أهم ما امتاز به هذا الصديق - رحمة الله عليه - شيوع الحب في نفسه ، والسعة العظيمة في قلبه ، كان يحب الصديق ويفهم العدو فيحبه ، ويحب المؤمن وبرحم الكافر فيحبه ، ويحب الحيوان والأطفال
ويحب الأمة غير أمته والعبادة غير عبادته ، وكثيرا ما ينشد قول ابن العربي :
لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعي لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن أدين بدين الحب أني توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني
وقول ابن المعتز :
قلبي وثاب إلي ذا وذا ليس يري شيئا فيأباه
يـهيم بالحسن كما ينبغي ويرحم القبح فيهواه
واسع الصدر لكل رأي ، واسع النفس لكل عاطفة ، راحم حتى لمن أساء إليه ، كان يري أن الناس إذا فاض حبهم وضاق قلبهم عاشوا في كوخ مظلم ، وهو بسعة نفسه وسعة قلبه يعيش في قصر منير ، إنهم يلتصقون بالأرض وهو يحلق في السماء ، إنهم يشقون بالكراهة وهو يسعد بالحب ، إنهم يضجرون لضيق الأفق وهو يرتاح للانـهاية ..
يري كل شئ من الله ، فهو يحب الله ويحب ما صدر عنه ، ويري كل كراهية منشؤها الجهل ، فمن عرف عفا ، ومن عرف أحب .
له عين تري محاسن الأشياء ولا تري عيوبها ، كالمسيح مر هو وأصحابه على جيفة ، فقالوا : ما أنتن رائحتها ! فقال : ما أجمل بياض أسنانها !
انعدمت في نظره الفروق ، فاجتمعت المتفرقات ، واتلفت المتباينات ، فالدنيا كلها صفات الله تختلف بالأسم وتتحدد في المسمى . وكان يقول : " إذا رأيته لم تر غيره ، وإذا رأيت غيره لم تره " .
كان يحب أن يكون من عامة الناس لا من خاصتهم ، فهو لا يحب أن يتميز أمام الناس بعلم ولا بجهل ،
ولا بغني ولا فقر ، ولا بفصاحة ولا عي ، ولا اجتماع ولا عزلة . لذلك كان يختار من اللباس ما لا يمتاز بشيء ، ولا يحب أن ينتمي إلي هيئة ولا جمعية ، ولو كانت جمعية
صوفية ، ولا أن يظهر منه ما يدل على تصوفه . يعرفه الناس تاجرا كسائر التجار ، لا يمتاز عنهم إلا بتحري الصدق في القول والسماحة في المعاملة ، أما جانبه الصوفي فلا يعرفه إلا اثنان أو ثلاثة من خاصة أصدقائه .
كان يري الطبيعة كتاب الله المفتوح ، فأشجاره صفحة ، وإنسانه صفحة ، وبحاره صفحة ، وكل شئ فيه صفحة ؛ ولكن إن كانت الكتب لا تفهم إلا بواسطة اللغة ، فكتاب الطبيعة المفتوح لا يفهم إلا بالقلب المفتوح ، فإذا انبهم القلب انبهمت الطبيعة ؛ فكان إذا رأي القمر يشع من خلال اوراق الشجر قال : هنا موضع سجدة ، وإذا جلس على شاطئ البحر فرأي تلاعب الرياح بالأمواج فزع إلي الصلاة . وكان يقول إن قلبه
يخـفق في الريف اكثر مما يخفق في المدن ، وينبض عند الطبيعة العارية أكثر مما يقبض في المدن الكاسية ؛ وكان يعجبه من الكتب المقدسة أنـها كتب تدل علي كتاب الطبيعة .
كنت ألاحظ دائما أن تقويمه للناس والأشياء يخالف تقويمنا ، وميزانه يخالف موازيننا ، أري الناس يقومون الناس بقوتـهم وبجاههم وبمالهم وبمقدار النفع الذي يتلقونه من أيديهم ، والضرر الذي يتقونه منهم ؛ ثم آراه شاذا في ذلك شذوذا غريبا ، فيصطفى من لا يصطفي ،
ولا يحتفل بكثير ممن يحتفل به ، وله في ذلك فراسة نادرة ، فهو يستفتي قلبه ولا يستفتي عقله ، ويحكم روحانيته ولا يحكم ماديته . حدثته في ذلك فقال إني لم أصل إلي ذلك إلا برياضة نفسية شاقة علمتني اليقين بأن النفع والضر بيد الله وحده ، والإيمان بأن خير الناس انفعهم للناس ، وألا أدخل في موازيني المظاهر من حسب أو نسب ، وغني أو جاه وقوة بالنصب وعظمة بما يفني . اقرأ إن شئت : " أما من استغني فأنت له تصدي "
وما عليك ألا يزكي ، وأما من جاءك يسعي وهو يخشى فأنت عنه تلهي ! " . وهو مع اختلافه عن الناس في التقدير ، لا يمعن في التحقير ، فهو يعجب بالأعلى ويرحم الأدنى ، ويكبر العظيم ويحنو على الوضيع ، فالله يتجلي على كل شئ بما ينسجم وطبيعته ، فهو الدافع الخافض . وهو المعز المذل .
