كان الأقدمون على معرفة تامة بثلث مجموع العقاقير الطبية المستعملة اليوم . فعرفت مصر القديمة منافع عود الند أى الصبر وزيت الخروع والعرعر والنعناع والمر . واستعملت الهند الأفيون والجوز المفيئ والحشيش . واستخدمت سوريا معظم عقافير مصر وما أكتشفته بنفسها من العقاقير الأخرى وزيت اللوز وبزر الينسون والعرق سوس . أما اليونان فامتازت بالإستفادة مما تفتقت عنه العقول المصرية والهندية والأشورية فى ميدان العقاقير ، مضيفة إليها بعض ما كشفت عنه من العقاقير كالبلادونا أو نبات ست الحسن والقرفة والزنجبيل والراوند .
ثم جاء العرب فأضافوا طائفة كبيرة جدا من العقاقير على القائمة الاغريقية ، فنصف العقاقير المستعملة اليوم كان يعلم بها أطباء العرب من نيف وألف عام .
ثم زادت قائمة العقاقير باكتشاف أمريكا ، فأبلت فى القرن السابع عشر امراة حاكم ثم بيرو من الحمى بتعاطى مزيج مستحضر من لحاء شجر الكينا الذى جلبه إلى أوربا فيما بعد أحد الأباء اليسوعيين ، فاقره الأطباء من ثلاثة قرون خلت لمعالجة حمى الملاريا ؛ وما انقضت فترة يسيرة حتى ابتاعت الحكومة الفرنسية من أمريكا شيئا من " Ipeccac " ( عرق الذهب المقئ ) على اعتبار أنه شفاء ناجع لا يعرف كتهه ، ودفعت ثمن ذلك ألف جنيه فرنسى ذهبا .
وقد استعمل آلية " Ipeccac "بنجاح عظيم فى معالجة الدسفتاريا . أما المادة الثالثة المستجلبة من أمريكا فالتبغ
المهدئ للأعصاب وهو غنى عن التعريف .
وكانت الجرع الشافية فى أول الأمر تستحضر من جميع هذه النباتات ، إما عن طريق سحقها أو نقعها فى الماء أو إذابتها فيه . ثم تطورت دولة العقاقير الطبية منذ نيف ومائة عام بفضل اكتشاف العلماء إمكان استخلاص ذلك الجزء من النبات الحاوى لمادته الفعالة التى هى قوام القوة الشافية فيه . فاستخرج الكنين من نبات الكينا بعد أن دلت التجارب العلمية على أنه مادة الشفاء فى هذا النبات ، واستخرجت مادة المورفين من األفيون ، ومادة الإستركنين من الجوز المقيء " Nux Vomia "وهلم جرا . . وقد وجه العلماء جل نشاطهم خلال القرن التاسع عشر إلى استخراج القوى الفعالة من النباتات .
وفى أوائل القرن العشرين نشأت حركة نشاط جديدة بانصراف الجهود إلى تعيين نوع الدواء لنوع الداء ، إذ لم يكن العالم منذ ثلاثمائة سنة يعرف سوى خاصية أدوية ثلاثة معينة لأدواء ثلاثة معينة أيضا ، وهى الزئبق فى معالجة الزهرى ، وعرق الذهب المقئ Ipeccac فى معالجة الدسنتاريا ، والكينا فى معالجة حمى الملايار . وكان البول أرلخ احد يهود ألمانيا نصيب وافر من هذه الحركة ، فقد توصل لمعرفة أن أنواعا معينة من الجراثيم تتأثر بأنواع معينة من الأصباغ ، فإذا هو اهتدى إلى معرفة نوع السبغة المنشودة فقد يتمكن بواسطتها من قتل الجراثيم فى جسم الانسان .
حول أرلخ نشاطه بعد ذلك إلى ما تحمله ذبابة Tse. Tse إلى الانسان من جراثيم ينجم عنها داء مرض النوم الأفريقى ، فاهتدى بعد البحث والتحليل إلى صبغة من الأصبغ تكفل قتل ميكروب مرض النوم فى جسم الانسان .
