الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 695الرجوع إلى "الثقافة"

٣٨ - خاطرة

Share

دخلت مرة على عميد كلية بيروت ، وهي المشيدة البناء ، الواسعة الفناء ، الكثيرة الغرف . التي غنيت بمكتبتها وحجرات دراساتها ، وملاعبها  فكنت لذلك أتصور حجرة العميد فخمة ضخمة مملوءة بالأثاث الفاخر . والرياش الكثيرة . فما راعني إلا أن وجدتها غاية في البساطة ، ليس فيها إلا مكتب متواضع للعميد ، وسجادة متواضعة على الأرض ، وبعض كراسي عادية ، ولا مروحة للصيف ، ولا مدفأة للشتاء ، ولا زهرية على المكتبة فيها أزهار ، ولا غير ذلك . ولكنها مع ذلك نظيفة رائعة جميلة

ذكرني ذلك بمكاتب الموظفين وفخمتهم وتأنقهم في فرش حجرهم . وبالسيارات الفخمة لكبار الموظفين . وذكرني بما كتبه ناقد سويسري ، وقد زار مدينتنا الجامعية ، فاستغرب من ضخامتها وفخامتها ، وكثرة ما انفق عليها . وأنها تسع ستمائة طالب ، فيها أكثر من ستمائة وعاء للشاي ، لأن كل طالب له وعاء . في حين أنه يمكن عمل حوض بصب فيه الشاي ، حنفية يملأ منها كل طالب فنجانا.

ثم المبالغ الضخمة التي بنيت بها هذه المدينة ، وفتح لها الاعتماد تلو الاعتماد . وليس ضرر هذه الفخفخة مقصورا على هذه الأموال التي تبعثر ، بل إننا بذلك نعد شبانا يكرهون ريفهم ، بل وعيشتهم في المدينة ، لأنهم تعودوا النعيم في مسكنهم ومشربهم .

قلت : إن هذه الفخفخة هي الطابع المصري الغريب . إني أعرف أستاذا إنجليزيا في جامعة يلبس لباسا مرقعا ، ثم له بدلة نظيفة أنيقة ، لا يلبسها إلا يوم الأحد . وأرى الشبان المصريين يسرفون في ملابسهم ، ويتأنقون في مناديلهم ورباط رقبتهم ، حتى كأنهم دمى .

وأقارن بين مؤتمرات أوربا ومؤتمرات مصر ، فأرى مؤتمرات أوربا بسيطة ، إن دعوا إلى شاي فشاي بسيط ، بجانبه لقمة من " الكعك " أو نحوه ، ثم لا شئ غير ذلك . ثم انظر إلي مؤتمراتنا ، فأرى أكلا كثيرا وشربا كثيرا ، وكل ما شئت من ترف ونعيم . ولا حساب المال يتدفق ولا للسخرية بعد ذلك تنالها من المدعوين

ثم أسمع أن وزارة المعارف لما أرادت نشر التعليم الأولي قدرت أن ما ينبغي صرفه على بناء كل مدرسة أولية هو ستة آلاف جنيه ، وهذا ما يعجز ميزانية الدولة من تعميم التعليم ، إذ يأتي بعد ذلك للمعلمون والمعلمات ومرتباتهم إلي غير ذلك . فكيف إذا نكافح الأمية ونعمم التعليم ؟

وعلى هذا المنوال نرى الفخفخة في كل مرفق من مرافق الحياة : في الموائد تقام وفي المآتم والأفراح ، وفي حلي المرأة وفي فساتينها وفروها وغير ذلك .

أنا على يقين من أن ميزانية الدولة لو وضعت في يد حكماء لاستطعا أن تصرف على هذه الأشياء عشر ما يصرف عليها الآن أو أقل من ذلك .

ما علة هذا الإسراف ؛ علته أولا أننا أصبنا بمركب النقص وأحسنا بضعفنا وحقارتنا ، فأردنا أن نغطى ذلك بفخامة مظهرنا . وقد أنصف العرب إذ سموا المرأة الجميلة التي يغنيها جمالها عن زينتها بالغانية .

وثانيا ماورثنا هعن الأتراك من حب للفخفخة والتظاهر . ولكن أما آن لنا وقد شعرنا بحاجتنا ، ورأينا تصرفات غيرنا ، أن يكون شعارنا البساطة في كل شئ ؟ وللبساطة جمال خير من جمال التعقيد !

اشترك في نشرتنا البريدية