الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 217الرجوع إلى "الثقافة"

٢ - الخطيب البغدادى

Share

وصفه في ثقافته ؛

اقترن كماله في الخلق والخلق بكماله في المعرفة والعلم ؛ بل لعله كان محظوظاً في علمه أكثر من أي شيء آخر . ومن حسن الحظ اننا أستطعنا ان نعرف مشايخة وأقرانه وأن نحصل علي أسماء الكتب التي قرأها عليهم ؛ فنحن نعتمد على ذلك للبحث عن ثقافته في نشأتها واكتمالها .

ذكرنا في سيرته جمعه بين الدرس للفقه والحديث . ولعلك تساءلت عن سبب تركه للفقه وأخذه للحديث ، بعد أن كان همه أن يصبح فقيها ؛ والجواب عن ذلك نراه في محبته للعلم ، واتصافه بأخلاق العالم . والمحدث يحيا حياة العالم ويتصف بمزاجه أكثر من الفقيه ، لأنه يقضي عمره في علمه بين كتبه وأساتذته وتلامذته . أما الفقيه فعليه أن يختلط بالناس ، فيفهم أخلاقهم وعاداتهم ، ليضع حداً لخصوماتهم

وكذلك ثم اتصاله بالحديث رغبة لا إجهاداً . وكفي المرء نجاحاً ان يطلق لمواهبه العنان ، فتسير حيث هي خليقة أن توجهه . على أن أخذه عن الفقهاء لم يذهب دون جدوي ، ومنهم خمسة اعلام لزمهم فأخذ منهم حسن الاستنباط ووضع المسائل وإيجاد حلول لها .

وتلقف عن غير المحدثين والفقهاء العلوم العربية الإسلامية الأخري .

أما الكتب التي قرأها فتعدد ما وصل إلينا تسميته منها ( ٤٧٤) كتاباً  بين مصنف فخم وسفر متوسط وجزء صغير ، وأول ما يوحي به النظر في هذه التسمية إن الخطيب يأخذ من كل من العلوم الإسلامية بطرف واسع ، فلم يهمل منها شيئاً ، ولو أنه فضل بعضها على بعض . فهو إذن

شارك في علوم العرب مشاركة هي من صفات الأدب في ذلك العصر . غير أن المادة التي طغت على غيرها هي التاريخ ، فقد قرأ منها أكثر من ثلث ما حدث به من الكتب وإذا أمعنا النظر في كتب التاريخ ألفينا معظمها في تاريخ المحدثين ونقد رجالهم ؛ ويدلنا ذلك على أنه كان يعد نفسه للتخصص في تاريخ الحديث . وكذلك تثبت أبو بكر في علوم العربية ، فعد أدبيا ، وقرأ على الفقهاء وعلماء الأصول فقوي استنباطه للمسائل . ثم استهواه علم الحديث ، وراق له أسلوبة في النقل والضبط ، وأراد التوثق فيه فأقبل على رجاله يتتبع تاريخهم ، فوجد في نفسه ميلا إلي ال التاريخ فأمعن في درسه ، وصار يستقصي كتب يضيفها إلي رواياته ، ويتتبع آثار من أجاد فيه واشتهر به .

تصنيفه لتاريخ بغداد ؛

هذه كانت ثقافته عام ٤١٩ ، الذي وقفنا عنده ، وغادرنا سيرته فيه . وتنقطع الأخبار عن حياته حتى سنة ٤٤٤ ، فماذا كان يعمل خلال خمس وعشرين سنة ؟ إن من تجهر بثقافة كثقافته ، وجد كجده ، لا ينعزل لغير سبب ، فهو  إنما ينقطع للتصنيف . ولكن أي كتاب يستغرق كل ذلك الأمد ، ويقتضي هذا الانقطاع إن لم يكن تاريخ مدينة بغداد ؟

والحق أن أبا بكر شعر حين طلبه للحديث بفراغ في تراجم المحدثين ؛ وهو خلوها من تاريخ للرجال الذين أموا بغداد ، أو نشأوا بها . وبغداد كانت محط الرجال ومجمع الرجال ؛ وقلما نبه عالم إلا فكر في الرحلة إليها ، والأخذ عن مشايخها . يضاف إلي ذلك أنها مركز الخلافة ، ومقر السلطنة ، و مثابة الحضارة ، ومرجع المسلمين .

