حدثناك في مقال سابقا من رأي إفلاطون في الشعر والشعراء ، وسقتنا لك بعض الاراء التي ضمنها ارسطو كتابه عن فن الشعر " وقد حاولنا ان نقدر رأيه في نشأة الأدب ، ورأيه في أصل الشعر . وقلنا إنه كان ري أن الشعر ، كسائر الفنون الجميلة ، يرتكن على التقليد ونحن مقبلون في مقالنا هذا على فئة أخري من آراء أرسطو يتصل أغلبها بأدب المسرح
وقد وازن ارسطو بين التاريخ وبين الشعر ، فذهب إلي ان المؤرخ يصف الحوادث التي حدثت فعلا ، لكن الشاعر يصف نوعا من الحوادث يمكن أن يحدث
ولذلك كان الشعر أكثر مجالا للتفلسف من التاريخ والشاعري يستطيع ان يثبت من الاحكام ما يكون عاما بأتلف العالم بأجمعه ؛ أما المؤرخ فهو محدود بالمفردات والأمثلة التي يعالج . وظيفة الشاعري أن يعبر عما هو محتمل الحدوث ، لكن وظيفة المؤرخ ان يعبر عما حدث . المؤرخ يقص عليك ما حدث بالفعل ، لكن الشاعر ( وبخاصة الشاعر المسرحي ) يتخيل سلسلة من الأحوال يصنع فيها شخصيته الروائية ثم يظهرك على ما تفعل . الفرق بين التاريخ والشعر إذا هو الفرق بين الحقيقة الضيقة وبين الخيال الحر الطليق
على أن أرسطو كان أبعد النقاد عن مجافاة الحقيقة مهما يحيفها الخيال ؛ فهو يعلم ان الشعر في نفسه هبة ، وان الموهوبين من الشعراء بهتاجهم مس من الجنون لذلك فهو ينصح لهم بأن روا الرواية المسرحية رأي الخيال قبل أن يقدموا على تأليفها ، والا بدعوا فيها أجزاء
لا تستوي ووحدتها ، بل لقد تصح لهم ايضا ان يحسوا بما في شعرهم وما في لغتهم من عواطف وإحساسات بكل ذلك حاول ارسطو الا يخرج بالرواية المسرحية عن دائرة الإمكان . والحق لقد أثرت كل هذه الآراء في التأليف المسرحي ، وبخاصة في تاريخ المأساة .
والمأساة قد استهلكت كثيرا من جهد أرسطو لأنها أصابت من عنابته أكثر ما نقل إلينا من كتابه عن " فن الشعر " وقد هلهل البحث فيها فذكر كر اصلها وتكوينها وموضوعاتها . وقد اتخذت أراؤه جميعا معايير طبقت على أدب المسرح . وضرب أرسطو المأساة مثلا النظرية التقليد في الفن ، فقال : إنها محاكاة لعمل جدى من اهمال الانسان ، وينبغي ان تكون عملا موحد كاملا ، وان تكون لغتها شائقة تمتاز بالنغم المنسق والوزن الراتب . والأجزاء التي تتكون منها المأساة ستة هي : القصة والأشخاص ، ثم اللغة والفكر ، ثم المنظر والنسق ؛ وينبغي أن تأتلف هذه الآجزاء جميعا حتى ينتج منها كل واحد هو الذي نسميه " رواية مسرحية "
وجدير بنا أن نقف وقفة عند تعريفه المأساة حين يقول : " إنها محاكاة لعمل جدى من اهمال الانسان " . فلقد اهتم ارسطو بالقصة ، أو الخرافة الى تنطوي عليها المأساة ، أكثر من اهتمامه بسائر أجزائها . لقد اهتم بالعمل واتخذه غرضا من تأليف الرواية ، وجعل للقصة السكان الأول في تقديره ، لأنه كان ري أن المأساة في صميمها ليست تألفا للشخصيات الروائية ؛ بل هي تألف للأفعال التى تبدر من هذه الشخصيات . وينتج الآلم واللذة من تصرفات هؤلاء ، ويتعاورهم النعيم والشفاء تبعا لأعمالهم . فأنت تستطيع أن تأتي بسلسلة من الاحاديث ، وأن تبدع بعض المناظر الأخاذة ، وتوقع بعض النغم الشائق ، لكن كل ذلك لن يكون رواية
مسرحية حتى تكون هناك قصة محبوكة تعالج عملا إنسانيا موحدا وتأخذ بأطراف الأحاديث وتؤلف بين الأنغام والألحان والأخيلة .
