الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 492الرجوع إلى "الرسالة"

٣ -الشوقيات

Share

توت عنخ آمون - لعنة الفراعنة - حقيقة أقرب من الخيال - بين حافظ وشوقي - بين الظلم والعدل- أحقاد العبقرين - الاعيب الخلوظ - توضيح- النونية الأمونية - ثورة الجيل - خلاصة البعث

توت عنخ أمون

فى الجزء الثاني من الشوقيات قصيدتان فى توت عنخ آمون ، ولهاتين القصيدتين قيمة عظيمة ، فقد صرح شوقي نفسه أن أعظم قصائده هي النونية الأمونية :

درجتْ على الكنز القرون ... وأتت على الدَّنَ السنون

أما حافظ ابراهيم فكان يرى أن أعظم قصيدة نظمها شوق هى البائية الكارنارفونية :

في اللوت ما أعيا وفي أسبابه  كل امرئ رهن بطئ كتابه

فما حديث هذه القصائد الجياد ؟ كان اللورد كارنارقون من المولعين بالآثار المصرية ، وقد سمح له فتناه أن ينفق على الحفريات بسخاء ، فكلف المستر كارتر ان يحفر فى " وادى الملوك " بالاقصر عساه يهتدى إلى مقبرة لم يهتد إليها اللصوص فى العصور الخوالى

وبعد متاعب كادت تودى بصبر اللورد كارنارقون عثر الستر كارتر على مقبرة توت عنخ آمون فى سنة ١٩٢٢

وقد التفت الباحثون من الأوربيين والامريكيين إلى هذا الكشف أعظم التفات وقدمت التهانى إلى كارتر وكارنارثون من الهيئات العلمية فى الغرب والشرق ، ودعيت الصحافة إلى معاينة ذلك الكشف الخطير فذهب لمعاينته ثلاثة من الصحفيين : زكى مبارك مندوبا عن جريدة الأفكار ، والدكتور هيكل مندوبا عن جريدة السياسة ، والأستاذ المازني مندوبا عن جريدة الأخبار

ولن انسي ان المستر كارتر حدثنا عن السبب فى نقص بعض محتويات المقبرة ، وكان الراي عنده ان ايدى اللصوص قد امتدت إليها فى عهد " الاسرة العشرين " فكتبت في

" الافكار اقول إنى ارجح انها سرقت في " القرن العشرين " ولم يفت مراسل " التيمس " ان يبرق إلى جريدته بهذا التليح ، فنشر * بدون تسويف ، لتداعب به المورد كارطارقون ، وكانت النتيجة ان يمتنع المستر كارتر عن السماح للصحفيين بزيارة المقبرة ولهذا الامتناع صدى فى شعر شوقي سنشير إليه قبل ختام هذا الحديث .

لعنة الفراعنة

هنالك خرافة تقول بأن الفراعة يلعنون من ينبش قبورهم بعد الموت . ولهذا الخرافة اصل ، فقد وجد على تأثير من القبور المصرية والكلداتية دعوات جرار على من ينبشون قبور الملوك . وفي القبور المصرية ما يسمى " الرصد " وهو تمثال يقام في مدخل القبر لتخويف اللصوص ، وهو حقا مخيف ، لان القدماء كانوا يتوهمون انه مزود بالروح وبالسلاح ، وانه يقتل من يدخل القبر بدون استئذان . وهل يستأذن اللصوص ؟ !

فماذا صنعت لعتة الفراعة باللورد كارنارفون ؟ ابرق إليه المستر كارتر فحضر على تجل ليشهد الكشف الجديد ، وبعد أيام لسمعته بعوضة وهو نايم فى خيمة بجوار المقبرة فمات .

