الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 107الرجوع إلى "الثقافة"

٢ - هل يتقدم الانسان ؟

Share

رأينا في المقال السابق أن جمهرة المفكرين بعد النهضة كانوا يؤمنون بأن الانسانية تسير في طريق التقدم ، ولم يشذ عنهم سوي ( روسو ) الذي عاد إلى التمدح بالعصر الذهي القديم . وكان ( روسو ) يعتقد أن الإنسان يجلب لنفسه أسباب الألم والشقاء كلما ابتعد عن حياة السذاجة والبساطة . والإنسان عنده يميل إلي الخير بطبيعته ، ولكن هذه المدنية التي ينشأ فيها شر كلها ، لأن العلوم والفنون المختلفة تفسد النفوس والأخلاق . ويتخذ روسو من التاريخ شاهدا على ما يقول . فقد تقدم العلم عند اليونان والرومان وأهل الصين ، فساد البؤس والشقاء بين الناس . أما الفرس والجرمان فقد عاشوا عيشا سعيدا لأن الجهل كان من أهم ما يميزهم من صفات . ويقول روسو إن الانسان لم يعرف الملكية إلا بعد ما اشتغل بالزراعة . حينئذ تقسمت الأرض بين الأفراد ، وظهر الغني والفقير ، فخرج الناس عن قاعدة المساواة القديمة . وفي هذه التفرقة بين الأفراد أس الشقاء . ثم أخذ الانسان يتقدم في علمه ونظمه ، ولكن التقدم لم يشمل سوى طبقة الأغنياء ، أما الجماهير فقد لبثت إلي يومنا هذا فقيرة جاهلة .

ويحاول تشاسئلكسChastellux  أن ينقض نظرية روسو ، ويقول بأن هذا الانسان الأول الذي نادى به روسو لا تعرف عنه شيئا ما ، ولذا فإنا لا نستطيع أن نحكم - ونحن على ثقة - بأنه كان أسعد منا حالا . فان أردنا أن نقدر عصرنا هذا حق قدره ، فانما ينبغي لنا أن نقيمه إلي فترة تاريخية معروفة ، لا إلى مصر ذمي خيالي . ويتتبع تشاستكس مراحل التاريخ ، ثم ينتهي

إلي الحكم بأن الانسان لبث يعاني صنوفا من الشقاء وضروبا من الذل ، من عهد قدماء المصريين حتى النهضة الأوربية . ثم أخذ يسعد حالا بعد النهضة لا لتقدم العلوم وحسب - لأن العلم وحده لا يكفي لتوفير أسباب الهناء ، فقد انتشر بين الأغريق ومع ذلك بقيت كثرتهم تكابد ذل الرق والبؤس - ولكن لانتشار السلم ، وذلك لأن الكاتب عاش في عصر ساد فيه السلام بعد فترة طويلة تطاحنت فيها شعوب أوربا ، وقاست فيها أهوالا جسيمة . ثم يثبت بعد هذا أن عدم المساواة لا يؤدي حتما إلي الشقاء ، فقد يسعد المرء في خضوعه لغيره ، وقد يشقي في سيادته وعناء . هذا إلى أن الحكم على سعادة الفرد أو شقائه بسعادة المجموعة أو شقائها خطأ ينبغي أن لا يقع فيه الباحث ، لأن السعادة أمر نسبي ، وتتوقف على انسجام الفرد مع الجماعة التي يعيش فيها ؛ فان كان متفوقا وسط جماعة متأخرة كان أسعد منه متأخرا بين جماعة متقدمة . ولما كان الحكم على سعادة الأفراد عسيرا هكذا ، فان ( أوجست كمت ) يقول بأنا يجب أن نبعده عن الميدان عند البحث في موضوع المدنية .

واندلع بعد هذا الهيب الثورة الفرنسية . ومن كتاب هذه الفترة التاريخية الذين بحثوا في تطور الإنسان Condorcet ( كوندرسيه ) . وكان شديد الثقة في العلم ، يعتقد أنه يعمل على محو الرق بين الطبقات وبين الأمم ، وعلى قتل جراثيم المرض ، ويمد أجل العمر ، ويخفف وبلات الحروب . ولذا فهو في بحثه التاريخي لا يقسم التاريخ وفقا لتطورات السياسة ، وإنما التاريخ عنده يتبع مراحل التقدم العلمي ، وهو يقع في عشر فترات ، انقضي