وكذلك كانت المأساة الأغريقية في عصرها الذهبي ؛ لقد كانت تنطوى على ألوان من العمل تستثير الشفقة وتهتاج الخوف. كانت أعمالا تتسلسل الواحدة منها بعد الأخرى، كل واحدة نتيجة لسابقتها ومقدمة للاحقتها ، أو قل إنها كانت أحداثاً يأخذ بعضها بتلابيب بعض وهى إذ تحدث تحدث فجأة ، لا يتوقعها يطل المأساة ولا الناظر إليها . فهي تبدو مجيبة رائعة على الرغم من أن وراءها قصة تتألقها . هذه الأعمال المزعجة المروعة والأحداث المفاجئة الرائعة كانت من المأساة الاغريقية لحمتها وسداها. ولكن أى أعمال تلك التي كان يتحدث عنها أرسطو ؟ لقد رأى أن المأساة يجب أن تدور حول شقاء الانسان فوق ظهر الأرض، فحياة الإنسان غرض للفجائع والنكبات ، تعطف به من عين وعن شمال ، لا يدرى أن ملاكه في الخطوة التى يخطو وليست هذه المصائب بالرائعة ولا هي بمصائب الفجاءة إلا إذا قتل عدو عدواً أو إذا كان خصم الخصم ؛ بل هى تستدر الرحمة حقاً ، وتستثير الفزع حقاً إذا وقعت بين ذوى الأصلاب والأرحام. فأنت لا ترى شيئاً في كيد الأعداء الأعداد ، لكنك تحس العطف الأليم إذا رأيت ولداً يكيد لأبيه ، أو أخا يعذب أخاء ، أو ابنا يقتل أمه ؛ وكل هذه حالات فاجعة مثلت على المسرح الاغريقي، وعالجها سوفوكليز في مسرحياته الخالدة. فقد كانت مآسي الاغريق تتناول الأسرة من إخوة وأبناء وآباء. وكان للحزازات بينهم والحوادث القتل والانتقام التي تسوقهم إليها الآلهة وقع فاجع في النفس وهذا الاحساس نفسه هو ما قصد إليه أرسطو حينها تحدث عن ذلك الخليط من الرحمة والفزع الذى تهيجه
المأساة ، وحينما نصح اصحاب المآسي أن يلتزموا مثل هذا الأسلوب في تصوير الفجائع .
وإذا كان أرسطو قد تأثر بسوفوكليز وغيره من مؤلف الفجائع ، فانه لم يعدم أن ينتحل سيباً يملل به اللذة التي تحس بها حينما تشهد تلك المصائب، ولقد ذكرت لك أنه قال في موضع من كتابه في من الشعر : « إنه على الرغم من أن الواقع نفسه قد يكون مؤلماً للناظر إليه ، إلا أننا نتهج إذ ترى أكثر الأشياء اتصالاً بالواقع ممثلة بوسيلة من وسائل الفن : فنحن نتهج مثلا إذا رأينا صوراً لأحط أنواع الحيوان ، أو مناظر تمثل جثث الموتى » . ولقد برر مشاهدة الفجائع النكرة بسبب مثل هذا فقد ذهب إلى أن هذه المآسي تحدث في نفس الناظر نوعاً من التنفيس (Catharsis) ، فالناظر إلى المأساة يحس بأن شعوره قد تلقى ، وأن دقله قد تجلى . فالتفجع هنده كالدواء الذى يتعاطاء المريض ليطرد الأوضار من أحشاء. وهذا في نفسه صحيح ، فلقد ذهب النفسيون المدثون إلى أن في خافية النفس أنواعاً من المقد ما تزال تتشابك حتى يهيأ لها أن تنحل ؟ وهى تتحل إما يعمل عنيف يصدر منها أو باستملاء تسمو إليه ، أو بذلك الاحساس الهادي الرزين الذي يدب في أغوار النفس بعد أن يعصف بها حزن محض أو يحر فيها ألم دفين : فان النفس اتصفو بعد ذلك فتبدو مجلوة بائعة كنفس الطفل الوليد.