حفيقة أغرب من الخيال

كان اللورد كارنارقون اهدى إلى بنت ملك الإجليز عقدا من العقود المصرية القديمة ، ففرحت به فرحا عظما ، وانابت مهديه اجزل الثواب ، فلما سمعت ان بعوضة لسعته فمات نزعت العقد من جيدها لئلا تلحقها لعنة الفراعين ! وفي قصة البعوضة يقول شوقي :

صادت بقارعة " الصعيد " بعوضة

                            فى الجو سائد بازه وعقابه

وأساب خرطوم الذبابة صفحة     اخلقت لسيف الهند أو لذبابه

طارت بخافية القضاء ورأرأت         بكريمتيه ولامست بلعابه

ثم يعلل شوقي تلك الحادثة تعليلا علميا فيذكر أنها من نتائج الوهم الذي يضعف الأعصاب :

لا تسمعن لعصبة الأرواح ما     قالوا يباطل علمهم وكذابه

الروح للرحمن جل جلاله       هى من ضنائن علمه وغيابه

غلبوا على أعصابهم فتوهوا    أوهام مغلوب على أعصابه

بين حافظ وشوقي

كان التنافس بين حافظ وشوقي قد وصل إلى أبعد الحدود ، وزاد في خطر ذلك التنافس ان حافظا كان رجلا عذب الروح ، وكانت له مع السخفيين سلات يؤذن بها احقادهم على شوق حين يشاء

وما أذكر غلبة شوقي على حافظ إلا تعجبت . فقد كان - حافظ غاية في الذكاء واللوذعية ، وكان عله بتاريخ العرب وآداسهم علما يفوق الوصف ، وكان فهمه لدقائق الحياة المصرية اعجوبة الاجيب ، فكيف تفوق عليه شوقي وكان رجلا يدل مظهره وحديثه على انه فرد من سواد الناس لا يمتاز بعبقرية ولا نبوغ ؟

أكاديمية أجزم بأن " شهوة الحديث " هي التى أضعفت شاعرية حافظ ، فقد كان كثير الحديث ، وبالحديث وصل إلى ألوف القلوب ، والحديث ضاع ، لان الحديث ياخذ من القوى النفسية طاقات لا تصلح بعدها للغناء

أو أن أحاديث حافظ دونت لكان فيها ثوة فكرية تفوق ما ترك شوق من الثروة الشرية ، ولكان من الممكن ان يعد من اقطاب التاريخ الادبي في هذا الباب ، ولكن هذا الزمن لا تتسع تقاليده الادبية لمثل ما كانت محرص عليه عناية القدماء فى أمثال هذه الشؤون

أما شوقي فكان يؤثر السمت ليحتفظ بالدخر من قواه النفسية ، وليلتي الناس بالقصيد لا بالحديث ، فظفرت جهوده بالخلود .

كان حافظ يحدث من يلقاه بإطناب وإسهاب ، فلا ينقض اليوم إلا وهو متهالك من فرط الإعياء . وكان شوقي يهرب من الناس حين يشرع في النظم ، فلا تراه إلا هاما على وجهه من طريق إلى طريق ، وفي حال تنذر بالجنون !

كان حافظ يطيل محاورتى حين كنت موظفا بدار الكتب المصرية فى سنة ١٩٢٥ ، فبدا للمرحوم أحمد نسيم ان يدلني على أحد مقاتله النفسية ، فحدثني أن أعظم ما يغيظ حافظا ان يخبره أنك رأيت شوقي ينتقل من ترام إلى ترام وفي يده سجارة وعلى وجهه أمارات الذهول

وحملني التزق على تجربة هذه الوصية ، فأخبرت حافظا اني رأيت شوق كثير التنقل فى الشوارع ، وفي حال ينقلب عليه

الانفعال ، فصرخ حافظ : في اى عرض يعالج الشعر هذا المخبول ؟ إنه يكره أن يقترن اسمى باسمه ، مع أن الناس ظلوا يقولون في ! كثر من عشرين سنة : شوقي وحافظ كما يقولون : بعض وسميط !

بين الظلم والعدل

كانت الأقدار سمحت بأن تنعقد بيني وبين شوق مودة دامت نحو سنتين . وفى تلك الأيام عرفت من أحوال شوقي اشياء واشياء . ومن المؤكد انه من اعاظم الرجال الذين عرفهم فى حياتى ، فقد كانت استاذيته فى نقد المجتمع مضرب الامثال ، وكان روحه من الطف الأرواح ، وفي لحظة من لحظات الحوار حول مقاصد الشعراء سالته عن قصيدة حافظ في مجاوبته ، وهو منفي بالأندلس ، فأجاب وقد تريد وجهه بالنيظ : انا لا أروى غير شعري

فقلت : ومن الوفاء للأدب أن تروى شعر من يناجيك وانت غريب!

