الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 140الرجوع إلى "الثقافة"

٢ - تلميذ تارتينى Tartini

Share

خلاصة ما تقدم :            ]البارون فون ب . شخصية شهيرة فى المجتمع ، البولينى ، وحجة فى فن الموسيقى ، وعادة معترف به . كان يحى فى داره حفلات موسيقية يشرفها ملك بروسيا بشخصه حيا بعد حين . وكان كاتب القصة يعمل فى جوقة من الفنانين المعروفين برياسة الأستاذ " هاك "  فشاقه ما سمعه عن البارون ، فرجا أستاذه أن يستصحبه مرة إليه ، فاصطحبه فى ذات مساء مع بقية أفراد الجوقة . وكان البارون يحنو على الموسيقيين ، وعدهم بإرشاده . لكنه لم يكن يعترف لهم بفضل ، ولا لآلاتهم بقيمة . فكمانه " الجرانيلو " هى فى نظره كل شىء ، وما عداها آلات مزيفة حقيرة مقمقمة مزمجرة ؛ ! ولكمان البارون قوس يضن بها البارون كل مضنة . وكانت فى شدة تقوسها يخيل للرائى أنها أقرب إلى رمى السهام منها إلى ابتعات الأنغام . ويذهل كاتب القصة ما يطيقه أساتذة الجوقة من البارون من لاذع السد وتسفيه العزف ، وكلهم رجل معروف ، لا نكرة ولا مغمور ، وأخيرا : [

جاء دورى ، فوضع لى " هاك " بضعة تقاسيم لأعزفها .

فجلس البارون ملاصقا لى ، وجعل ينظر فى المجسدة (النوتة) ، ولمن شاء أن يتصور بأى ضيق بدأت العزف ، وهذا النقادة القاسى إلى جانبى ، لكنى ما لبثت أن ترسلت فى حركة بارعة فى الألجرو Allegro . فنسيت البارون وانطلقت أعزف بكل قواى لا يضايقنى شىء.

ولما انتهيت ربت البارون على كتفى وقال مبتسما : تستطيع أن تستمر على الكمان يابنى . لكنى أراك لا تفهم بعد شيئا فى تحريك القوس وأداء الألحان على الوجه الأمثل . إنه لينقصك المعلم الماهر .

وقمنا إلى المائدة ، وكان الطعام معدا فى غرفة أخرى ، فتتناول منه الآساتذة هنيئا ، وشربوا من أجود الأنبذة مريئا ، وكانت فى الحق وليمة فاخرة . وقد كان الحديث

يدور حول الموسيقى وحدها ، وكان الانهماك فيه يتزايد ، والبارون يفيض على الأسماع كنز معلوماته الغزيرة . وكان حكمه شديدا سديدا ، لا ينم عن سعة اطلاعه فحسب ، بل يكشف كذلك فى صاحبه عن الفنان الكامل اللبيب ذى الذوق . وقد استرعى انتباهى على الأخص قائمة العازفين على الكمان الذين كان يصورهم لنا واحدا واحدا .

وجاء ذكر جار دينى Giardini فى القائمة ، فقال البارون : " سامحه الله وأنجاه من عقاب الآخرة . فقد كان هو أول من أكل التفاحة من شجرة المعرفة ، فجعل من كل العازفين بعده خطاة . إنه أول من حلق ودار كاللولب . لقد صب همه على اليد اليسرى وعلى أصابعه الوثابة ، لا يعلم أن روح الأنغام إنما هى فى اليد اليمنى وأن فى نبضاتها تتدفق كل الأحاسيس على نحو ما تستيقظ فى الصدر ، وتنطلق دقات القلب . إنى لأتمنى لكل لولبى كهذا فنانا شجاعا كجوميللى Gomelli يكون إلى جانبه ليصفعه الصفعة الواجبة ويوقظه من جنوبه ، كما فعل جوميللى مرة مع جاردينى حين أفسد فى حضرته لحنا مجيدا بقفزاته وعداوته  وهزاته وتهريجانه . إنى أقول لكم أيها السادة إن فن الكمان الحقيقى سيموت بموتنا أنا وناردينى . . .

قال البارون : وجارنوفتشى Giarnovichi يهزه بتارنينى أستاذ الأساتذة ويترفع عن دروسى . على أن الذى يهمنى هو مصير الغلام " روده " إنه يستمتع بهذه الدروس وإنه ليرجى منه . وليس ببعيد أن يخرق العزف بقوسى فى مقتبل الأيام .