ذلك رأي ارسطو وهو رأي تأثر فيه بالفلاسفة اليونان الذين بالجوا النفس ، وقد كان أبولو عند الأغريق الأقدمين إله والشعر وإله الطب في وقت معا . وقد ربط الفلاسفة الأقدمون بين الشعر وبين الطب ، واستكشفوا في نفس الانسان الوانا من الميول حاولوا دائما ان يوازنوا بينها . وقد رأوا ان الموسيقى والغناء
والشعر من بين العوامل التي محدث هذا الاتزان . لذلك كانت الفاجعة مظهرا من مظاهر الفن نقبل عليها ونبتهج لمشاهدتها ، ونننعم النظر إلي ما تنطوي عليه ، من الطمع العاصف والظلم الجائح والحزن العميق ، وظهر فيها عند مشاهدة العقل ، والقادة وهم يتردون في تلك الهوة السحيقة التي لم تستكشف بعد . مثل هذه الشاهد مصحوبة بالإغاني والألحان تعدل من ميولنا وتوازن بين امر جنا ، وتحضنا التفكير فيما هو خارج عن النفس ، فتستل السخائم التي تكمن في أعماق النفس .
ثم إن أرسطو تحدث عن التشخيص الروائى ، فعالج بطل المأساة، لكنه ربط بين وظيفة البطل وبين وظيفة القصة الروائية ، فقد كلا منهما جزءا يكمل الآخر. والبطل عنده مسير بقوة تكاد تخفى ، وهو رجل يمتاز دائماً بالفضيلة والقوة وحب المجد - هو يمتاز بنواح من العظمة ، لكن بين نواحيه خللا واحدا هو الذي يسلمه لحتفة. إنه خلل في تقدير الأشياء، وفي الحكم على كنه الأمور ، وفي وضع الدقة فى الرجال ، وهو خلل يكون ناحية الضعف فيه ويسبب له الفاجعة . والبطل بعد ذلك يجهل المصير الذي ينساق إليه ، فإن أحواله نفسها لتدفع به إلى أن يقترف الجرعة وهو جاهل ، كما دفعت بأوديب. وهو كأرديب أيضاً يكتشف أي خطأ ارتكب ، ويكون قد قتل أباء وتزوج من أمه ، فتكون ساعة من ساعات الندم اللاذع تنتهى به إلى الفناء
كان هذا اسلوب المسرحية عند كتاب الفجائع في عصر اثينا الذهبي ؛ وهو الاسلوب الذي علق عليه ارسطو في كتابه عن " فن الشعر " وما زال لهذه الفكرة أكبر سلطان على منتجات الادب المسرحي . انت تستطيع ان تراها واضحة في مأمي شكسبير ، وانت تستطيع
ان تلمح اكتشاف الخطأ في كثير من فجائع العصر الحديث . ثم إن التحول المفاجيء ، من اليسر إلى العسر ، ومن النعمة إلي النقمة ، ومن السراء إلي الضراء ، كان داعما أساسا من أسس المآسي ؛ وإنك لتراء في مخلفات الأدب الأوربي ، ونراء أيضا فيما بعرض علينا من أفلام السنما ، وفيما ينقل إلينا من الأدب السرحي الحديث .