وفي اليوم التالي لقيت حافظا فسألته برفق : انحفظ شيئا  من شعر شوقي ؟ فاجاب : لقد قتلتى شوقى حين قال في اللورد كارنارقون :

أفضى إلى ختم الزمان ففضه..... وحبا إلى التاريخ في محرابه

وطوى القرون القهقرى حتى أتى

                             فرعون بين طعامه وشرايه

اعقار العبقر بين

. ومع هذا فأحقاد العيقريين كاحقاد الاطفال تذوب بعد ليال . ففي سنة ١٩٢٧ أقيمت حفلة عربية لتكريم شوقي ، فأنشد حافظ قصيدا جاء فيه :

أمير القوافى قد أتيت مبايعا......وهذى وفود الشرق قد بايعت معي

فدعاه شوقي وقبل جبينه والدمع فى عينيه . . ثم شاء القدر ان يموت حافظ قبل شوقي بأسابيع ، فقال شوقي يبكيه

د كنت أؤثر أن تقول رثائي ... يا منصف الموتى من الأحياء

لكن سبقتَ وكل طول سلامة ... قدرٌ، وكل منية بقضاء

ووددت لو أني فداك من الردى ... والكاذبون المرجفون فدائي

الناطقون عن الضغينة والهوى ... الموغرو الموتى على الأحياء

من كل هدّامٍ ويبني مجدهُ ... بكرائم الأنقاض والأشلاء

ما حطّموك وإنما بك حُطّموا ... من ذا يحطّم رفرفَ الجوزاء

أنظُر فأنت كأمس شأنك باذخٌ ... في الشرق واسُمك أرفع الأسماء

بالأمس قد حلّيتني بقصيدة ... غراء تُحفَظُ كاليد البيضاء

غِيظَ الحسود لها وقمت بشكرها ... وكما علمتَ مودتي ووفائي

وهي أعظم قصيدة قالها شوقي قبيل الموت . ولعلها خير ما جاد به خاطره يرفق وحنان(1)

ألاعيب الحظوظ

مات حافظ وشوقي في موسم واحد هو صيف سنة ١٩٣٢ قاريجت الأقطار العربية لموت شاعر ابن كانت إليهما قيثارة الغناء فى أعوام تزيد على الثلاثين

وفي خريف تلك الستة بدا لإحدى شركات السجائر ان تخرج علبة باسم شوقي وعلبة باسم حافظ ، فجعلت تمن العلبة الأولى خمسة قروش وتمن العلبة الثانية أربعة قروش ! وسعيد الدنيا سعيد الآخرة ، كما يقول المصريون !

توضيح

لهذا الاستطراد غاية ، هي خلق جويف ما كان بين شوقي وحافظ ، ولهما مجال في مسابقة الادب العربي لهذا العام السعيد . وما يليق بأديب أن يجهل ما كان بين حافظ وشوقي من مصاولات عادت على الشعر بأطيب الثمرات

النونية الآمونية

مراجعة هذه القصيدة بتأمل وتدقيق ترينا كيف قال شوقي إنها اعظم ما خطته يمناه ، فقد حاور الحياة وحاور الوجود باسلوب الاديب الفيلسوف ، وزعم خياله ان الموتى لو شعروا بما فى قير ذلك الملك لنبشوة بدون استحياء ! ثم مضى قصور حياة ذلك الفرعون فى حدود التصاو المرسومه بجدران قبره المطموس

والتلطف مع شوقي لا ينسينى واجب النقد الأدبي ، وهذا الواجب يدعوني إلى النص على ان شوقي اسرف في وصف مقبرة