إنه (وهنا التفت البارون إلى) فى مثل عمرك يا بنى ، لكنه أكثر منك جدا وأعمق نفسا ؛ فأنت - ولا تؤاخذنى بما أقول - شاب أرعن فيما يبدو لى . لكن هذا يزول ، أما أنت يا عزيزى هاك فأؤمل فيك الكثير ؛ فمنذ زودتك بدروسى وأنت تحول شخصا آخر ، فامض فى جدك واجتهادك اللذين لا يدركهما كلال ، ولا يفتك درس من دروسى .

كان هذا الذى سمعت عجيبا أذهلنى ، فلم أك أتوقع فى حياتى أن أسأل أستاذى : أحقا أن البارون يعلم أمهر العازفين على الكمان فى عصره وأنه يدرس له هو ، للأستاذ ؛         وقد أجابنى هاك بأنه لا يفوته حقا أن ينتفع بدروس

البارون ، وأتى أحسن صنعا لو رجوته فى صباح يوم سعيد أن يولينى شرف هذه الدروس .

وحين عمدت إلى استفسار أستاذى عن مواهب البارون الفنية لم يرد الدخول معى فى تفاصيل ؛ بل كرر على أن أفعل ما يأمرنى به البارون. أما الباقى فسوف أخبره بنفسى فى حينه .

وابتسم ابتسامة خفية تهلل بها وجهه فأثار بذلك فضولى إلى أقصى حد .

وعرضت رغبتى على البارون فى خضوع ، وأكدت له أن همتى تثب بى وثبا ، وأن حماسى لغنى لا يعرف حدا ، فتأملنى ذاهلا ، ثم لم تلبث نظرته الجدية أن اكتسبت طيبة الأخيار ، فقال : يابنى ! إن توجهك إلى ، إلى عازف الكمان الوحيد الذى لا يزال يجود به الدهر ، لدليل على ما يحركك من باعث صميم لا يكون إلا فى الفنان ، وشاهد على أن المثل الأعلى الذى ينشده العازفون الحقيقيون قد بزغ فى نفسك ؛ لكم وددت يا بنى أن أسعفك ، ولكن أين الوقت؟ أين الوقت ؛ فهاك يشغلنى ، وذلك الفتى دوران يريد أن يعزف أمام الجمهور ، فلا معدى له عن دروسى . ولكن ا - انتظر ، انتظر - بين الإفطار والغداء ، أو فى أثناء الافطار - ولكن لا ، فعندى ساعة أستطيع أن أهبك إياها . تعال يا بنى فى الساعة الثانية عشرة تماما من كل يوم ، فأعزف معك إلى الساعة الواحدة ، إذ يأتى دوران .

ولكم أن تتصورونى آتيا إلى البارون فى الساعة الثانية عشرة تماما وقلبى يدق .

وتناولت كمانى ، وكنت قد أحضرتها معى ، فلم يطق البارون أن أمر القوس على أوتارها بنغمة واحدة ، بل دفع

إلي بالة عتيقة من طراز " أنطونيو أمانى " ولم يكن لى بمثلها عهد . على أنى لم ألبث أن حمسنى النغم السماوى الذى كان يتفجر من أوتارها ، فغرقت فى تقاسيم عامرة بالفن ، وتركت تيار النغم يزخر كارة وبهبط أخرى ، يزخر فى موجات هدارة ، ثم يهبط فى خرير خافت ! وأعتقد أنى أجدت العزف ، وكنت فيه موفقا كل التوفيق ، لكن البارون كان يهز رأسه يرمأ به . فلما أمسكت أخيرا قال : يا بنى ! يجب أن تنسى هذا كله . فانك أولا لا تجيد إمساك القوس بحال من الأحوال . وأرانى عمليا كيف يمسك بالقوس على طريقة نارتينى ، فما شككت فى أننى لن أخرج بهذه الطريقة نغمة تذكر لكنه ما كان أشد عجبى حين استيقنت فى بضع ثوان مزية الأخذ برأى البارون .

وقال البارون : لنبدأ الدرس إذا ا اعزف حرف . . ومد النغمة ما أمكن ، واقصد فى استخدام القوس ! اقصد فى استخدام القوس ! فالقوس لعازف الكمان كالنفس المغنى .

