هناك تفاعل تام بين الحالة الاجتماعية لكل أمة وأدبها فالأدباء في كل زمان ومكان يؤثرون في مجتمعهم ويتأثرون به ، وميزتهم على غيرهم ان لديهم نوعا من الإلهام يدركون به شعور الناس وهو في طور تكوينه ، وفي حالة غموضه ، فيعبرون عنه تعبيرا يكشفه ويجليه ، فيتقبله الناس على انه جديد وليس جديدا ، وإنما كان كامنا في نفوسهم ، ولولا ذلك ما استجابوا له ؛ ولذلك كان الأديب او المصلح إذا سبق زمانه بمراحل لم يسمع لقوله ، ويدخر الزمان تعاليمه حتى يستعد لها الناس .
- والأمم العربية الآن في حالة تكون جديد ، بسبب ما ظهر لعيونهم من عهد ماض مملوء بالظلم والاستبداد والاستغلال ، والجهل والففر ، وبسبب مارأوا من امم معاصرة تحيا خيرا من حياتهم ، وتنعم حيث يشقون ، وتعلم حيث يجهلون ، بل ورأوا غيرهم ينعم بخيراتهم ويستغل غفلتهم وجهلهم ، ويستخدم علمه ويقظته في امتصاص ثروتهم ،
فلما بدأوا يشعرون بذلك كله بدأوا يطمحون إلي حياة أسعد من حياتهم ، وينفضون عنهم غبار جهلهم وخمولهم ، ويعدون العدة للسير على منهج من سبقهم ؛ وهذا - بالضبط - هو الزمن الذي يتمخض فيه - عادة - عن مصلحين تتبلور فيهم آمال الأمة ، وأدباء يحدون لهم ليجدوا في سيرهم ، ومغنين يغنون لهم بآمالهم ، وفنانين يرسمون لهم مطامح نفوسهم
ومن أجل هذا اتوقع أن تتمخض الحركة الأدبية العربية والحركات الفنية عن حملة اللواء لهذه الشعوب ، فالرواية والشعر والقصص والمقالة والتمثيل والغنا والنحت والتصوير والرسم كلها تثير مشاعر الشعوب الغامضة ، وتثير العواطف الهائمة ضد الظلم وضد الفقر وضد البؤس وهذا لونها الحزين ؛ ثم من وجه آخر تبعث الأمل وتدفع للعمل ، وتبشر بالفوز ، وتؤمل في الإصلاح ، وهذا لونها البهيح .
لست أتوقع - ولا من الخير أن أتوقع - أن يقضي على أدينا الحالي الذي يخدم المشاعر الفردية من غرام وشهوات جنسية وتحدث عن النفس ونحو ذلك ؛ فالأمم التي سبقتنا لم يخمد فيها هذا الأدب ، بل هو لابد منه في كل زمان ومكان ، ولكن وجد بجانبه الادب الاجتماعي الذي يخدم المصالح العامة ، فكان من هذا وذاك جوقة كاملة منسجمة تجاوب نوازع النفوس المختلفة
إن في كل أدب وفن الوضيع والسامي ؛ وأسمي الأدب ما يصلح حياة الناس ويغنيها ، وخير كتاب أدبي ما إذا قرأنه تلذذت من فنه ، ثم بعثك بفنه ومعانيه على ان تكون خيرا مما انت ، بإثارة عاطفة الرحمة او الشفقة عندك ، أو عاطقة الجمال في الذات والمعنى والطبيعة ، أو بإفهامك طبائع الناس كما هي ، أو إعجابك بالخير وكرهك للشر ، أو إضاءة أي جانب من جوانب الحياة ، أو أي قانون من قوانين الإنسانية ، أو تهييج ضميرك ليحق الحق ويبطل الباطل ، أو باستصراخك لنصرة العدل ومحارية الظلم ،
أو نحو ذلك ، فإن هو أثار عندك عكس هذه المعاني فهو الأدب الوضيع من وجهة النظر الاجتماعية مهما جاد فنه .
والأدباء من هذا القبيل السامي يحركهم نيل الغرض أكثر مما تحركهم المادة ، وينتجون إجابة لداعي النفس أكثر مما ينتجون للتجارة ، ويشعرون أنهم يتنفسون بفهم فإذا سكتوا اختنفوا .
لقد ثار الجدل عند الأدباء الغربيين حول الكتابة للمبدأ والكتابة للعيش ، فكان يري بعضهم ان الأدب الذي يستحق أن يسمى أدبا حقا ما غمر الكاتب شعورا باللذة لكتابته ، لا ما كان سدا لحاجة ، أو ملئا لخانة ، ولا ما حمل الكاتب على كتابته لاحبا في كتابته ؛ لأن الأدب الحق وحي ، والوحي لا يمكن القبض عليه وتحويله حيثما أراد الموحي إليه ، ليس هو كرة تدار ، ولكن صوت عميق من النفوس يسمع فيطاع .