ثم عمد بعد ذلك إلى معالجة جراثيم الزهرى محاولا إجاد طريقة لقتلها فى الجسم دون أن يصاب الجسم نفسه بضرر أو تلف ، فهداء البحث إلى معرفة أن مستحضرا معينا من مادة الزرنيخ يحقق أمنيته ؛ وبعد أن أجرى ستة وستمائة بحث اهتدى إلى إيجاد المادة المنشودة لقتل جراثيم الزهرى فى الجسد دون أن يمس الجسد بسوء .
ومهما عظم مبلغ ما نالت هذه التجارب من النجاح الباهر ، فهى لم توفق إلا فى إبادة الأنواع الكبيرة من المكروبات المعروفة باسم البروتوزوا ، ولم يكن لها تأثير يذكر فى القضاء على البكتريا ، تلك الجراثيم الدقيقة التى هى أشد فتكا بالإنسان وأعمق أثرا فى الجسم من الجراثيم التى تكبرها حجما .
على أن لستر كان أول من توصل إلى قتل البكتيريا وإبادتها فوق موائد العمليات الجراحية بعد أن أرشد باستير إليها وإلى طبائعها ، وبعد أن أقام كوخ الحجة على أن هذه العلة أو تلك إنما تنشأ عن وجود هذا النوع أو ذاك من الحراثيم فى الجسم .
أدرك لستر أن تعفن الجروح وتقيحها غب العمليات الجراحية ناشئ عن وجود البكتريا ، فأخذ يعمل على إبادتها ، وكان قد تراى إلى علمه من قبل نجاح حامض الفنيك فى تطهير المجارى والبالوعات وما إليها ، وإراحة الناس من رائحتها الكريهة ، فجرب استعمال هذا الحامض فى تنظيف جلد المرضى قبل إجراء العمليات الجراحية ، وفى تطهير صالة العمليات نفسها قبل العمليات وفى أثنائها ، وتعقيم كل ما يتصل بها من آلات جراحية وغيرها . والواقع أنه
لم يكن ينجو من براثن الموت قبل لستر سوى قرابة ٥٠ % ممن دفعهم نكد الطالع إلى مدية الجراح ، على حين يذهب الاقون صحية التسمم . أما اليوم فقد أصبح خطر التسميم غب العمليات الجراحية أقل خطرا من عبور الطريق فى بلد كثرت حركته واشتد زحامه . بيد أن البحوث لايجاد دواء خاص لكل مرض معين لم تتقدم التقدم المنشود . فالمواد المطهرة التى كانت تستعمل لقتل الميكروبات خارج الجسم ثم تكن صالحة لقتل الحرائم داخله دون إتلاف الأنسجة فيه ، فيكون الدواء شرا من الداء .
