3
لن يحقق هذا الحلم مؤتمرات تعقد ومعاهدات تمضى أو نظم تعدل وقوانين تفرض.
وان مؤتمرا يجتمع ويتلوه مؤتمرات أخرى لا تحل مشاكل العالم. وان سكنت ألم الإنسان إلى حين، والمعاهدات قصاصات ورق لا تغير شيئا ولا تدفع مضرة، ولا يخفف من البؤس الواقع حزب اشتراكي يتولى أو حزب محافظ يتحكم. فليس معنى ذلك إلا إن طبقة حلت محل أخرى. وأفرادا استبدل بهم أفراد. وليس معناه إلا أن يبقى النظام الحالى بضرائبه المرهقة وحواجزه الجمركية المشتطة وميزانيته العجيبة ينفق ثلاثة أرباعها على أعداد الجيوش وتجهيز الحروب.
إن الإصلاحات التى تفكر فيها الجماعات الحديثة من تحديد ساعات العمل أو تنظيم علاقات المالك والأجير على ما فيها من الفائدة لا تجتث الشر من أساسه. فكيف الطريق إذن؟
أثورة دموية لا تبقى ولا تذر؟ تراق فيها دماء الطبقة الحاكمة ويزهق فيها أرواح الأغنياء؟
ولكن تولستوى كان آخر من يدعو إلى العنف وآخر من يفكر فى مقابلة الشر بالشر.
إن التعاون لا يمكن أن يقوم على سفك الأرواح. والرخاء من المستحيل أن يعتمد على أسنة الحراب. وما كانت الإنسانية التى بشر بها تولستوى ليكون الطريق إليها مغطى بالدماء حافلا بانين المجروحين وجثث القتلى.
لقد قامت الثورة الفرنسية باسم اشرف المبادئ الإنسانية وعلى أكتاف اشد الناس حماسة وإخلاصا. وحسب الناس إن نورا جديدا قد اشرق يلوح بالسلام المنشود والهناء الدائم. ولكن الثورة الفرنسية لم تنجح كثيرا. ولم تفعل رغم الادعاءات العريضة التى بشرت بها إلا أن تحل طبقة محل طبقة أخرى وتستبدل اسما باسم وملكية بجمهورية.
وفشلها راجع إلى إنها قامت على العنف وإراقة الدماء. إن الشر لا يجب أن يقابل بالشر، وإن اكبر ما يعاب على المجتمع الحالى اعتقاده إن الثورة الدموية هى الطريق للخلاص، وان الحرب شر لابد منه. وان القتال قانون طبيعي لولاه لازدحم العالم بالسكان ولما وجدوا قوتا يكفيهم. وليس اسخف من هذا الزعم زعم. فان اشد ما يعتز به الفرد هو حياته، واقدس واجب لديه هو المحافظة على هذه الحياة والعمل على إبقائها. واكبر أمنية للإنسان هو الخلود أو العيش إلى أطول العمر، فتناقض إذن إن تزعم أن قانون الحياة هو الموت أو إن من الضرورى أن يقتل الأخ أخاه.
لقد دعا تولستوى إلى السلام والأخاء الإنسانى. وأهاب بالإنسانية القضاء على التسلح والمقاومة.
وقد يبدو إن هذا أمر ثانوي لا علاقة له بإصلاح العالم. ولكن ليعتقد الأفراد جميعا أن الشر هو فى الحروب. وان بؤس الإنسانية راجع إلى العنف والاستبداد، وليؤمنوا بالسلام وضرورته، وستسقط بطبيعتها جميع النظم القائمة. فلن تقوم حكومة من الحكومات إلا إذا استندت إلى إرادة الشعوب، ولن يوضع قانون إلا إذا رغب فيه الأفراد. ولن تسير دفة العمل من الأعمال إلا إذا كان قائما على التعاون والاشتراك. ولن تجد نزاعا بين دولة وأخرى إلا ويفض فى بضعة أيام عن طريق التحكيم. فتولستوى يرى من العبث التفكير فى كيف تكون الحكومة. أو على أى أساس تشرع القوانين. إذ الحكومة لديه ليست إلا مجموعة أفراد والقوانين ليست إلا من وضع بضعة أفراد. والدولة لا معنى لها إلا بمجموع أفرادها!