ولكن ربما عد هذا غلوا في الرأي ، فكثير من الآثار
الأدبية القيمة ألفت تحت ضغط الحاجة إلي المال ، وبعض الأدباء ما كانوا ينتجون ما أنتجوا لولا بؤسهم المالى .
ومع هذا فمما لا شك فيه أيضا أن نوع الأدب الذي وصفناه بالسمو والرفعة لا يصدر إلا عن شعور بنبل الغرض ، ودافع من حب خير الإنسانية ، لأن النوع الأول _ وهو ما يكتب تحت الضغط المالي _ خاضع لتحكم تجار الكتب وأصحاب المجلات في نظرهم إلي ما يروج وما لا يروج ؛ وخاضع لمسايرة الجمهور في ذوقهم وتملقهم ، والضرب على الأوتار التي يحبونها ، وتقديم الغذاء الذي يشتهونه ، ولو كان فيه السم الزعاف .
أما الكاتب الملهم ، الكاتب الذي يتتفس بأدبه ، الكاتب الذي يكتب تحقيقا لغرض نبيل عنده ، فينتج ما ينتج رضي اشر الكتاب او لم يرض ، أعجب الجمهور أو لم يعجب ، بل كثيرا ما يدفعه نيل غرضه ان يصب غضبه على الجمهور لغفلته وغباوته ، ولو أدي ذلك إلي رميه بالحجارة ، واتهامه بالخيانة ، لأنه يريد أن يسير الجمهور لا أن يسيره الجمهور ، ويريد أن يجرعه الدواء ولو مرا لا الحلو ولو سما ويريد أن يكون قائدا للعامة لا مقودا بشهوات العامة.
ومن أجل هذا أتوقع متى نما هذا النوع الرفيع من الأدب أن تتبدل هذه النقمة الصارخة في أدينا ، وهي نقمة تملق الجماهير ، وتملق الشباب ، وتملق الشهوات الجنسية ، فنسمع اصواتا تنقد النقد الحر الجريء ، ولو أدي بصاحبه إلي البغض والكراهية والاضطهاد . إن الناس ألفوا ان يروا صورة ضيق نظرهم ، وسعة شهواتهم ،
وقداسة تقاليدهم ، معكوسة على النتاج الأدىبي ، فإذا لم يجدوها عند الكاتب كرهته العامة ولم يقدره إلا الخاصة ، وقليل ماهم . كم في حياة الأمم العربية من عيوب لا تصلحها حلاوة السكر ، ولكن مرارة الصبر ، ولا يصلحها الملق . ولكن تصلحها الصرخة القاسية ؛ وهذا لا يكون حتى يكون الأديب مؤمنا بعقيدته مؤمنا بغرضه ، يفضل الفقر
مع المبدأ على الغني مع الملق ، وهو ما أرجو أن يكون .
ثم أتوقع أن يستمر الأدب العربي في نموه من الناحية التحليلية ،تحليل الأشخاص وتحليل الظواهر الاجتماعية وتحليل العواطف الإنسانية ، وهكذا ؛ ذلك أن الأدب العربي كان إلي عهد قريب تغلب فيه النزعة التركيبية من أمثال الأمثال ، والحكم والتوقيعات ، والرسائل الموجزة ،
مما تصح كل جملة منها لو حللت أن تكون كتابا ؛ فلما اتصل الأدب العربي بالأدب الغربى تأثر من هذه الناحية ، فدخلت فيه النزعة التحليلية إلي حد ما ، وكل المظاهر تدل على انها ستنمو فيكمل فيه النوعان : النوع التركيبي والنوع التحليلي ، كما سيتضح فيه النوعان : النوع الفردي والنوع الاجتماعي . فأغني الأدب في نظري ماكانت فيه النزعتان الفردية والاجتماعية ، واستوت له الناحيتان التحليلية والتركيبية
والأدب العربي غزير فياض في الناحية التركيبية والفردية ، متخلف في ناحيته التحليلية والاجتماعية ، وهذا صدي لنوع البيئة الاجتماعية التي يحياها العرب ، فإذا تغيرت - وهو ما نحن مشرفون عليه - تلون الأدب بلونها ، وغني الغناء الذي يتفق ومشاعرها .
وناحية أخرى سيتجه إليها الأدب العربي لا محالة ، وهي " أدب الطبيعة ، فكم في بقاع الأمم العربية من بحار وأنهار ، وأزهار ، وجبال ، ووديان ، وحقول ،
ونحو ذلك من مناظر فاتنة تنتظر من يتغني بها ! وذلك يكون حيث ينمو الشعور بالجمال في هذه الأمم ، وقد عاقها في الماضي والحاضر عن هذا بؤسها وفقرها ، ووقوعها تحت نير الظلم والاستبداد ، ومن عدم القوت نظر إلي الرغيف ولم ينظر إلي باقة الزهر ، ومن قيد القيد الثقيل طمح إلي فك أغلاله قبل أن ينظر إلى العالم وجماله فما تقدم عليه الأمم العربية من نعيم بخيراتها ، واسترداد لحرياتها ، ونظر صادق لمعالجة شؤونها ، سيرفع مستواها ، سواء في ذلك حالتها الاقتصادية او الاجتماعية او السياسية ، ونتيجة
هذا أن يجعلها تفكر في المعاني ، وتسمو إلي الاستمتاع بالجمال ، فيدرك الأدباء بإلهامهم - الذي يسبق الزمن بعض خطوات - أن الأمة تتطلع إلي أناشيد الجمال ، وتطمح إلي من ينشد قصائد التغني بجمال الطبيعة في شتي نواحيها ، فيغنون والناس تتغني بأغانيهم ، وتردد أناشيدهم لأنها تجاوب مشاعرهم .