ولكن حدث فى يوم عيد الميلاد ٢٥ ديسمبر سنة ١٩٣٢ تطور جديد فى هذا الميدان لا يقل أهمية عن أى تطور آخر خلال المائتى سنة الأخيرة ، إذ حدث فى ذلك اليوم أن سجل ثلاثة كيماوين فى أحد معامل الأصباغ بألمانيا نوعا جديدا من الصبغة ؛ بيد أن الاكتشاف الجديد وإن يكن ذا أهمية كبيرة فى ميدان الصباغة إلا أن الناس خارج هذا الميدان لم يولوء شيئا من العناية ، بل مروا عليه مر الكرام ، ثم ألم تكن هذه الصبغة الجديدة قد أعدت لاستخدامها في تلوين المنسوجات ؟ ولكن لم تكد تمضى فترة قصيرة من الزمن حتى اكتشف أن هذه الصبغة الجديدة المسماة " Pornlosil " كان لها تأثير كبير على الميكروبات وأنها تبيد هذه الميكروبات فى الجسم دون أن تؤثر على أنسجته ؛ وفي الحال أخذت انجلترا وفرنسا وأميركا فى مواصلة البحوث العلمية ، فتبين أن صبغة البرتنسيل إنما استطاعت قتل الجراثيم فى الأجسام لأنها توجد بها أى بالأجسام مادة أخرى تسعى " Sulbhanihamide " وهى التى عليها مدار القول ، إذ أنها كانت تؤدى نفس ما تؤديه صبغة ال " pronlosil " وأزيد من ذلك ، كانت هذه المادة شديدة الفتك بالجراثيم المسماة " Steptocoeus " التى تسبب موت الأمهات فى دور حمى النفاس بعد الوضع . وهى أيضا مسببات التهاب العشاء السحائى أو الحمى الشوكية
ومسببات داء الحمرة وكثيرا غيرها من العلل . وفى جميع هذه الحالات كانت مادة (( Sulphanilamide))ذات أثر بعيد فى إفادة الجراثيم وتعجيل الشفاء بطريقة تكاد تكون من المعجزات .
ولم يكن هذا كل ما كالت به البحوث العلمية من النجاح فقد استطاع أحد المعامل الكيمياوية فى بريطانيا العظمى أن يحضر مادة قريبة الصلة بمادة((Sulphanilamide)) وكأنها شقيقة صبغة الProntosil)وتعرف هذه المادة الجديدة فى أنحاء العالم أجمع)) ((M S B٦٩٣وهى تعمل عمل (( ال Sutphanilamide)) و (( ال Prontosll)) معا وتزيد على فعلهما كثيرا . فهى لا تقتل جراثيم (( ال Streptococcus)) فحسب ، بل تقتل كذلك جرثومة أخرى اسمها (( Pneumococcus)) تصيب الرئة ، ومسببة الالتهاب المعروف بالالتهاب الرئوى . وتصيب كذلك غشاء العمود الفقرى مسببة الحمى الشوكية أيضا ، كما أنها قد تصيب الآذان فتسبب الصمم بها ، وهى تصيب الكبير والصغير على حد سواء ، وتقضى على كثير من الرجال والنساء فى ربيع العمر وعنفوان الصبا . وقد كانت نسبة الوفاة من الالتهاب الرئوى قبل اكتشاف(( M S B ٦٩٣)) منذ سنتين بنسبة واحد فى كل أربع إصابات . وقد هبطت هذه النسبة فى العام الماضى إلى واحد فى كل اثنتى عشرة إصابة . وتدل الشواهد على أن هذا الهبوط فى نسبة الوفاة بالالتهاب الرئوى مستمر فى النقصان ، والواقع أن مرض الالتهاب الرئوى قد أصبح من العلل الصغيرة أكثر من أى شئ آخر . ولعلك متسائل بعد ذلك : من هم أركان الأساوة بواسطة العقاقير ؟ يقينا كان أرلح أحدهم ، لأنه كان الرجل الذى مهد الطريق لمعالجة داء معين بدواء معين أيضا ، ويقتل أنواع خاصة من الجراثيم بأنواع خاصة من العقاقير . وكان لستر من عمد الطب أيضا لأنه أنشأ فن الجراحة الحديثة .
ولم يحن الوقت بعد لتعيين أجدر إنسان بوضع إكليل الغار على هامته لفضل اكتشاف الطائفة الأخيرة من العقاقير ، فقد كشف (( ال Prontoail)) كيمياوى ألمانى الجنسية ، ووجد (( ال Sulphamilamide)) فى انجلترا وفرنسا وأمريكا ، ولا يزال ، ويجهل اسم مكتشف (( ال M S B ٦٩٣ )) إذا صح أن هنالك مكتشف له ، ومهما يكن من شئ ، فالذى يهم البشرية المستشفيات والعيادات الطبية التى تجنى ثمار هذه المكتشفات العظيمة .
