون " لأن " جوت " كان مثقفا جمع إلي قوة النقد حيوية الشعر . وكان يري ان ((رينان ))و((سان بيف )) قد خدما النثر الفرنسي أجل خدمة ، لأنهما وصفاه علي أصول المنطق والجلاء
ثم إنه حاول أن يوازن بين الأدب الانجليزي والأدب الفرنسي ، فخرج من موازناته بأن الإنجليز يمتازون بالنشاط في الانتاج والأمانة في التعبير . أما قوة الذهن فهي خاصة يمتاز بها الفرنسيون . ولذلك فقد أفلح شعراء من الانجليز في كتابة الشعر ، لأن النشاط في الانتاج والأمانة في التعبير يلائمانه ، لكنه لم يكن راضيا عما أنتجه كتاب الانجليز من النثر . أما الذي أشاع في النثر الفرنسي تلك الروح التي تحتفي بالفكرة وتحتفل بالقاعدة وتندفع نحو مستوي عالي من الصقل والتجويد ، فإنه المجمع الفرنسي (١) . ولقد كان ذلك المجمع منذ سنة ١٦٢٨ محكمة أدبية عليا تعرض عليها كتابات المؤلفين فتحكم لها أو عليها . ولذلك فقد خلقت مستوي عاليا يحاول الكتاب أن يبلغوه . واهتمت جمهرة المؤلفين بأن يرضوا هؤلاء القصاة ، فشاعت هذه الروح الكلاسيكية التي خلقت قواعد الفن وفرضت قوانين الفكر . وكان هذا أهم ما ميز الأدب الفرنسي خلال القرون الحديثة . أما في انجلترة فإن الانجليز نعموا بذلك النشاط الجامح الذي ميز حياتهم فلم يقم بينهم مثل هذا المجمع ، ولم يلق الأدباء أمثلة سامية يحاولون أن يبلغوها . فأصبحت انجلترة مثابة لشعراء الهوي ، ولم يفرض علي الكتاب والمؤلفين تلك الأصول التي فرضت علي أمثالهم من الفرنسيين . ذلك جانب من جوانب النقد استطاع " ماتيو ارنولد أن يبسطه في مقال له عن الآثار الأدبية التي تخلفها
الجامع ؛ لكن ذلك لم يكن إلا شعبة من رأيه عن النقد الأدنى بوجه عام . فهو قد كان يذهب - كما أسلفنا إلي أن الأدب يستمد غذاءه من فئة من الأفكار التي تتبلور في نفس المتفنن والأديب . ولقد تكون تلك الأفكار سياسية أو اجتماعية أو دينية ، لكنها أفكار علي أيه حال منتزعة من مثل عليا ؛ ولقد تشيع مثل تلك الأفكار في احيان ، ولقد تنضب وتتزايل في احيان اخري ؛ أما إذا كانت شائعة فليس على الأديب إلا أن يهوي عليها فيحيلها شعرا ونثرا ؛ فإذا هي كانت أسنة ناضبة ، فانه يكون من شأن الناقد ان يأخذها بالصقل والتجويد حتى تتهيأ لأن تكون مادة من مواد الأدب . لذلك لم يكن النقد عند " ماتيو أرنولد " سلبيا لا غناء فيه ؛ بل النقد عنده ملاك الأدب ؛ لأن الناقد يهيئ أفكار الأديب ، ولأن الاديب لا يستطيع ان يدرك ما الغث وما السمين ، إلا إذا اطمأن لرأي الناقد
والنقد علي ذلك خالق مكون ، بل لقد تمضي بين عصور الأدب فترة يكون النقد فيها كل شئ ، وتلك هي الفترة التى تمهد الطريق للانتاج الأدبى ، فاذا تكثرت الأفكار وظهر نقاد يؤلفون بينها ، وإذا سمت الثقافة حتى كانت شائعة في الحياة العامة ، فلا بد أن يعقب ذلك عصر من الانتاج الأدبى ؛ الفترة الأولى هي فترة التحضير والتهيئة ، أما العصر الثاني فهو عصر الخلق والتكوين ، ولا يكون للعصر الأدبى قيمة حتى تتهيأ العقول بتلك الثقافة الفكرية العامرة التى ينتجها النقد
وإذا كان الأدب جميعه نقدا للحياة ، فقد كان أحري بالنقد أن يكون كذلك نقدا للحياة . لذلك حدد " ماتيو أرنولد)) وظيفة النقد فقال : إنه ذلك الجهد النزيه الذي يبذله الأديب لينشر خير ما عرفه الناس وفكروا فيه أما عن المعرفة والتفكير ، فقد بسطنا الرأي فيهما . وأما النزاهة ، فذلك ما نريد أن نحدثك عنه في كثير من الايجاز .