نعم ، إن في الأدب العربي كثيرا من شعر الطبيعة من عهد امرئ القيس إلى اليوم ، ولكنى أتطلع إلى نوع جديد في أدب الطبيعة - إن شعر الطبيعة في الأدب العربي أفسد كثير منه الفن السامي وفهم الشعراء أنهم كلما أجادوا التشبيه والاستعارة حازوا شعر الطبيعة ، من مثل قول الشاعر :
ولاح هلال مثل نون أجادها
بماء النضار الكاتب ابن هلال
وقول الآخر :
ورد بدا يحكي الخدود ، ونرجس
يحكي العيون ، إذا رأت أحبابها
ونبات باقلى يشبه نوره بلق الحمام مشيلة أذنابها
وقوله
وكأنما البرك الملاء تحفها أنواع ذاك الروض والزهر
بسط من الديباج بيض فروزت
أطرافها بفراوز خضر
وكثير من امثال هذا ، فهنا ما لا اريده ولا أتمناه ، ولا أعده إلا نوعا من البهلوانات التي تأخذ العين ولاشيء وراءها . إنما أريد بأدب الطبيعة أحد أدبين أدبا يفنى فيه الأديب في الطبيعة كما يفني الصوفي فيها ، ويذوب كما يذوب السكر في الماء ، فيتناغم هو والطبيعة ، وتنسجم نبضات قلبه بنبضاتها ، ويشعر أنه هو وهي شىء واحد ،
وينتشي من ذلك نشوة دونها نشوة الخمر والوصال ، فإذا انتشي غني بجمالها فمس روحك وأعداك بنشوته ، وشعرت بأنه يجذبك إلي الجمال ، حتى تحس ما يحس ، وأنه أثر
فيك بروحه وفنائه أكثر مما أثر بلفظه وتشبيهاته ومجازه ؛ وهذا النوع من الأدباء يتطلب فناؤهم وذوبانهم الميل أكثر ما يكون إلى الجمال الواسع _ إن صح هذا التعبير _بكمال البحار والصحراء والسماء والحقول الفسيحة ونحو ذلك ، لأنها أقدر بسعتها على امتصاص نفوسهم الواسعة ؛ أو أدبا يتشرب الطبيعة لا تتشريه الطبيعة ،
فهو يحتفظ بشخصيته ، ولكن يحققها ويوسعها بالطبيعة يتنسم جمالها ، وهؤلا أميل إلى الجمال المحدود بكمال الزهرة وجمال الصورة وجمال جدول الماء . وهم لاحتفاظهم بشخصيتهم يفضلون ما يذوب فيها على ما يذوبون هم فيه ،
بل قد يشعرون بالضيق للجمال الواسع ، لأن شخصيتهم تتضاءل أمامه ، وتصغر بجانبه ، وقد يرون فيه الحلال لا الجمال ؛ وعلى كل حال فإذا تذوقوا هذا الجمال المحدود ، ومزجوه بأنفسهم ، ووسعوا به مشاعرهم ، أخرجوه بروحهم وفنهم أدبا جميلا حيا يحيي من سمعه
وسواء هذا النوع أو ذاك ، فكلاهما يرفع مستوي الشعوب ، ويرقى شعورها بالجمال ، ويكون لذلك أثره الكبير في رقى الخلق ورقي الحياة الاجتماعية ، بل إذ ذاك يدركون أن الكذب والظلم والجبن قبيحة قبح المناظر المؤذية ، والصدق والعدل والشجاعة جميلة جمال الأزهار والبحار والأنهار والنجوم ، فيتعاون الشعور بالجمال والقبح مع إدراك المنفعة والمضرة ، وفي هذا ما يرفع الأمة درجات
كم في الشعوب العربية من يزور مغاني الجمال فيستمتع بها ؟ ومن يخرج إلي البساتين في الربيع فيهتز قلبه لها ؟ ومن يرتب في بيته الأزهار كما يرتب الخباز واللبان ؟ ومن يهمه جمال بيته كما يهمه هم بطنه . إن جمال الشرق وفير متنوع ، ولكنه لا يجد العين التي تنظره ، والروح التي تتفتح له ولا يفتح العين ويفتح القلب إلا أدباء ملهمون يوقفون الناس على سر الجمال ، ويهزون نفوسهم لتذوقه .
بقيت مشكلة يواجهها الأدب الآن ، وسيواجهها غدا ، نعرض لها في المقال الآتي إن شاء الله
