الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 189الرجوع إلى "الثقافة"

٢ - الذاتية والموضوعية، في تذوق الفن

Share

تحدثنا في المقال الماضي عما كشفت عنه التجربة السيكلوجية من أن فريقا من الناس يعجبون - أو لا يعجبون - بالعمل الفني لما يثيره في أذهانهم من روابط وذكريات ، وفريقا آخر يبنون ملاحظاتهم على العمل الفني علي أساس ما ينبهه في طبائعهم النفسانية من غرائز وانفعالات .

٣ - وهناك صنف ثالث يتكلمون عن الفن كأنما ينسبون لكل ما يرون نوعا من الشخصية ؛ يقول احد الأطفال : " ما أكثر ما يبدو هذا الابريق سمينا مرحا ، لكأنه يضحك منك " . وهم يتحدثون عن الألوان كأن لها صفات إنسانية : " فهذا اللون الأرجواني صاخب لعوب " وهذا اللون الأحمر الفاتح حلو رقيق "

وشجرة الصفصاف عند أمثال هذه الطبائع ) الرومانتيكية ( ليست صفصافا ، ولكنها " عروس غابة باكية " ، وإذا نظروا إلي البحر بدا لهم " غضبان هائجا " وإذا تأملوا المنارات تصوروها " سامة إلى العلا في روعة وجلال " : وهم يغتبطون برؤية طيور الماء طائرة لانهم يستطيعون ان يحسوا في ذواتهم أحاسيس انقضاضها الرشيق ، او توازنها الرفيق . والظاهر أن هؤلاء تبدو لهم الأشياء كأنما

تتضمن تجربة شخصية يستطيعون هم أن يساهموا فيها بنوع موجب من المشاركة الوجدانية : راقب جماعة من النظارة يشهدون القيام بحركة جسمية صعبة ، يحدقون بأبصارهم نحو ) بهلوان ( يتأرجح فوق حبل ، أو لاعب بليارد يرسل الكرة إلى الجيب ، راقب النظارة تجدهم يمسكون بأنفاسهم ويحركون أجسامهم ، كأن كل واحد

منهم هو البهلوان نفسه يميل بالعصا ، او كأنه الكرة المتدحرجة نفسها تمزق نحو الجيب ؛ وإذا عزفت الموسيقى نغمة راقصة اهتزت لها أكتافهم في حركة موحدة متساوقة ؛ وتراهم في دار السينما يقومون بحركة فزعة إذ يرون الشخص الشرير في الرواية ينقض على النجمة الحسناء بسوطه ، أو يعذب أخاها الصغير بحديدة محماة ؛

وتسمعهم بعد الانتهاء يشرحون لك كيف خيل إليهم أنهم نقلوا إلي شريط الخيالة ، وأحسوا آلام الضرب والإحراق فوق جلودهم الرقيقة ؛ وتري بعضهم ، حتى في بسائط الأشياء ، تتكيف نفوسهم مما ينظرون إليه ؛ فالخط المستقيم الرأسي يجعلهم يقفون وقفة مستقيمة ، ومنظر الخط المنحنى يجعلهم ينحنون او يحسون كانهم على وشك الوقوع ، وشكل الحلزونيات الملتوية يخلق فيهم إحساسا بالضعف والغثيان .

هذه التجربة - التي تزداد عند بعض الناس إلي حد المرض - مقصورة في الغالب على عدد محدود من الأشخاص ، ولكنها - كسابقتها - قامت على أساسها نظرية في تذوق الفن تسعى في اصطلاح القوم Empatihy أي " الاتحاد الفني ومعناه أن تحس نفسك والصورة التي تراها - أو الموسيقي التي تسمعها - شيئا واحدا .

4 - الفريق الأخير - وهو أندر الأنواع - يتخذ نحو الأعمال الفنية موقفا ذهنيا نقديا ، اكثر منه نفسيا انفعاليا ؛ وكثيرا ما يقف أفراده أمام الأشياء الجميلة في صمت وعجب ، على حين يغرق غيرهم في إظهار الثناء والاعجاب ؛ وإذا آثروا لونا آثروه على أساس خاصيته

باعتباره لونا ، لا على أساس ما يبعثه من روابط أو يحدثه من آثار ، فهم يحبون زرقة اللازورد ، أو حمرة الشقيق ، أو بياض البرد لأن كل أولئك ألوان صافية خالصة . ويبدو في اوضح الأمثلة ان لديهم مقياسا لما ينبغي ان