منها تسع ، وبقيت واحدة للمستقبل . وقد تكونت الجماعات البدائية في الفترة الأولى ، وعرف الانسان الرعي في الفترة الثانية ، والزراعة في الفترة الثالثة ، وانتهت هذه الفترة باختراع الكتابة . وتشمل الفترة الرابعة تاريخ الفكر اليوناني وتمتد حتى أرسطو الذي قسم المعارف علوما مختلفة . وتأخذ العلوم في التقدم خلال الفترة الخامسة ، ولكنها تنحط قليلا في عهد الرومان . وتشمل الفترة السادسة العصور الوسطى المظلمة وتمتد حتى الحروب الصليبية . وفي الفترة السابعة يتهيأ العقل البشري للثورة الفكرية التي تشملها الطباعة . وفي الفترة الثامنة تتغلغل العلوم بين طبقات الشعب لذيوع الطباعة وانتشار الكتب . وتبدأ الفترة التاسعة بثورة ديكارت العلمية ، وتقديسه للعقل ، وتنتهي بالجمهورية الفرنسية . وهكذا تستمر الانسانية في سبيل التقدم حتى تبلغ الكمال في الفترة العاشرة ؛ وحينئذ تسود المساواة بين الناس ، والمساواة عنده هي سمة الكمال وأهم مميزاته . وكوندرسيه في هذا لا شك متأثر بروح الثورة الفرنسية .

وكما شغل البحث في تقدم الانسان أذهان الفرنسيين في القرن الثامن عشر ، كذلك نعرض له فلاسفة الانجليز ، وكان هؤلاء أشد تفاؤلا من زملائهم في فرنسا ، لأن حكومتهم كانت أشد من الحكومة الفرنسية استقرارا ، ونظامهم اقرب إلى العدل والمساواة ، والحكومة عندهم أداة لحفظ الأمن والنظام ، لا وسيلة للاصلاح والترفي ، لأن الانسان مدفوع إليهما بطبعه ، وليس بحاجة إلى من يرشده في ذلك سواء السبيل . ويتمثل رأيهم جميعا في عبارة Pope ) بوب ( المشهورة : ((whaterver is, is right)) أي ) كل ما كان فهو خير ( ، ومن المتقائلين الانجليز )هيوم ( و ) آدم سمث ( و ( جين ) و ( جدوين ) ولم يشذ عنهم غير Malthus )مالتس ( لانه كان يخشى ان يطرد ازدياد

السكان حتي تشح موارد الرزق في العالم .

وإلى جانب المدرسة الانجليزية كانت تقوم المدرسة الألمانية . ومن زعمائها ( كانت ) ، وكان يري أن العقبة الوحيدة في سبيل الترقي هي الحروب ، ثم ( هجل ) وكان يعتقد أن الانسان يتقدم بتحقيق الحرية ، وأن التاريخ يسير في هذه الطريق من قديم ، فقد بدأت المدنية في الصين ، ثم انتقلت إلى الهند وإلى غربي آسيا ، ثم سارت من الشرق إلى بلاد اليونان ، ثم إلى الرومان ، وأخيرا إلى العالم الجرماني . وكان الناس في الشرق يعتقدون أن الحرية لا تتوفر كاملة إلا لفرد واحد ، ولذا فقد كان حكمهم يقوم على نظام الملكية المطلقة التي يستبد بها فرد واحد ، هو وحده حر في كل ما يفعل وكل ما يريد . أما اليونان والرومان فكانوا يعتقدون أن الحرية تتوفر لبعض الناس دون بعضهم الآخر ، ولذا فقد كانت حكومتهم مزيجا من الإرسقراطية والديمقراطية ، أما العالم الحديث فيري أن الناس جميعا أحرارا ، ولذا فحكومتهم هي الملكية المستنيرة التي يتمتع فيها كل فرد بقسط وافر من الحرية .

ثم أخذت فكرة التقدم بعد هذا تتطور ، وتتخذ أشكالا متنوعة ، وتستطيع أن نقول إن Coene )كlت ( نحو مؤسسها الحقيقي . وقد حاول هذا الفيلسوف أن يضع لارتقاء البشرية قانونا ثابتا ، فقسم الفكر الانساني إلي مراحل ثلاث : المرحلة الاولى وهي المرحلة الدينية ، وفيها حاول الانسان أن يفسر الظواهر الطبيعية بفعل الآلهة وتأثير الدين . والرحلة الثانية ، وهي المرحلة الميتافيزيقية ، وفيها يحاول الإنسان أن يفسر ظواهر الكون بالتأمل وبالفكر المجرد . ثم المرحلة الأخيرة ، وهي المرحلة العلمية ، وفيها يعتمد الانسان على الملاحظة ، والتجربة وأرقى المراحل واثبتها اساسا هي الرحلة الثالثة . ولكن فروع العلم المختلفة لا تبلغ مرحلة واحدة في آن