لكن ارسطو كناقد لم يكتف بما ذكرت لك من آراء تتصل في صميمها بالمسرح . فإنه لم يعالج المأساة إلا لأنها كانت لونا من الوان الشعر . لذلك اصطحبت اراؤه عن النقد المسرحي بأراء اخري لها قيمتها في النقد الأدبى العام .
لقد ذهب أرسطو إلى أن الشيء أو الكائن الحى لا يكون جميلاً إلا إذا امتاز بوحدة خاصة تنسق بين أجزائه ، فينبغى لكل ما هو جميل أن يكون له مبدأ ووسط ونهاية ، وينبغى كذلك ألا يكون دقيق الحجم بحيث يبلغ حداً كبيراً من التفاهة ، ولا عظيم الحجم بحيث لا تستطيع العين أن تأخذ بمبدئه ونهايته. وعلى ذلك فالرواية المسرحية يجب أن تكون طويلة لحد ما، لكنها يجب ألا تكون بالغة الطول حتى تنساها الذاكرة ، كذلك ينبغي أن يكون للعمل المسرحى وحدة خاصة مهما تعددت أحداث الرواية وأشخاصها
تقول إن هذه الفكرة التي طبقها أرسطو على الرواية المسرحية أثرت في أساليب النقد العام عند الفريج ؛ ولملها قد أثرت أيضاً في تاريخ النقد عند العرب . ذلك بأن نقاداً من الجانبين قد قاموا يتكلمون عن علم الجمال بلغة تشبه لغة أرسطو ، فقال منهم قوم : إن القصيدة يجب أن تمتاز بوحدة خاصة ، وإن الخطبة أيضاً يجب أن ترى فيها عناصر واحدة تأخذ عبدتها ومنهاها. فهما اختلفت
أبيات القصيدة الواحدة ، ومهما تبابنت أجزاء الخطبة الواحدة فيجب ان يشعر القارئ او السامع ان كل بيت يقال او كل فرة تلقي إنما هي جزء متتمم لهذه الوحدة التي يحاولها الشاعري أو الخطيب . كل بيت في القصيدة يجب أن يكون كاللبنة في البناء الشامخ ، إذا انتزع منها ادي ذلك إلي انهيار القصيدة بأسرها .
ويؤمن علماء الجمال في العصر الحديث على ذلك الذى ذهب إليه أرسطو . فإن جهرتهم على أن الشيء الجميل يجب أن يتوفر فيه عنصران : أولها عنصر الوحدة والائتلاف ، وثانيهما عنصر التباين والاختلاف . وإذا أنت نظرت للشيء الجميل راعك منه أن له أجزاء متباينة ، لكنك تحس مع ذلك أن هذا التباين يؤدى إلى نسق خاص . خذ الحديقة الغناء وامش في أرجائها ، أفلست تحس باختلاف الزهر بعد الزهر وبتباين الروائح والمناظر والأشجار ؟ ثم انظر إليها بعد ذلك نظرة عاجلة من بناء عالى : أفلا تحس بأن كل هذه الاختلافات قد توحدت فى هذه الصورة المائلة الموحدة ؟ كذلك قل من قصيدة الشعر أو الرواية المسرحية أو الخطبة العصماء أو أى إنتاج من آيات الفن
وبعد فهذه جملة من آراء أرسطو، حاولنا أن نزيجها إليك. وقد رأيت أننا لم ننتخب منها إلا ما رأينا أنه يمت بصلات نحو الأدب العربي . ولعل أصول النقد عندنا في حاجة إلى التنشئة ، وليس أجدى علينا من مراجعة الآراء التي ذهب إليها بعض جبارة الفكر من أمثال أرسطو . نحن في حاجة إلى اتخاذ هذه الآراء في فن الشعر كما اتخذنا آراءه في علم المنطق وفي الفلسفة وفي علم الخطابة
( بنى سويف )