يكون عليه كل لون ، وأنهم يحكمون على كل صبغة تعرض عليهم تبعا لانطباقها على ذلك المعيار الضمني او تقصيرها عنه ، فتسمعهم يقولون " هذا الاخضر تمازجه صفرة كثيرة تمنع أن يكون حسنا في بابه " وهذا الأحمر مقبول لأنه مشبع ، أما الآخر فيكاد يكون أسمر " . وكثيرا ما تراهم في الصور وفي الانتاج الادبي يتجاوزون الموضوع والعنوان ، ويقصرون همهم على نظام العمل وتأليفه ، وعلى الأصباغ وانسجامها ، والظل والنور ، والتنافر والتآلف ، وما إلي ذلك من نواحي النقد الموضوعي .

هذه - إذا - أربعة الأنواع التي انجلت عنها التجارب الأولى في تذوق الفن . والثلاثة الأولى منها - كما رأيت - ذاتية بالمعنى الذي حددناه في المقال الأول . والأخير وحده هو الفريق الموضوعي ولقد اجريت بعد ذلك تجارب - على مواد أكثر تعقيدا - أظهرت أن هذه الأنواع ليست محددة منفصلة ، وان كل واحد من هذه الاتجاهات الأربعة موجود في الحقيقة فينا جميعا وإنما تتفاوت حسب مزاجنا ، ونوع ما يعرض علينا ،

وحسب العوامل التقليدية التي اشتركت في تكوين ذوقنا ؛ فالفرق - إذا - فرق درجة لا فرق نوع . وليس هناك من شك في ان تقدم البحث الحديث سيضطرنا في النهاية إلى إعادة تنظيم التقسيم الأصلي في قاعدته وفي تفاصيله . ولكننا نظفر مما عمل من البحوث إلى الآن بنتيجة رئيسية لا ريب فيها ، تلك هي : ان غالبية الناس إذا حكموا - أو طلب إليهم أن يحكموا على جمال شئ ما - فقلما يفكرون في الواقع في جماله مطلقا ، وان

أحكامهم التي تصدر عنها ليست في الأعم الأغلب موضوعية ولكنها ذاتية ، ويبدو ان عوامل لا حصر لها تؤثر في اعتباراتنا الذوقية . وإذا كنا هكذا متأثرين في حياتنا الشعورية بعوامل متنوعة فما أعظم ما تستهدف له أحكامنا

من تحيز إذا أثرت فينا هذه العوامل تأثيرا لا شعوريا !

لعل الاعتبارات السابقة هي الأسس التي بني عليها كثير من النقاد وعلماء النفس رأيهم في ان الجمال ذاتي محض ، وان التفضيل الفني ليس إلا مجرد ثمرة لذوق شخصي خاص يختلف حسب اختلاف الفرد والعصر فأزياء السنة الماضية تعتبر لقي في هذا العام ، ومباني العصور الوسطى تعتبر فذي في عيون بعض المحدثين

وأدب القرون الماضية جناية على الأدب الحديث . والأمثلة على هذا تتجدد امامنا كل يوم في صورة ناطقة ، تصادفنا في صحفنا وأسمارنا ومناقشاتنا ، وما يطلع علينا كبار النقاد وصغارهم بين حين وآخر . وعلي هذا الرأي - إذا تستطيع أن تقول إن كل شئ في الفن نسبي ، فليس هناك شئ حسن أو قبيح ، ولكن التفكير هو الذي يحسن أو يقبح

ولكن حينا اطرحنا الروابط والذكريات جانبا ، ونبذنا الأوهام واللوازم التي تجلب الغموض إلى حاسة الجمال عندنا ؛ حينا جردنا أنفسنا تماما من كل انفعال شخصي ومصلحة شخصية ، ونفضنا يدنا من مشاغل الحياة اليومية ومطالبها ، فهل يبقى بعد ذلك أى أساس متين لتفضيل شئ على آخر ؟ هل هناك أي شئ يمكن أن

يحكم كل شخص بأنه جميل في ذاته ولذاته ؟ وهل هناك أي شئ يمكن ان يجده كل شخص قبيحا ، لا فرق بين متمدن أو همجي ، وبالغ أو طفل ، وقديم او محدث

ذلك سؤال يجيب عليه " برت " أستاذ علم النفس في جامعة لندن بالأيجاب ، مستندا إلي تجارب اجراها ، ودراسات قام بها ، من ذلك أنه جمع مجموعة من خمسين بطاقة مصورة ، انتظمت نسخا من صور بعض المشاهير الكلاسيكيين ، وصور المصورين ليسوا من الصف الاول ، وهكذا إلى أبسط أنواع البطاقات التي ترسل في عيد الميلاد