أحب حتي غمره الحب ، ولم يتركز حبه في إنسان ولا في اسرة ولا مال ، بل شع على كل شيء ، وشع من كل شئ على قلبه ؛ فكنت تقرأ الحب في عينيه وفي بسمته وفي نظرته للبائس والمجرم ، وفي دمعته تنحدر
للكارثة تحدث لمن يعرف ومن لا يعرف ، وفي المال يخرج من جيبه للسائل والمحروم .
وكان يحب السماع حبا عجبا حتى كأنه غذاؤه الذي يعيش عليه ، وأ كثر ما يعجبه من النغمات الحزين الباكي ،
وهو يحب السماع على اختلاف أنواعه من قرآن يتلي بصوت جميل ، أو غناء لمذكر أو مؤنث أو موسيقى أو نشيد ذكر ، وله في ذلك طرف ، فقد سمع مرة بائعا
جوالا ينادي على سلعة بصوت اعجبه ، فتبعه إذا وقف وقف وإذا سار سار ، حتى نسي غرضه وفوت مقصده ,,
وكان السماع يوحي إليه بالمعاني الغزيرة ، فتراه وهو يسمع وقد كاد يغيب عن وعيه لكثرة ما يفكر فيما اوحي إليه سماعه .
أعجب ما كان يعجبني منه موقفه أمام الكوارث والمصائب ، فقد يصاب في ماله وقد يصاب في ولده فإذا هو مطمئن ثابت كأنه فيلسوف يري فقدان الولد كما يري القانون الطبيعي في ذبول الوردة وسقوط أوراق الشجر ،
قد يحزن ولكن لا يلتاع ، وقد تدمع عينه ولكن لا يتماع ؟ بل كان أكبر من الفيلسوف ، فقد رأي الدنيا على حقيقتها فلم تخدعه ، وتمثلت له كما تتمثل الرواية على الشاشة البيضاء ، ففهم ما سيكون واطمأن إلي ما يحدث ، فلم يفجأه الحادث فيفزع ، ولا الموت فيجزع ، فهو مطمئن عند الأخذ والعطاء ، والصحة والمرض ، والموت والحياة .
كان يري أن الدين روح ، وإذا كان روحا فهو خالد خلود الروح ، وان خير ايام الأديان أيامها الأولى ، لأنها تكون حية حياة الروح ، ثم تفقد روحانيتها شيئا فشيئا ، وتتجسد بأشكالها ، فتكون تافهة تفاهة الجسد ، ميتة ميتة الجسد ؛ ومن حين الى حين يبعث الله من يفهم روح الدين ويحيي بها ويدعو لها ، وقليل ما هم . كان يسمع القرآن فيولد منه معاني بعيدة حسب
مزاجه الرمزي ، لا يزعم أنها تفسير ، ولكن يقول إنها إلهام الآية كما تلهم المناظر الجميلة المعاني الجميلة في قلب الفنان والشاعر.
ولست أنسي رمضاناَ من الرمضانات منذ عشرين عاما ، قضينا لياليه في بيت صديق طبيب ، انعم الله على أبيه بالثراء وبنعمة الأيمان ، وبمحافظته على تقاليد
البيوت القديمة ؛ فكان رمضان في بيته منظرا جميلا من مناظر المسلمين قبل أن تغزوهم المدنية الحديثة ؛ فتري على باب البيت عند الأفطار طائفة كبيرة من الفقراء
يوزع عليهم الطعام ، ويفطر علي المائدة أشكال وألوان من أصدقاء أبيه ، ويسمع أذان المغرب والعشاء من داخل البيت ، ويتعاقب بعد صلاة العشاء والتراويح
ثلاثة من أحسن القراء صوتا وأصحهم أداءَ .
فكنا نجلس ثلاثتنا نستمع للقرآن ، ونتحدث حول ما نسمع من آياته، فكان صديقنا الصوفي يغرب في التأويل ، وأبدع ما كان عند تأويله قصص القرآن على أنها رمز ، كفهمه لقصة آدم وحواء ، وقصة إبراهيم وابنه الذبيح ، والاسراء ، ونحو ذلك ، لعلي اجهد ذاكرتي يوما فأستحضر ما كان يقول - رحمة الله عليه