توت عنخ امون ، فقد ذكرلها خصائص غير حقيقية ، خصائص لم ترها عيناى حين زربها قبل عشرين عاما ، ولعل شوق لم يرها بعينه قبل نظم هذا القصيد ، وإنما تمثل ما رآه فى بعض المقابر الفرعونية فقال ما قال بلا تحفظ ولا احتراس

ثورة الجيل

في هذه النونية تحدث شوقي عن عصر توت عنخ آمون  وعده عهد   (الفرد اللعين)  ليجوز له في قصيدة ثانية أن يقول  إن الدستور جعل عصره دون عصر   (فؤاد)

والقصيدة الثانية تحفة أدبية تخيل فيها الشاعر أن توت عنخ آمون :

سافرَ أربعينَ قرناً وعدَّها ... حتى أتى الدار فألفَي عندها

إنجلترا وجيشها ولُرْدها ... مسلولة الهنديِّ تحمي هندها

قامت على السودان تحمي سدَّها ... وركزت دون   (القناة)  بَندها

فقال والحسرةُ ما أشدَّها ... ليت جدار القبر ما تدهدها

وليت عيني لم تفارق رَقْدها ... قم نَبِّنِي يا بَنْتَئورُ ما دها

مصرُ فتاتي لم تُوقِّر جدها ... دقت وراء مضجعي جزْبندها

وخلطتْ ظباءها وأُسدها ... وسكب الساقي الطلا وبَدَّها

قد سحبتْ على جلالي بُردها ... ليت جلال الموت كان صدها

وهذا شعر يفسده الشرح ، وهو ايضا شعر لا يقوله غير شوقي إمام الصياغة الشعرية ، وأصدق من تغنى بأمجاد النيل وفي هذه القصيدة نص شوقي على أن :

مصر الفتاة بلغت أشدَّها ... وأثبت الدم الزكيُّ رُشدها

ولعبت علب الجبال وحدها ...وجبرت ارخاءها وشدها

فأرسلت دهاتها ولُدَّها ... في الغرب سدوا عنده مسدَّها

وبعثتْ للبرلمان جندها ... وحشدتْ للمهرجان حشدها

ثم أشار إلى معارضة المستر كارتر في زيارة المقبرة فقال يخاطب الفرعون :

لحدك ودَّتْه النجوم لحدها ... أريتنا الدنيا به وجدها

سلطانَها وعزها ورغدها ... وكيف يُعطَى المتقون خُلدها

أبوابك اللائى قصدنا قصدها ... كارترُ في وجه الوفود ردَّها

لولا جهودٌ لا نريد جحدها ... وحُرمةٌ من قربك استمدَّها

قلتُ لك اضربْ يده وقُدَّها ... وابعث له من البعوض نُكدها

والقارئ يفهم انه يشير إلى البعوض الذي صرع اللورد

كارنارفون، وهو بعوض ظالم، فقد حدثنا شوقي في البائية  أن اللورد كارنارفون أهدى إلى توت عنخ آمون هدية أعظم من  الهرمين، لأنه عرف به أمماً لم يعرفها عصر الفراعين. ألم تكتب  فيه عشرات البحوث في بلاد الأمريكان؟

خلاصة البحث

قد فرغت من الكلام عن عيون الجزء الثاني من الشوقيات  في الحدود التي يسمح بها الوقت، وإني لواثق بأن هذه الإشارات  تكفي لهداية المتسابقين إلى اجتياز الامتحان بأمان

ولكن الواجب يحتم عليّ أن أشير على الطلبة بأن يسألوا  أساتذتهم عما فاتني النص عليه، فقد يكون في أساتذتهم من  هو أعرف بسرائر الشوقيات

وقد سكت عن سينية شوقي في معارضة سينية البحتري،  لأني تحدثت عنها بإطناب في كتاب   (الموازنة بين الشعراء)   وأنا أكره الحديث المعاد

أما بعد خلاصة هذا البحث؟ هو إشارات ورموز لا ينتفع بها غير من يقرأ الشوقيات  بإمعان. والنقد الأدبي توجيه لا تلخيص. والله وليّ التوفيق

اشترك في نشرتنا البريدية