أدرك الخطيب أن كثيرين قبله فكروا فيما فكر فيه ، فلم يوفقوا إلي ذلك التاريخ ، لما يقتضي من علم وسعى وانقطاع ، ولكنه عاد فحبب إليه تصنيف ذلك

التاريخ حبه الشديد لبغداد ورغبته في خدمة شهرتها ؛ وأسعفة في ذلك جمع طويل علي خير رجال العصر ، وقراءة لكتب لم تجتمع لغيره ، وهمة لا تعرف الراحة ولا تشعر بالنصب ؛ فانقطع إلي ذلك خمساً وعشرين سنة ، وإذا بتاريخ بغداد يخرج في حلة قشيبة واضح المرمي ، مستقيم النهج .

يقع تاريخ بغداد في ستة ومائة جزء أو ما يقارب عشرين مجلداً ، طبع منه أربعة عشر مجلداً ، ويبتدئ بوصف المدينة ، فيظهر من عظمتها ، ويرتضي المؤلف رواية أخبار غالت في تعداد مساجدها وحماماتها وسكنها ومساحتها القديمة ؛ فهو مقتنع لمحبته لها أنها خير البلدان . ثم ينتقل إلي ترجمة من سكن بغداد ، أو مربها ، من رجال السياسة والأدب والعلوم الدينية ، ولكنه لا يتوسع إلا حين البحث عن رجال الحديث ، فيتعمد استقصاء ما ورد عنهم . ويغلب نهج المحدثين على أبي بكر ، فلا يدع لنزعاته مجالا للظهور بقول ينسب إليه إنشاؤه ، أو رأي يؤخذ عنه ، اللهم إلا في نقد الرجال . يصف حوادث التاريخ كما وقعت ، فلا تظهر نفسه خلال أسطرها ، ولا يحسب لشعوره قيمة فيها ، حتى يخيل لمن قرأ التاريخ أن المؤلف لا يفكر ، ولا يسير غور الأشياء ؛ علي أن الأمر خلاف ذلك ، فالمصنف يختفي وراء النصوص ، ينتخب منها ما يبدو له كافي الحجة واسع الشرح ، حتى إذا رتبها وجه فكر القارئ إلي ما يريد ، دون أن يشعره بذلك .

وبعد ، فقد كان أثر تاريخ بغداد عند العلماء قوياً ، اتخذوه أصلا من أصول التاريخ ، يستشهدون به ، ويعتمدون على أقواله ، ويرفعون من منزلته .

أمنيته فى الحياة :

وشعر الخطيب بنجاحه في تاريخه ، فلم يأت علي

آخر صفحة منه حتى عقد العزم على الحج ليشكر ربه على توفيقه ؛ فخرج من بغداد سنة ٤٤٤ عن طريق الشام ، ويدخل مكة ، فيقضي فريضة الحج ، ويتجه إلي زمزم ليشرب منه ثلاث شربات ، ويسأل الله تعالى ثلاث حاجات ، أخذاً بقول رسول الله : ماء زمزم لما شرب له . فالحاجة الأولى : أن يحدث بتاريخ بغداد ببغداد والثانية ؛ أن يملى الحديث بجامع المنصور ؛ والثالثة : أن يدفن عند قبر بشر الحافي .

تلك هي الحاجات الثلاث التي ملكت على الخطيب نفسه ، فصورت لنا أمنيته في الحياة ، وإذا به يفكر في علمه ، ويرغب في نشره ؛ ولكنه متعلق ببغداد وبحلفائها وجموعها ، فلا يتمنى لقراءته لتاريخ بغداد إلا فيها ، ولا يرجو لرواياته في الحديث أن تتلي إلا في جامع المنصور منها ، حيث أخذ عن خير شيوخه . وحبه لبغداد وجامع المنصور يرمز بطرف خفي إلي حبه للعلم ، فبغداد كانت ميدانه ومسرحه ، يجتمع فيها خير أهله فيتبارون بمعارفهم وحفظهم وتصانيفهم ؛  وجامع المنصور منها تجتمع فيه خير حلقات الحديث .

أحب الخطيب العلم ، وأحب به بغداد وجامع المنصور منها ، فدعا الله أن يهيء له بهما قراءة تاريخه وأحاديثه ثم لم ينس حين اتجاهه بالدعاء إلي الله تعالى انه ميت فابتهل إليه جل وعلا بأن يهيء له جواراً حسنا بعد وفاته ، حتى إذا بعث الناس من قبورهم يوم القيامة ، خرج من قبره فوقع نظره على بشر بن الحارث الحافي ، وهو رجل لم تدنس نفسه الدنيا ، وفي كل من الحاجات نبل وتقى وعفة !

