الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 927الرجوع إلى "الرسالة"

٢ - الفارابى، فى العالم الإسلامى وفى أوربا، بمناسبة مرور ألف عام على وفاته

Share

لا ريب أن قيام الفارابي بشرح الكتب اليونانية الطارئة قد  أدى خدمة جلى لليقظة العربية، ولو لم يقم هو ومن حذا حذوه  بشرح غوامض الفلسفة التى وفدت على بلاد العرب من دون  سابق ألفة لما نهضت صروح تلك الحركة الفكرية ولم نثبت فى  هذه البيئة الجديدة روحيا وماديا وإذن فإن شرحه للتراث اليونانى   كان تلبية لنداء الحاجة التى اقتضتها الظروف القاهرة ولعله شغل  بالشرح عن الابتكار والإبداع على أن الشرح لا ينقص من  مكانته، ولا أجد فرق كبير بين الشارح والمؤلف، فإن الأول  إذا فهم أهدافه الثانى وعرف أفكاره فقد حلق فى نفس الأجواء  التى يبسط المبتدع جناحيه فيها وتابعه فى طيرانه وكان معه فى  مستوى واحد إلا أن المبتدع يتقدم فيتلوه الشارح ولقد كانت  بركة الفارابي شاملة غير المسلمين والعرب فإن الأمم الأعجمية عندما  نهضت واستشرفت معالم الفلسفة اليونانية وجدت فى الفارابى  وتلاميذه من يأخذ بيدها إلى الصواب فى متاهة أفكار الفلاسفة،  فلذلك عمدت إلى آثاره فترجمتها إلى لغاتها قال (جورج سارتون

sarton)فى كتابة المدخل إلى تاريخ العلمintroduction to the  history of scienece ترجم إلى اللغة اللاتينية   (جون john)  و   (جرارد  oerard of gremood) كتاب إحصاء العلوم للفارابى   (وهو من  النصف الأول للقرن العاشر الميلادى) 1) ( وقال   (سارتون)  إن  كتاب   (المبادئ)  الباحث فى الفلسفة والسياسة الذى ألفه  الفارابى فى النصف الأول من القرن العاشر فى دمشق   (عام ٩٤٢ م)   وراجعه وأعاد النظر فيه فى القاهرة بين عامى   (٩٤٨ - ٩٤٩ م)

قد ترجم إلى العبرية عام ١٢٤٨ م تحت عنوان hathalot hs-nimaza  of halite iyyimوترجمها إلى العبرية (موسى بن تبون noses i. tibbon  الذى ولد فى مرسيليا وكان قد ترجم إلى العبرية جملة كتب عربية  لابن رشد والفارابى وغريهما وكان من أعظم المترجمين فى العصور  الوسطى وكان رياضيا وطبيبا وفلكيا (2)وقال سارتونsarton  إن إسحاق البلاغ اليهودىlsaac abalog كان فيلسوفا ومترجما من  العربية إلى العبرية وقد ترعرع فى شمال إسبانيا فى نهاية القرن  الثالث عشر الميلادى وبداية القرن الرابع عشر، وقد سعى ليوفق  بين علم اللاهوت اليهودى والثقافة الأرسطاطاليسية الصافية  الأصيلة وفى خلال دحضه ونقضه وتفنيده آراء الغزالي و (موسى  ابن ميمون naimonides قدم ملاحظة تقول بأن أغلاطهم أى  أغلاط أتباع ابن ميمون نشأت من أخذهم فلسفة أرسطو بصورة  غير مباشرة ولم يتهيأ لهم أن يقتبسوها من معينها الأصيل ذلك  لأنهم أخذوها من شروح الفارابي وابن سينا والآخرين (2).  وإذن فإن هذا الفيلسوف اليهودى يرى أن الفارابى وتلميذه  ابن سينا لم يفهما أرسطو على حقيقته. وهذه دعوى نظنه انفرد بها  ولم يشاركه فيها أحد من البشر وقد تجشمها لأجل تقريب إمكان  التوفيق بين اليهود وتعاليم أرسطو ساعيا ليجعل الصعوبة التى  وجدها محاولوا ذلك التوفيق ويرجعها إلى أن الفلسفة التى  بأيديهم المنسوبة لأرسطو مشوهة وممسوخة أما فلسفة ارسطو  الحقيقية فإنها لا تتعارض مع اليهودية. ليت شعرى ما الذى  حمله على كل هذا التمحل والتكلف؟ ومن قال له إن كل ما قاله