ففى إصلاح الفرد وحده. وفى الارتفاع بعقليته والسمو بنفسيته أساس المدنية المستقبلة. ماذا يجدى أن تصلح من شأن حكومة، إذا كان القائمون بها هم هم لم تتغير نفوسهم.
لن يجدى هذا نفعا. ولكن يكفى أن يعتقد كل فرد بوحشية الحروب فى سبيل قطعة ارض أو من اجل شهرة وطنية كاذبة. ويكفي أن يمسى هذا الاعتقاد عملا حتى يشرق الصباح عن اختفاء اله الحرب من الأرض
ويمكن - إذا آمن الناس بضرر الفروق الاجتماعية بين الطبقات وما يساعد على إبقاء هذه الفروق من قانون الوراثة ونظام الملكية - أن تختفى الملكية فجأة وتحل المساواة بين البشر.
ولا شك انه لو أيقن كل إنسان أن سعادته فى خدمة اكبر مجموعة إنسانية يستطيع خدمتها لانهارت من أساسها ما نسميها الوطنية التى تراق من اجلها الدماء وتزهق تحت علمها ملايين الأرواح. ويجر باسمها الخراب والدمار والارتباكات المالية الاقتصادية.
فلتقم الشعوب. لا بل لتقم طائفة منها تعلن أن كفاهم رياء وخداع، وانهم لن يخضعوا إلا لما توحيه إليهم ضمائرهم، ولن يعملوا إلا ما تحتم عليه مبادئهم. فلا يذهبون إلى قتال يعتقدونه شرا ولا ينفذون قانون لا يرون فيه خيرا. ولا يدفعون ضريبة لا معنى لها. ولاشك أن كل مساوئ العهد الحالى تصبح فى خبر كان.
إن للرأى العام قوة عظيمة تسير الحكومات والدول. فإذا ما أراد الرأى العام شيئا فهو واصل إلى ما يريد. والرأي العام ساخط متذمر من النظام الحالى وهو يريد أن يعمل شيئا، ولكن لا يعرف ما يريد ولا يدرى ماذا يعمل.
قد تسأل: ومن له الشجاعة ليقوم بهذه الدعوى ومن له الاستعداد لما قد تجره عليه من اضطهاد وسجن وتشريد؟
ولكن تولستوى يعجب: لماذا تنتظر الإنسانية منقذا من السماء أو مسيحا يهبط إلى الأرض.
إن نفسية الجماعات الحالية لا تحتاج إلا إلى بضعة أفراد بل فرد جريء يرشدها إلى طريق العمل حتى تقوم قومة رجل واحد.
4
إن صلاح نفوس الأفراد وتربيتهم من اخطر ما يدعو إليه تولستوى، وهذه التربية أما أن تتناول الصغار أو الكبار. فهى للكبار
بث العقيد الإنسانية فيهم وإقناعهم أن لا فائدة تعود عليهم من حرب ضروس، والإهابة بهم إلى نبذ العنف وإحلال الوئام والصفاء. وأما تربية الصغار فهى اجل واعظم شانا.
ولقد سدد تولستوى إلى التربية الحديثة سهاما مسمومة. وكال لها تهما شنيعة، وليس يعنيه من أمر المدرسة علوم تحشى بها أذهان الطلبة المساكين ولكن يعنيه روح التربية.
فالتربية الحديثة تساعد أحط الغرائز على الظهور والنمو، فهى تبث التنافس والغيرة والحقد فى نفوس الأطفال وتشبعهم بفكرة العقاب والثواب، وتلقى فى روع الطفل الأنانية وحب الفوز على أكتاف إخوانه من التلاميذ. فهو يهنأ على تقدمه عليهم، ويكافأ إذا بذهم وفاقهم.
