الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 112الرجوع إلى "الرسالة"

٢ - سعد باشا زغلول، بمناسبة ذكراه الثامنة

Share

كانت رسالة  سعد كما رأيت    (الدفاع عن الحق)   في زمن خذل الحقَّ  فانتهى فيه الحكم  إلى الأثرة، وشعب  جهل الحق فجرى به  الأمر على الباطل.  وكانت عُدة هذا  المحامي المِدْره لذلك  الدفاع البلاغة  والمنطق والقانون:  فالبلاغة للجمهور، والمنطق للخصوم، والقانون للحكومة؛ ولست  أرمي بذلك إلى تقسيم كلام الزعيم إلى التأثير المحض، والإقناع  المطلق، والتطبيق المجرد، فإن خطبته في كل موضع وفي أي

موضوع لا تخلو من هذه العناصر الثلاثة، وإنما يظهر بعضها على  بعض حين يقتضي المقام ذلك الظهور؛ فهو يوجه التأثير بالفكرة  إلى الذهن إذا هاجم الإنكار والجهل، وبالعاطفة إلى النفس إذا  عالج الخمود والغفلة، وبالنصوص إلى الذاكرة إذا عارض  القوة والسلطة. ولم ير التاريخ المصري بل الشرقي قبل سعد  خطيباً بليل اللسان، نديَّ الصوت، طلق البديهة، دامغ الحجة،  حافل الخاطر، رائع البيان، أنيق اللهجة، حسن السمت، يزاوج  بين المنطق والشعر، ويعاقب بين الإقناع والإمتاع، ويراوح  بين الجد والهزل، ويتصرف في فنون القول تصرف الشاعر برقة  الأسلوب، والفيلسوف بدقة الفكر، والموسيقي بجمال الإيقاع؛  وكل ذلك في هالة من الشخصية المهيمنة الجذابة، تساعد بلاغة اللسان  والعين واليد بشعاع إلهي باهر، ينفذ إلى النفوس المتكبرة فتَتَّضع،  وإلى الأذهان المكابرة فتقتنع، وإلى القلوب اللينة فتنماع

كان سعد رجل جلاد وجدل؛ تمرس منذ الحداثة بشدائد  الحياة ومكاره العمل، وراض نفسه منذ الدراسة على أدب  اللسان والقلم، وتنفّس به العمر في ميادين الجهاد في الحق،  فتكلمت عبقريته الموهوبة بالمعرفة، وتثقفت بالتجربة، وتقوت  بالمران، حتى كان منه ذلك الخطيب المرتجل الذي يَهْضب  بالكلام أربع ساعات متواليات لا يتلكأ، ولا يتلجلج، ولا يتكثر  باللغو، ولا يستعين بالتكرار، ولا يطرد نشاط السامع؛ وكأنما  كانت الخطابة لطول ما زاولها تصدر عنه كما يصدر الفعل عن  الطبع الملازم والعادة المستحكمة؛ فالفكر عميق من غير إعنات،  والأسلوب رشيق من غير تكلف، واللفظ متخير من غير قصد،  والمعاني متساوقة تختلف باختلاف العقول والميول والحال، فتقع من  قلوب سامعيها العشرين ألفاً موقع الأنداء من جفاف الأرض:  هذا بالصورة الآخذة، وذاك بالفكرة النافذة، وذلك بالحجة الوثيقة، وأولئك جميعاً بالبيان الملهم، والأداء العجيب!

أكثر ما في خطب الخطباء حنجرة وإلقاء وحركة؛ فإذا  قرأت بعد ذلك ما سمعت تبينت فيه الكلام الزائف والرأي  المجازف والأسلوب المشوش؛ أما سعد فتسمعه وتقرأه فلا تجد  بين الحالين إلا الفرق بين الخطيب الماثل بشخصه، والكاتب

الماثل بروحه؛ ذلك لأنه يخطب كما يكتب ويكتب كما يخطب،  متوخياً في الأمرين براعة التفكير، وبلاغة الأداء، وجمال  الأخيلة، وصحة الأقيسة، وقوة الأدلة

كان سعد برد الله ثراه وخلد ذكراه يحب الكلام كما يحب  العمل، وينشط بالجلاد كما ينشط بالجدل، ويطرب لِلَفتة الذهن كما  يطرب لقهر الخصومة، ويقدس المنطق حتى ليأخذ به من نفسه  لعدوه، ويقوى بالكفاح حتى ليركبه المرض والوهن إذا ما استجمَّ

دخلت ذات يوم بيت الأمة في وفد من قومي نجدد الثقة  بالرئيس حين انصدع من حوله الوفد، وائتمرت به الحكومة، وتخشَّنَ  عليه الإنجليز، ودس له المراءون الغدر في الملق، ولم يبق معه إلا  اعتداده بنفسه، واعتقاده بحقه، وثقة الشعب الأعزل به؛ وكان  في ذلك اليوم عليلاً لا يخرج إلى أحد ولا يدخل عليه أحد،  ولكن الوفد المسافر المشوق يأبى في إلحاح وإصرار إلا أن يرى  رئيسه وإن لم ينزل، ويسمعه رأيه وإن لم يتكلم؛ فنزل الزعيم  النبيل مدثَّراً بلفائف المرض يتحامل على نفسه ويتهالك على مقعده؛  وكان فناء الدار وشارع الدار وحجرات الدار قد انفجرت انفجار  عرفات بالدعاء والتفدية حين لاح وجهه الشاحب من العلة

قدَّم وفدنا إلى الرئيس عرائض الثقة في غلاف حريري جميل،  ثم تعاقبت الخطب على الأسماع ما بين سمين وهزيل، والخطيب  المعجز جالس إلى مكتبه يصغي إلى كل خطيب ويصفق لكل  خطبة، حتى انتهى القوم ووقف هو يقول كلمة الشكر، فبدأها  بصوت خافت متهافت، ثم ما لبث أن شبا وجهه، واستقام  عوده، وارتفع صوته، وتنوعت لهجته بالنبرات المؤثرة، وتحركت  يده الإشارات المبينة، ثم تدفق تدفق السيل الهادر ساعة كاملة  هتك فيها أستار الغلول والخديعة عن سياسة الحكومة والخصوم،  فما سمع الناس كاليوم خطيباً ينطق عن الوحي، وأسلوباً يتسامى  للإعجاز، وصوتاً يمتزج رنينه الفضي بأجزاء النفس، وخطبة  لا يظفر بمثلها البيانيون نموذجاً كاملاً للفن!

تلك صورة جانبية لناحية من نواحي فن الزعيم، جلوناها  على قدر هذه الصفحة؛ ولعلنا نعود يوماً إلى هذا الإجمال  فنفصله، وإلى هذا التركيب فنحلله

اشترك في نشرتنا البريدية