أرسطو حق مستقيم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من  خلفه. وأظن هذا اليهودى التائه لو بعث اليوم من مرقده ورأى  كيف أن الفلسفة العصرية هدمت هياكل فلسفة أرسطو  وإخوانه من اليونان لسخر من أتعابه وجهوده فى تقويم المعوج  فى العصور الوسطى، ولا بأس أن نشرح كلمة مرت عليك قبل  أسطر هى Naimonides فقد شرحها لنا قاموسWebster إذ قال إن  Naimonides منسوب إلىNaimonidesn  أى موسى بن ميمون الذى عاش   (١١٣٥ م- ١٢٠٤م)  وكان من أعظم فلاسفة اليهود  فى القرون الوسطى، وكانت مدرسته تتوخى الجمع والتوفيق  بين فلسفة أرسطو والتعاليم اليهودية.(1)

أقول وهذا نظير ما سعى إليه   (إخوان الصفاء وخلان الوفاء)   من الجمع بين الإسلام والفلسفة اليونانية وكل ذلك ناشئ  من إكبار فلاسفة العصور الوسطى لفلاسفة اليونان فأخذ كل  فريق يؤيد بالتوفيق بينه وبين فلسفة اليونان، ظنا منهم أن  الذى يتفق مع آراء أرسطو الذى كان نابغة خالدة يضمن له  الرسوخ والثبات ولماذا؟ وقد جاء وفق ما اهتدت أليه العباقرة  من اليونان أو أن هذه المساعى كانت ضرورة ملحة استجابة لتبلبل  الأفكار حيث اصطدمت فى نفوسهم عقيدتان فلابد من التأليف  بين ما أختلف منهما؟ وإلا فإن اصطدامهما يودى بإحداهما. غير أن  طائفة من المتزمتين ثاروا فى وجه الفلسفة وحرموها وقاوموها  وأعلنوا بطلانها وسفهوا أحلام الفلاسفة وظنوا أنهم استراحوا  فكانت النتيجة أن بقوا سخرية الأجيال المتعاقبة وفى طليعة  هؤلاء أبن تيمية وابن قيم الجوزية وابن الصلاح. والذى يهم  موضوعنا اليوم مما تقدم أن هذا اليهودي العنيد يرى أن الفارابى  شارح أرسطو قد خلط وخبط ولم يهتد إلى سواء السبيل ولم  يفهم حقيقة فلسفة أرسطو. ولنتركه واعتقاده ونعرض لك شخصية  أوربية أثنى عليها     (سارتون)   فى كتابه وادعى أنها كانت تضع  ثقتها كلها فى صاحبنا الفارابي وتلميذه ابن سينا، أجل قال      (سارتون)   في ترجمة (البرت الكبير Albert the great) الذى ولد  عام ١١٩٣م فى (لوينجن lauingen) وتعلم ودرس فى بادوا

Padovaثم علم ودرس فى مختلف المدارس الربانية المسيحية فى  ألمانيا سنة ١٢٢٨م وما بعدها، ودرس فى باريس من عام ١٢٤٥م  إلى عام ١٢٤٨م وكانت مؤلفاته تقوم على مدرسة أرسطو، وكانت  نوعا من تفاسير والشروح لما كتبه أرسطو، ولكنه أقحم  فيها حشوا كثيرا مأخوذا من الفلسفة الإسلامية واليهودية  ومصادر أخرى مختلفة، وزج فيها أيضا ملاحظاته الشخصية

يقول   (ثارتون) (2) إن البرت الكبير هذا قد اعتمد من  بين شراح فلسفة أرسطو واتبع بصورة رئيسية خطوات الفارابى  وابن سينا وكان على الأغلب لا يرتضى أقوال ابن رشد وابن يهوذا  (ابن جبيرول Ibn Oabirol) الذى اعتبره من الفلاسفة المسيحيين  الذين قاوموا فلسفة أرسطو، وقد مال   (البرت الكبير)  ميلا قويا  إلى فلسفة موسى ابن ميمون واعتمد عليها ولكنه حافظ على  استقلاله. وابن ميمون (3)هذا هو الرئيس الحاخام موسى بن  ميمون ولد فى قرطبة من عائلة يهودية معروفة، وأكره بسبب  الاضطهاد الدينى على مغادرة إسبانيا فذهب أولا إلى فاس ثم إلى  عكا ثم إلى القاهرة حيث توطن. وكان مشهورا لا فى الطب فحسب،  بل فى الفلسفة والدين. ويبالغ اليهود فى احترامهم له. وكان ابن ميمون  طبيب صلاح الدين الأيوبى ثم طبيب الملك الأفضل وطبيب  أشراف الدولة، وقد تراكمت عليه الأشغال حتى كان أحيانا يأخذه  التعب فيعالج بعض المرضى وهو مستلق على الديوان. وكانت معظم  تآليفه فى اللغة العربية وقلما كتب فى العبرانية وقد ترجمت كتبه  إلى العبرانية ثم إلى اللاتينية أما شهرة موسى بن ميمون فلم تأت  من الطب ولكن من محاولته التوفيق بين الاعتقاد والبرهان،  وبين الدين والعلم. واتته أيضا من تعاليمه التي وعاها فى كتابه    (دلالة الحائرين)  الذى دون فيه نظراته فى تقريب الفلسفة  اليونانية والعربية من التعاليم الدينية فى زمانه ولهذا اتهمه  المعاصرون من خصومه بالهرطقة وسموا كتابه   (ضلالة الحائرين)   رغماً من أنه كان يشغل أكبر مركز دينى عند اليهود فى القاهرة  وقد ترجم هذا الكتاب إلى العبرانية ثم إلى اللاتينية وكان ذا أثر  عظيم على النظريات الفلسفية فى القرون الوسطى وما بعدها حتى

