التمثيل فى المسرح أو أمام ( الكاميرا ) قطعة من التاريخ لا أكثر ولا أقل ، وكل ما فى الأمر أنها حشدت فى وقت واحد متصل الفقرات . وإذا كانت حوادث التاريخ تسير على تسلسل يؤيده الواقع ، فتخرج فى شكل حلقات رتبها المنطق المألوف ، فإن مشاهد المسرحية او السينمائية يجب أن تكون صورة من التاريخ .
إن الفطرة يستحيل عليها الخطأ ، ولكن الصنعة - وهي ترادف التكلف - هي التي تخطئ ، فمن الخير أن يلي اقترح دعوة كل منظر ، ويخضع لرغبته لأنها رغبة الطبيعة ، ولا انكر أن طرفا كبيرا من هذا التكلف يعود إلي فقر في الرؤوس المبتكرة ، والوجوه الجديدة التي تنادي بها القصة ، ثم إلى تملق الجمهور واغتصاب إعجابه عن طريق عرض الأجسام الصريحة
أما فقر الرؤوس فيظهر في هذا المضروب المشترك الذي يشغل كل فلم عربي ، وهو حفلة عهد ميلاده - والضمير هنا الممثل الأول - وحفلة عبد ميلاده هي في الحقيقة فترة تشغل الجمهور حتى يستجم هذا الرأس
الفارغ ليفكر فى سخف جديد يضيفه إلى سابقه . وفى هذا الضروب الشترك - وهو حفلة عيد ميلاده - تنفك الأزمة أزمة العيون العطشى ، وهل يمكن أن تستقيم حفلة كهذه دون راقصة ؟ والرقص والنحت فنان جميلان ، ولكن البحث فن صامت ، والرقص فن ناطق ، فتتحدث الأجسام فى الرقص كما شاءت ، وكما يطلب الجمهور الذي يعرف عنه الفرح ذلك .
ومسألة عرض الأجسام أصبحت ملح الطعام فى كل فيلم عربى ، ومع هذا فإنى أظلم قومى بعد أن سبقت هوليود فى هذاالمضمار ، ولا سيما فى الموسم الماضى ، فقد أطعمت العيون فى فلمين لم نشأ أن نضع فيهماهذا الملح بمقدار ، ولكنها قدمت الملح نفسه فى كل أطباق المائدة . وقد احتالوا لذلك بموضوع العرض نفسه فهو (( السباحات )) و (( هكذا الحب ))
والفتى الأول فى كل تمثيلية عربية لا يؤمن بأن الأرض تدور حول الشمس ، وأن سنه تتقدم كلما أتمت الأرض هذه الدورة ، فهو دائما فى الخامسة والعشرين من عمره لا يتزحزح عنها ، وهو دائما نضر الشباب مورق العود ، وصحيح أن الجسم الرياضى يستطيع أحيانا أن يخدع العين ،
ولكن الصنعة مهما بلغت من التجويد لا يمكن ان نخدعها في رقم يزيد على عشر سنوات ، فقد نرى ابن الأربعين فتحسبه ابن الثلاثين إذا كان له نصيب من الوراثة ، أو المنهاج الصحي له أثر في تكوين الجسم وبعث الحياة الفتية فيه أما الذي ترفضه العقول - حتى عقول البلهاء - فهو ابن الثانية والخمسين حين يصر إصرارا غريبا يبعث على الضحك بانه اتم دراسته الجامعية منذ عهد قريب ، وانه يعتزم السفر إلي أوربا لمواصلة هذه الدراسة ثم يعود من هذه الرحلة فإذا استقرت به الحياة اخذ والده يحثه على الزواج ، ولكنه يؤجل هذه الرغبة عند والده لأن سنه مازالت صغيرة ، ومازال الغني في صبح شبابه ، فهو إذا تزوج في هذه السن فانما يتعجل الأشياء قبل أوانها .
صاحبنا إذا رابض في هذه الروضة : روضة العشرين والخمس ، وهو لهذا يدفع كل شاب يحمل في يده ورقة ميلاده عن أن يأخذ الدور الاول في التمثيلية . ومن هنا تأتي مشكلة الوجوه الجديدة ، لأن كل دور له سنه التي تناسبه . ومن هنا ينشأ اضطراب القصة ، ولأن كاتب السوق في كثير من الأحيان تفرض عليه شخوصها أولا ، وظروف القصة ومواقفها وأحداثها خاضعة لأسماء هذه الشخص لا لصفاتها ، والموت مضمون لأمثال هذه القصة ، وعبثا يحاول الكاتب ان يلقي بالحوار بين ذواتها ليبعث فيها الحياة ، ولكنها تموت في يديه .
لا يعنينا من هذه النواحي الفنية التي يضطلع بها القائمون على التمثيل السنيمائي غير فكرة القصة ، ووضع حوارها واغانيها ، بعد أن اصبحت معارض الصور المتحركة اشبه ما تكون بمعاهد التعليم ، ودور الثقافة ، بل إنها أبعد اثرا في توجيه المجتمع ورياضته من الناحية الاجتماعية وإذا كان للحكومة حق الإشراف على توجيه الثقافة ، والقيامة على كل مؤسسة تتصدى لتريبة الشعب فإني الشديد العجب حين تترك الدولة هذه المدارس الشعبية تضرب وحدها على غير هدى . وفي استطاعتها تيسير من
التوجيه والإرشاد أن تستغلها لصالح الامة دون تعسف أو إرهاق للقائمين على التمثيل .