ففعلت كما أمرنى ، وسرنى أن وقفت إلى مد النغمة بقوة ، والصعود بها من البيانيسيو Pianissino إلى الفورتيسيمو Fortissimo ، ثم الهبوط بها إلى حيث كانت بسحبة طويلة من القوس . فصاح البارون : أرأيت يا بنى ؟ أرأيت ! لقد وسعك أن تؤدى تقاسيم جميلة . ويسعك أيضا أن تعدو ، وتقفز ، وتهتز وتأتى بتلك المزوقات الحديثة المنطوية على البلاهة . لكنك لا تستطيع أن ترسل النغمة إرسالا . سأريك الآن معنى إرسال النغمة على الكمان . وتناول منى الكمان ، ووضع القوس عند رأسها - رأس القوس - ولكن ما هذا ؟ إنه ليعيبنى الكلام أعبر به عما حدث !

لقد دفع البارون القوس المرتعشة فى ملاصقة " المشط " إلى أعلى ، فإذا هى تقعقع ، وتصفر ، وتوقوق ، وتموه -

فكأنها عجوز تضع المنظار على أنفها وتجهد نفسها فى أداء لحن لأغنية .

والبارون فى هذا يرنو بعينيه إلى السماء مغتبطا . فلما كف آخر الأمر عن تحريك القوس صاعدا فوق الأوتار هابطا ، ونحى الآلة مكانها كانت عيناه تشعان ، وكان يقول فى تأثر عميق : " هذا هو النغم ؛ هذا هو النغم لا سواه ! "

وغالبنى الضحك فغلبته من هيبة البارون المتهلل الوجه من فرط الحماس ، وأحسست كما لو كنت فى جو مسحور ، فضاق صدرى وأعوز لسانى النطق .

وهتك البارون حجاب الصمت بقوله : " أليس كذلك يا بنى ؟ لقد هزك عزفى فى الصميم ! أكنت تتصور أن تنبعث هذه القوة الساحرة من هذا الشىء الضئيل بأوتاره الضعيفة الأربعة ؟ اشرب يا بنى ، اشرب؛

وملا لى البارون كأسا من " المديرا " وكان لابد أن أشرب ، وأن أتناول من الخبيز الذي كان على المائدة . . . فى تلك اللحظة وقت الساعة الواحدة ، فصاح البارون : حسبنا هذا اليوم ، انصرف يا بنى وعد إلى قريبا . دونك هذا ؛ خذ ؛

ودس لى البارون ورقة صغيرة وجدت فيها "دوكاتا" هولنديا لامعا لم تبر حافته .

فجريت إلى أستاذى مرتبكا ، وقصصت عليه ماحدث ، فقهقه عاليا وصاح : أرأيت الآن من أمر البارون ودروسه ما كنت تجهل ! لقد اعتبرك مبتدئا ، فأعطاك عن الدرس دوكاتا . وبقدر ارتفاع الأستاذية يرتفع الأجر ، فأنا آخذ لويسا ( جنيها ) ، ودوران يتناول دوكاتين .

لكنى لم أتمالك نفسى من القول : إنه من شأنهم أن يضحكوا على ذقن البارون على هذا المنوال . وأن يبتزوا دوكاته بهذه الطريقة .

فرد الأستاذ على بقوله : يجب أن نعلم أن هناء البارون كل الهناء هو فى أن يعطى دروسا على هذا النحو الذى اطلعت عليه . افتريد البارون أن يسمتع بنا فى المحافل

بأسرها وهو فيها الفيصل والحكم والمرجع المختص بالفن ، وتجرحنا إذا نحن ترفعنا عن مثل هذه الدروس ، فيقول عنى وعن الأساتذة إننا أدعياء جهلة يرثى لحالنا ؟ والبارون بغض النظر عن لوئته هذه ، رجل يستنير حتى الأساتذة بحكمه ، ويسترشدون بمعرفته الفنية ، ويفيدون منه فائدة جمة . زره ، ولا نبى عن زيارته ، ولا تصغ إلى لوئة الجنون فيه ، بل استمع إلى العقول من كلمات رجل حذق الفن بحواسه وإن جهله بيده .

فكنت بعد ذلك إذا أفرغت قصاراى فى حفلة من حفلات البارون ، ووفقت إلى أداء هذا أو ذاك أداء حسنا ، أدار البارون بصره فى الحاضرين مبتسما مزهوا وقال : الفضل فيما أجاد الفتى لى أنا ، انا تلميذ تارتينى .

وهكذا أفدت من دروسه نفعا ومسرة ، وانتفعت إلى ذلك بدوكاته الهولندية .

اشترك في نشرتنا البريدية