واحد ، فقد يبلغ بعضها المرحلة الميتافيزيقية بينما يتخلف بعضها الآخر في المرحلة الدينية ، وقد يرتفع بعضها إلى المرحلة العلمية ، ويبقى بعضها الآخر في المرحلة الميتافيزيقية . فبأي فرع من فروع العلم إذا نفيس حضارة الانسان ؟ يدي ( كمت ) أن العلوم الاجتماعية هي معيار المدنية ، لأن معارف الانسان جميعا إن هي إلا وسائل متنوعة لرفع مستواه الاجتماعي والخلقي والعقلي ، ولا قيمة للتقدم المادي إذا لم يعقبه تقدم في النظم الاجتماعية . وقد اجتاز الانسان المرحلة الدينية عام ١٤٠٠ م . ثم انتقل إلي المرحلة الثانية ، وقد أوشك أن يجتازها هي الأخرى ، وينتقل إلي المرحلة العلمية التي كان (كمت ) نفسه يمهد سبيلها .

ومن الباحثين المعروفين في تاريخ المدنية في القرن التاسع عشرلBockle (بكل) ، ومن رأيه أن المدنية القديمة كانت تخضع الانسان للطبيعة ، بينما تخضع المدنية الحديثة الطبيعية للانسان . ولما كانت قوى الطبيعة ثابتة لا تتغير ، على خلاف قوى العقل التى تنمو باطراد ، كانت المدنية الحديثة قابلة للتقدم والتطور ، وهي في هذا على نقيض المدنية القديمة الجامدة ، وقوى العقل إما علمية أو خلقية . ويتساءل ( بكل ) تأبهما أقوى أثرا في سير المدنية ، وأيهما يصلح مقياسا لها ، العلم أم الخلق ؟ وهو يرى - جوابا علي هذا - أن معايير الأخلاق لم تتغير كثيرا منذ آلاف السنين ، أما العلوم فتتقدم تقدما حثيثا ملموسا ، ولذا فالعلم هو مقياس الحضارة الحق ؛ والتقدم العلمي - فوق هذا - أقوى أساسا من التقدم الخلقي ، لأن الأول يسحل في الكتب ، وينتقل من الآباء إلي الأبناء ؛ أما الثاني فيكاد كل فرد أن يبدأ من جديد دون ان يفيد من خبرة السابقين وحكم الغابرين . فعلى تقدم العلوم إذا يتوقف سير المدنية إلى الأمام .

ثم أخذت فكرة التقدم تقوى تدريجا في القرن التاسع

عشر ، وتجد لها الأعوان والأنصار ، وبخاصة بعدما أذاع ( دارون ) نظرية التطور التي تقول بأن الانسان قد نشأ عن نوع دنيء من الحيوان ، وأخذ يصمد في سلم الترفي من الناحية الجسمانية .

واخذ ( سينسر) نظرية التطور عن ( دارون ) وطبقها على الاجتماع والاخلاق ، واستنتج أن الانسان يرتقى في ناحيته الروحية كما يرتقى في الناحية الجثمانية . ويقول ( سبنسر) إن كل شئ في الوجود يتغير ولا يثبت على حال ، فليس من المعقول أن يبقى الانسان وحده نافرا لا يخضع لهذا القانون العام .

وأخذ الفلاسفة بعد هذا يتعرضون لهذه الفكرة ، ومنهم المتشائمون من أمثال ( جيته ) و ( شوبنهور ) و ( نيتشه ) ، ولكن كثرتهم تميل إلي التفاؤل .

وبعد ، فهذا عرض موجز لآراء الفلاسفة والمفكرين في تقدم الانسان . ومنه يتبين أن فكرة الترقي ترجح فكرة التدهور أو الجمود ؛ فليس من الشطط أو حمق الرأي أن ننظر إلى الحياة ياسمين ، وأن نشخص بأبصارنا إلى السماء تخترق بها هذه السحابة الكئيبة التى تخيم على العالم اليوم . وليس ببعيد ، بل إنا لعلى يقين ، أن الانسان بعدما يخرج من هذه الحرب التي يصطلى سعيرها سوف يتابع سيره نحو الخير والنور .

اشترك في نشرتنا البريدية