والتي استطاع العثور عليها في دكاكين الأحياء الفقيرة ؛ وكان محور التجربة ان يسأل عددا كبيرا من الناس ترتيب البطاقات الخمسين على أساس ما بينها من تفاضل

وقد عرض المجموعة أولا على فنانين ونقاد معروفين لكى يحصل منهم على معيار الموازنة ، فاحتج معظمهم أول الأمر ان مثل هذا المعيار مستحيل ، فمضو الأكاديمية الملكية يعلن أن الناقد الحديث سيقلب ترتيبه رأسا علي عقب ، وكلاهما يؤكد أن محاولة الاتفاق ميئوس منها ومع ذلك جاء ترتيبهما في معظم الأحوال متطابقا

إلي درجة ادهشت صاحب البحث ) إذ بلغ معامل الارتباط فيه ٩ و ٠(1) ، وبدا واضحا للعيان أن فروق هؤلاء ، في ذوقهم وحكمهم كما ظهر من ترتيبهم الصور - اقل كثيرا مما تصوره خلافاتهم ومناقشاتهم الحادة و النتيجة التي يجد الباحث نفسه مسوقا إليها

- كما يقول )برت ( - هي أن هناك شيئا أساسيا يسير الاختيار العام عند هؤلاء الأشخاص . بالرغم من ان نظرياتهم ووجهات تفكيرهم الخاصة قد تحدث اختلافات يسيرة في التفاصيل . وإذا كانت هذه النتيجة تتعارض وآراء كثير من النقاد الحديثين فإنه يمكن

تأييدها بالاقتباس من دراسات بعض مشاهير المفكرين وقد اختار " برت " للتمثيل لهذه الدراسات فقرة من كتابات (Burke)تحتوي نتيجة رائعة وصل إليها من بحثه في " الفاخر والجميل ( . إن " برك " بالرغم من اعترافه ان احكام الخبراء على الجمال تختلف كما يختلف أحكام المفكرين على مسائل الفلسفة أو الفضيلة يصر على القول بأننا - على العموم - نلاحظ أن الخلاف

الموجود بين الناس في مسائل الذوق أقل من خلافهم على المسائل التي تعتمد علي المنطق المجرد . وإن الناس ليتفقون على جودة وصف في كتابة ) فرجيل ( أكثر مما يتفقون على صحة نظرية من نظريات ارسطو " أو بطلانها !

ولقد عرض " برت " صوره الخمسين على الأطفال في أعمار مختلفة ، فوجد بالطبع أن اثر العوامل غير الأساسية ) أي الخارجة عن طبيعة الفن ( اوضح وأقوى منه عند النقاد والخبراء ؛ فقد بدأ موضوع الصورة - مثلا - يلعب دورا غاية في الأهمية ، ولكن تنوع الموضوعات

التي اختارها جعل تأثيرها الخاص يوازن بعضه بعضا ويلغيه ، وتبقى الاعتبارات الفنية . وهنا أيضا جاءت عاملات الارتباط كلها موجبة . وذلك عند علماء الإحصاء له دلالته . وإذا فيبدو أن هناك عاملا واحدا

عاما تقوم عليه الأحكام الفنية عند الجميع ، وإليه يرجع ما بينها من اتفاق وارتباط وهذا العامل هو محور الاتجاه الموضوعي في تذوق الفن . ولعلنا نعود إلي بحث هذا العامل في فرصة أخري

من هذا نستطيع أن نقول إن هناك إحساسا عاما بالجمال وقد ثبت من دراسات " برت ، ان هذا الا حساس - على رغم العوامل الأخرى - يحدث فينا جميعا اثرا متشابها . وإذا فليس الجمال متوقفا كل التوقف على المصلحة أو الهوي الشخصي ، ويبدو ان فيلسوف

اليوم قد يعود في النهاية إلي الرأي القديم الذي كان يقول إن الجمال موضوعي ، أو - على الأقل - إن أحكام الجمال يمكن أن تكون عامة الصدق . ويظن برت ، ان عالم النفس لابد صائر إلي هذا الرأي ، فنحن نري الجمال

لأنه هناك ليري ، وليس الجمال شيئا يخترعه أو نتصوره بأنفسنا ، إنه شئ تحسه وتجده ، إنه يقيم في الموضوع الجميل .

اشترك في نشرتنا البريدية