لقد رأيت أن الجمهرة من الانجليز وصلوا حياتهم الخاصة العامة التي كانوا يلاحون عنها ، وقد رأيت أن مصالح الطبقة الوسطى هي التي كانت تسير السياسة ومبادئ الاجتماع حيث شاء لها الهوي ؛ وكذلك كان النقد الأدنى فانه لم يخل من التحزب قامت الصحافة بدورها في نقد آيات الفن والأدب ، لكنها كانت تصدر عن هوي الاحزاب السياسية والدينية ؛ فكان الاديب ملكا او شيطانا ، وفق ما يؤمن به الناقد في الدين والأخلاق والسياسة . لذلك اتصل النقد بمبادئ الساعة ، فلم يكن في انجلترة حدود واضحة يصطلح عليها النقدة : ولم يكن للعواطف الهوجاء موانع تقف بها عند حد معلوم وكانت تصطرع الاحن والحزازات بين الشعراء والكتاب والنقاد ، فتحيف ذلك الأدب نفسه . فالنزاهة التي دعا إليها ماتيو ارنولد كانت لازمة لبعث تلك الحياة الأدبية الجديدة التي كان يبشر بها
ثم لقد رأيت أن الذي ميز الحياة الانجليزية في عصره كانت تلك النعرة الانجلزية الشديدة التى كانت تنتقص الأدب الأوربي ؛ وكانت مخدوعة تحسب الأدب الانجليزي منتهي ما يصل إليه جهد الاديب ، ولقد تحدثنا عن ذلك فقلنا إن " ماتيو ارنولد " قد سمي كل ذلك إقليمية خبيثة . وقد كان ذلك الشعور يتدخل في النقد ، فحاول " ماتيو أرنولد " أن يتخلص من تلك الإقليمية ، كما تجرد من الهوي ومن الإحن والحزازات . ولقد كان موفقا في كل ذلك ، فقد جاءت مقالاته في النقد مبراة من كل تلك الرذائل التي حاول أن يستأصلها
ألم أقل لك إن دراسة " ماثيو أرنولد " تفيدنا كثيرا ؟ السنا نري أنفسنا اليوم في مفترق الطريق مثل ما كان يري أدباء الانجليز أنفسهم في منتصف القرن التاسع عشر ؟ ثم (البقية علي الصفحة التالية )
أليس من الحق أننا في حاجة إلي مثل تلك الثقافة السابغة التي دعا إليها ذلك الناقد العظيم ؟ أجل ! إن أدبنا لفي حاجة إلي ثقافة تأئلف خير الذي انتجه الشرق والغرب وتنطوي على أفكار وأفكار وأفكار ؟ ويغير تلك الثقافة المركبة المؤتلفة لن نستطيع ان نبلغ بأدبنا إلي حيث نريد . ثم اليس من الحق اننا في حاجة إلي كثير من قوة الذهن حتى تتبلج أفكارنا وتبلور ، وحتي يكون امامنا دائما طائفة من المثل العليا الثابتة نصدر منها ونرد إليها ؟ نحن في حاجة إلى كل ذلك . ونحن في حاجة أيضا إلي قمع تلك الثمرة الخبيثة التي تستسلم للدعة والاطمئنان في الأدب والتي تفضي عن
الأمثلة العليا في سبيل التشفي والمهاترة . وهذه " الإقليمية " الخبيثة التي تحسب الأدب العربي قد انتهي إلي أرقي درجات التطور ما هي إلا روح الإقليمية الإنجليزية تبث فينا ، لأن بيننا كثيرا من أنصاف المتعلمين أولئك يشاكلون أمثالهم من إنجليز القرن التاسع عشر ، لولا أن هؤلاء كان يحدوهم الولاء الخالص لبلادهم . ثم أليس الحق أننا في حاجة إلي الثغره عن الغرض والهوي والتجرد مما تمليه حزازات الساعة ؟ إننا ما نزال في حاجة إلي الثقافة والنقد ، وأحسب أننا قد رأينا جانبا كريما منهما في حديثنا عن ذلك الناقد الكريم .