أننا لنجد أثر هذه التعاليم فى فلسفة   (سبينوزا)  و   (كانت)   ونعود إلى صاحبنا الفارابى فنلفت نظرك إلى أن من المأمول والمترقب أن لا ينجو أبو نصر من حملات الغزالى على الفلسفة  وأقطبها، وإن المسيحيين الذين خاصموا الفلسفة إجمالا قد استعانوا  بخصوم الفلسفة من المسلمين ، فموقف الغزالى العقلى والدينى قد  راق علماء المسيحيين منذ اللحظه التى تيسر لهم فيها الاطلاع على  كتبه ولا يزالون مهتمين بدراسة أبحاثه والعناية بها والمعروف  أن الغزالى قد هاجم الفلسفة وذهب فى هجومه عليها إلى تكفير  أهلها، من أفلاطون وأرسطو إلى الفارابى وابن سينا وقد مهد  لدراستها بكتابه   (مقاصد الفلاسفة)  ثم حمل عليها فى كتابه  (تهافت الفلاسفة)   وسرعان ما راج كتابه الثانى عند خصوم  الفلسفة من المسيحيين فنلاحظ أن (ريموند مارتن، R, Martin  الذى يحتمل أن لا يكون لعلمه بمؤلفي العرب نظير فى أوربا بأسرها  حتى العصور الحديثة - فيما يقول جيوم - قد نهض بعد ممات  القديس     (توما)   بمقابلة فلاسفة الإسلام وعلمائه، واستجاب

لمطلب (ريموند بنافورت (Raymuod pinnafort  الدومنيكيين فى وضع كتابه   (الدفاع عن الإيمان)  وأدخل فيه  الكثير من آراء الغزالى ومنذ ذلك الحين أفاد الكثيرون من  علماء المسيحية من آراء الغزالى، وانتفع القديس (توما)   الذى  عاصر (مارتن)  برسالة فى   (الاقتصاد فى الاعتقاد)   فى وضع كتابه المعروف   (الخلاصة الفلسفية فى الرد على الأمم  غير المسيحية)  الذى وضعه استجابة لطلب رئيس هيئة الدومنيكين  السالف الذكر. وأوجه الشبه بين آراء توما والغزالى كثيرة(1) ونلاحظ أن الغزالى كان وبلا على الفلسفة عند اليهود  والمسيحيين على السواء وكان له الأثر الهدام (2)لسفة العالم  الإسلامى وكان أثر كتابه     (تهافت الفلاسفة)   عند هؤلاء جميعا  أعمق - فيما يلوح - من أثر   (تهافت التهافت)  الذى فند فيه  ابن رشد موقف الغزالى من الفلسفة. وقد قسم الغزالى الفلاسفة  فى كتابه   (المنقذ من الضلال)  إلى ثلاثة أصناف: دهربين وهم  الزنادقة لأنهم جحدوا الصانع المدبر العالم القادر وزعموا أن العالم

لم يزل موجود بنفسه. . . ثم طبيعيين وهم الذين سلموا بوجود  قادر حكيم مطلع على غايات الأمور ومقاصدها ولكنهم أنكروا  معاد النفس وجحدوا الآخرة والحساب فلم يبق عندهم للطاعة  ثواب ولا للمعصية عقاب، وهؤلاء زنادقة. ثم الإلهيين وهم  المتأخرون منهم كسقراط وأفلاطون وأرسطو وقد هاجموا الدهرية  والطبيعيين ولكنهم استبقوا من رذائل كفرهم بقايا فوجب  تكفيرهم وتكفير متبيعهم من متفلسفة الإسلاميين كابن سينا  والفارابي وأمثالهما..

ويرى الغزالي أن مجموع ما صح من فلسفة أرسطو بحسب  ما نقله هذان الفيلسوفان (ابن سينا والفارابى)  ينحصر فى ثلاثة  أقسام قسم يجب التكفير به وقسم يجب التبديع به   (أى اعتباره  بدعة)  وقسم لا يجب إنكاره أصلا.

للكلام صلة

اشترك في نشرتنا البريدية