إن هدف القصة ، وتأليف الحوار ، ووضع الأغاني فرص ثمينة يستطيع الرجل المثقف فيها أن يقول للناس كل ما يريد ، وان يبث لهم في تضاعيفها الوانا من اوضاع المجتمع ، وفنونا من الأدب والتاريخ والوطنية والثقافة العامة ؛ ويستطيع في نفس الوقت ان يهيئ الفرصة لاستجمام النفس بما يسوق من النوادر والمحاورات التي تهيئ للناس نسبة الابتسام أو الضحك . وأنا شديد الإيمان بأن عقل الجمهور يقبل كل معنى - مهما كان دقيقا من المعاني التي تمس المجتمع والدين والتربية الشعبية ما دام الحوار قد حشدت له الأدوات التي تعين على الفهم ويسر الإفادة .
الواقع ان ظهور الفلم العربي في صورته اليوم بزيدنا يقينا بأن زمام الثقافة في مصر والشرق العربي ، يوشك ان يفلت من أيدي رجال الفكر بعد ان اصبحت قيادة السواد في الأقطار العربية موكولة إلى هذه الطائفة التي تقوم على شئون التمثيل السنيمائي ، وهي ليست من النضج الفكري أو الخبرة بأحوال المجتمع وحسن الفهم للحياة - بالقدر الذي يؤهلها لهذه القيادة الخطيرة ، وستكون جهود المشرفين على الثقافة ضئيلة الأثر ، محدودة النفع ، ما لم يضموا ايديهم على القصة السينمائية في كل ما يمس اللغة والاجتماع من قريب أو بعيد .
ومع أن شركات الإخراج السينمائي مطبوعة على الأثرة والميل إلي الاستبداد في هذه الصناعة - فإني أعتقد أنها ترحب بكل إشراف مثمر من جانب الحكومة ، ومن واجب الهيئات الثقافية الرسمية ان تحشد للنهضة بهذه الصناعة نفرا من اعيان الكتاب والمتمرسين في دراسة المجتمع ، وان تعد لتأثيل القصة وما يتصل بها من الحوار والأغاني ما تؤدي به رسالتها المرجوة .
ولادولة فى أشياء هذا الميدان وسائل من التشجيع بالمكافآت المادية والأدبية .
والقصة السينائية أولى مدارس التثقيف بهذا التشجيع لأنها مدرسة الشعب ، وتكاد تستوعب جميع طبقاته على اختلاف خطوطها في الثقافة . وحاجة الأمة إلى رفع مستوي السواد فيها اعظم منها إلى الإسراف في تثقيف الخاصة ، وتدليلها بألوان من الترف العقلي والوجداني يأتي عادة في المرتبة الثانية في حياة الشعوب الفكرية
تدعيم القصة في معارض الصور المتحركة لا يرفع فقط مستوى الحياة عند الأمة ، ولكنه يربي في أبنائها ملكة النقد التي تعينهم على التقصى والدرس ، ونبذ التافه الذي لايلائم عبقرية الخلق الفنى . وإذا أصبح سواد الشعب نافذا بصيرا بأوضاع الحياة الاجتماعية بتعرف الجيد منها والردئ كان أكبر قوة ترهب كل عمل فني ضعيف ، وتقتل كل محاولة أدبية يراد بها التدايس على الجمهور
أغانينا في معارض الصور المتحركة - ليست ضعيفة في موضوعها فحسب - ولكنها ضعيفة أيضا في كل مقوماتها اللغوية : فالمعاني تافهة زائفة رخيصة ، وصورتها البلاغية ميتة لا حياة فيها ، حتى اللحن نفسه تشيع فيه نبرة الألم الخافت المكذوب ، والصنعة واضحة في التنغيم والإيقاع ، والصلة مقطوعة بين اللحن والقلب ؛ وإذا كانت الأغنية - قبل التلحين هي هبة القلب الصامت فإنها بعده هبة القلب المتحدث الذي يضع كل ما يحمل من المعاني الشعورية في تضاعيف اللحن وبين ثنايا التنغيم
من شيوخ الملحنين نخبة غنية بالإحساس المرهف والشعور اللماح ، استطاعت ان تصور عاطفة الشرق في طائفة من الأغاني ، ولكنها قلة يزحمها في السوق أدعياء على التلحين ؛ وقد يخفق اللحن الجيد بعد الغناء لأنه صادف حنجرة ذات صوت جميل يحملها تمثال من الشمع ليست له ثقافة روحية تساعده على الاندماج في خواطر اللحن ، والاتصال بخلجات النفوس . وغير صحيح أن الأغنية تأليف ولحن وغناء ، ولكنها عواطف مشتركة في هذه المراتب يجب
أن يتحد فيها التصوير ، وتلتقي فيها وحدة التعبير . والفني ذو العاطمة الامية يصبح حربا علي التأليف واللحن مهما بلغا من الجمال الفني لأن عامية الوجدان عنده لا تهئ له الاندماج في الوحدة الشعورية التي تعتبر أساسا لكل اغنية .
لو قدر لك ان تشاهد شريطا عربيا في معارض الصور المتحركة ، لرأيتك من غير قصد توجه إلى نفسك هذه الأسئلة
إلى أي شئ ترمي هذه المشاهد التي لا تجمعها وحدة أو يؤلف بينها هدف ؟
أيمكن أن يصل الإنتاح إلى هذا الحد فيعجز عن ملاحظة الانسجام وتسلسل الحوادث في صورة تفطن لها ( جدتنا ) حين كانت تلفق لنا الحكايات والأقاصيص ؟
ماذا أدى الرقيب من مساعدة إذا كان لم يظهر له أثر من إرشاد أو توجيه .
أما الرقيب فعمله إداري ، وهو لا يجري غير الحذف أو التعديل في المواطن التي تغضب السياسة ، أو تهدد الامن أو تستطيل على التقاليد .
والحق أن إعداد القصة السينمائية إعدادا فنيا ليس من واجب الرقيب ، ولكنه حق الممثل على الأديب .