وهى فوق ذلك تربية عسكرية تهمل شخصيات الأطفال إهمالا وتزعم أنها مستطيعة أن تشكل عقليات متغايرة تشكيلا واحدا. وهى مضطرة فى سبيل هذا ان تخضعهم لنظام معين وتجبرهم بالقوة على التزام حركات خاصة والجلوس فى غرف ضيقة مما ينفر الطفل من المدرسة والمدرسين، ومما يكبت فيه ميوله الطبيعية ومواهبه.
إن الطفل له شخصية قائمة، وليس يتاح لأى مدرس أن يفهمه على حدة فيعرف ما يلائمه وما لا يلائمه. والمدرسة الوحيدة التى يمكن ان ينال فيها الطفل تربية صحيحة هى البيت.
نعم هى منزله. حيث يجد الحنو والشفقة الأبوية. وهى مسكنه حيث تراعى ميوله وحيث يفهمونه فهما حقا. وبذا يرفع تولستوى من شأن التربية المنزلية ويجعلها فى المكانة الأولى. وقد جره هذا، إلى البحث عما إذا كان البيت والعائلة الحالية يصلحان مكانا لتربية الأطفال.
وجوابه أن لا
فنظام الزواج الحالى نظام عتيق فاسد، والعلاقات العائلية اليوم كبقية العلاقات لا تستند إلا على الرياء والعنف. فالمال يتحكم تحكما فى العلاقات الزوجية. والرجل الغنى هو كل شئ فى الزواج الحديث. مهشما كان أو مريضا، ضعيفا أو منحطا. فهو يرحب به لانه ذو مال، ولأنه اقدر من غيره على الأنفاق. والفتاة الحديثة لا تكاد تفهم مهمتها التى خلقت من أجلها والزوجات يرون فى الالتصاق بالبيت عارا أو تأخرا. بل يحسبن فى الأطفال عبئا ثقيلا لا يتفق والسهرة ومحال الرقص. ولا ينسجم والرقة والأناقة. ومن هنا دعا تولستوى إلى هدم نظام الزواج هدما يتناول الأساس
فالأم كما يرى تولستوى يجب ان تختار لابنتها زوجا قوى الجسم ممتلئ الصحة محبا للعمل ناسية مكانته الاجتماعية غير ناظرة إلى جيبه انتفخ بالأوراق المالية ام لم ينتفخ.
والزوجة يجب ان تؤمن بأن عظمتها فى المنزل، وفى إنشاء طفلها الذى قد يتحكم يوما فى مصير العالم. وهى إذا كانت قد تلقت أرقى العلوم فلكى تحسن إدارة بيتها. وهى ان درست ووفقت فى الدرس فلكى تجيد تربية طفلها. فالمرأة فى يدها مستقبل هذا العالم.
ولكن أى أمرأة؟ ليست هى هذه المرأة المستهترة، ليست هى سيدة الصالونات. ولكن ربة البيت والأم الرحيمة تنشئ أطفالها على حب السلام وحب الآخرين. وتربى فيهم كراهية الشر ومقت العنف.
لقد نادى تولستوى بكل هذا فى إخلاص وإيمان وبعد تفكير طويل وتدبر ليس بالقليل، وقد توافق دعوته وقد لا توافق. وقد تحسبها الحكمة بعينها أو خيالا متطرفا. ولكن لا يسعك إلا أن تعجب بالرجل أو تعجب باخلاصه، وان تجد أيضا فى دعوته الحق أو بعض الحق.
ولعلك تشتاق بعد هذا إلى معرفة شئ عن حياة تولستوى أو فهم الظروف التى أحاطت به فخلقت منه رسول السلام والإنسانية على الأرض. هذا ما قد نكتب فيه مرة أخرى.