ولبلوغه تلك الحاجات حديث ، فلنستمع إلي بعضه : عاد إلي بغداد فعز عليه أن يسفك ماء وجهه عند أقرانه من أصحاب المراتب ليتوسطوا له عند الخليفة بالسماح له

بإملاء الحديث بجامع المنصور ، فإذا به يجد في سوق الوراقين وهو يقلب الكتب ، جزء حديث فيه ذكر لاطلاع الخليفة القائم بأمر الله وسماعه له ، وفتح الله على أبي بكر ، فأخذ الجزء ومضي إلي دار الخلافة ، وطلب الإذن في قراءته على الخليفة . فقال الخليفة : إن أبا بكر رجل كثير الحديث ، وليس له في السماع من حاجة ، ولعل له حاجة أراد أن يتوصل إليها بذلك ، فسلوه ما حاجته فسئل فقال : حاجتي أن يؤذن لي أن أملي بجامع المنصور . فتقدم الخليفة إلي نقيب النقباء بالإذن له في ذلك . فحضر النقيب إلي جامع المنصور ، واجتمع الناس وأملي الخطيب الحديث ، وتم له ما دعا الله به في ذلك ، دون أن يتخذ واسطة غير العلم ، وأي عار في أن يتخذ المرء أعز شئ عنده شفيعاً ؟ !

أثره في العلوم الاسلامية ؛

وينقطع الخطيب إلي التصنيف بجد متواصل وهمة عالية ورغبة شديدة ؛ وكانت مادة تصانيفة مجهزة ، فقد وضع لنفسه منهجاً في التأليف لم يخطئه : عرف حين جمعه للحديث ودرسه عن المشايخ نواحي النقص في العلوم الإسلامية ، فعزم على سد هذا الخلل ، يبتدئ بما يحب أن يبدأ به , وهو تاريخ بغداد ، وينتقل إلي ما يتبعه ، وهو أصول علم الحديث وطرق نقله وإيضاح أسماء رجاله .

رأي الخطيب من سبقه من المحدثين قد أوجزوا البحث عن قواعد التحديث ، ووضعوا كتباً مجملة عمموا أحكامها ، واختصروا فصولها وبقيت مسائل عديدة وقع الاختلاف فيها ، وسري الالتباس والشك إليها فعرف أن خير خدمة للعلم يؤديها أن يفصل في كتب مفردة ما أوجزوه بكتاب جامع ، فطفق يجمع مواد بحثه منذ كان يدرس ، وحين أنشأ يكتب تاريخ بغداد ؛ ولما عاد من الحج ، عمد إلي إخراج هذه المواد وتصنيفها . والطريقة التي اتبعها استنطاق النصوص أو إيضاح ما ورد فيها ، وتسوية الخلاف الواقع

بينها ؛ وذلك بأن يبوبها تبويباً ، هو من خير ما وجدناه فيما بلغنا من كتب العرب ، ينبيء عن تعمق وحسن فهم للأشياء ، ثم يورد النصوص بعضها تلو بعض ، تنطق بما وصل إليه المؤلف بعد الجهد والتفكير والعلم الوثيق ؛ يتخلل كل ذلك جمل منه تجلب الفكر إلي ما قد لا يدركه القارئ من النصوص نفسها . علي أن المؤلف لا يحب الظهور كثيراً ، وكأنه يريد أن يتم الاستنتاج والاستنباط من النصوص نفسها . وهو يبدأ كتابه بذكر الغاية من تأليفه ؛ ويلخص موضوعه بلغة بليغة تحسن معانيها ، فصيحة بطرافه ترا كيبها وحسن اختيار ألفاظها . وإذا انتقل من فصل أفهم القارئ الشوط الذي قطعه ، والمكان الذي وصل إليه ، والطريق الذي يسلكه غير أنه مقل في ذلك إقلاله من التحليل والتعليل .

وضع الخطيب أصول علم الحديث بطريقة تشابه أصول علم التاريخ المعاصر ، ووفق في ذلك إلي أبعد حد ، ولعل واضعي أصول التاريخ اليوم لم يفصلوا في بعض الأبواب تفصيله ، ولم يستقصوا استقصاءه ، غير أن كتبه في ذلك مجهولة ، لم تنشر بالطباعة ولم ينوه بها .

وصنف الخطيب في الدفاع عن مذهب الشافعي كتباً أودعها حسن جدله وقوة بحثه ، وكان في مجمل تصانيفه مجوداً أكثر ما يستطيع أن يجود ؛ ذلك إلي كثرة مصنفاته فقد بلغت تسعة وسبعين مصنفاً في نحو سبعين مجلداً ، وهذا عدد لا يحلم به إلا من صحت عزيمته وعظم علمه وحسن نهجه .

( له بقية )

اشترك في نشرتنا البريدية