الشاعر الواحد يعبر عن المعنى الواحد بأساليب مختلفة ، ولا ضير عليه من تكرار المعنى الذى يفتن له فى تجديد الحلة وتجميل الأسلوب ؛ وهذا هو شأن إقبال . فقد عبر لنا عن مساء الموت وصبح الخلود فى الصور السابقة ، ثم يعيد هذا المعنى في ثوب آخر حين يفرض علينا الصباح مقبلا في حلته الباهرة يوقظ العالم لاستقبال الحياة بنشوة وأمل ، وما الموت إلا صورة لهذا المشهد الطبيعى . وهاك هذه الأبيات :
حينما يسفر الصباح ندبا ناصعا فى مواكب الاشراق
يغسل النور فى المشارف أدرا ن الدياجى عن حلة الآفاق
ويطير السكرى وينبت العش
ب وتصحو عزائم الكائنات
ويهب الأحياء في البحـــ ر ليستقبلوا عروس الحياة
وإذا كان للخلائق نامو س يرينا الصباح بعد المساء
فكذا تذهب الحياة ولكن بعد ليل الحمام صبح البقاء
ليست حلقات الحياة الإنسانية ضيقة إلى حد أن ترتبط بالهيكل الترابى وجودا وعدما . الدنيا أول المنازل وليست آخرها . هذه القبة الزرقاء ليست نهاية وجودنا ، وليس الجسم إلا وكر ًلهذه الأرواح ، فإذا ذهب الوكر يخلق وكر آخر . هذا هو عمل الفطرة التي لا تتقيد بسلسلتى الليل والنهار . وقد حدثنا "إقبال" عن هذا العمل أحسن الحديث ، وبين أن المسلم عظيم الشأن فى الخلود وأنه أقوى وأعظم من هذا الكون المحدود :
فوق السماء أيها ال حر سموات أخر
وفوق هذا المجد فى دنياك مجد منتظر
بعد الحياة أيها ال مسلم تبدأ الحياه
صانع دنياك وأخ راك معا هو الإله
إن البرايا دول بها الفضاء حافل
لم تنقطع من الطري ق هذه القوافل
وكم وراء عالم ال أكون من عوالم
فلا تضع حدا لما فى النفس من عزائم
كل الذي نعرفه ليس نهاية الوجود
فكم توارت مدن وراء هذه الحدود
إن هدم العش ففى ال بستان تنشأ الوكور
طر للخلود مؤمنا ليس الجمود للطيور
فبعد هذا الظل يا بلبل ماء وهواه
وجنة أخرى يطيــ ب في رياضها الغناء
الليل والنهار ل آمال لا يتسمان
فاطلب مقاما للعلى فوق الزمان والمكان
تذهب الأفراد ويبقى النسل والأمة . ويجب على المسلمين
أن يذكروا أن بقاءهم فى هذه الدنيا ضرورى لتكميل حكمة الله . والرسالة التى لم تتم فى أمتى الخليل والكليم يتمها أذان المسلم . إن النسيم العليل يمر على البراعم ، ولكن الزهور لا تستكمل قوها حتى تدمى يد البستانى أغصانها وأشجارها بالتشذيب . والصاعقة تسقط على وكر القمرى فيموت ، والبلبل يقع قريسة فى شرك الصياد . ولكن رونق الربيع باق . وآلاف الطيور تقبل وتنشد ألحانها وتطير والبستان لا يزال قائما :
إذا سقطت زهرة فى الربيع فكم فى بساتينه من زهور
ويا رب لؤلؤة حطموها لترفع فى التاج أوفى النحور
يغيب الصباح من المشرقين ويمضي المساء من المغربين
وما زال يقبل هذا وذا جديدين فى حلة النيرين
مئات السنين مضت فى الحياة وما استنفدت بحر أزمانها
وكم أفرغ الشاربون الكئوس
وما زالت الخمر فى حانها
وكم زال أمس فوافى غد وكم أشرق النور بعد الظلم
يزول عن الأرض أفرادها وتبقى الشعوب بها والأمم
المسلم آية من آيات الله . وآيات الله لا ترول . المسلم باق ليرفع العَلم وبتسنم خلافة الأرض . وأعداء الإسلام يحاولون أن يسقط هذا العلم وان يذهب المسلمون ؛ ولكن هؤلاء الأعداء أنفسهم كثيرا ما يشاهدون نور الإسلام فيصبحون فى طليعة انصاره وحماته ، فينقلب عدوانهم حماية ورعاية . وإذا سقطت بعض مواطن المسلمين فالمسلم سيبقى والإسلام لن يفنى :
ذلك المسلم من أندلس سيعيد العزم فى الشمس مكانه
من سقاء العشق يوما خمره لم يعد فى السكر محتاجا لحانه
والليالى علمتنا عبرا فى الذى مر به غزو التتار
كفروا ثم اجتلوا نور الهدى
فاهتدوا لما رأوا ذاك المنار
عرفوا الإسلام فانقادوا له وغدا أعداؤه ركن حماه
عزت الكعبة وأنهار الصنم
وهوى الشرك بتوحيد الإله
إن هذا العصر ليل فأنر أيها المسلم ليل الحائرين
وسفين الحق فى لج الهوى لا يرى غيرك ربان السفين
أنت كنز الدر والباقوت فى
موجة الدنيا وإن لم يعرفوك
محفل الأجيال محتاج إلى
صوتك العالى وإن لم يسمعوك
ليس فى الوقت فراغ فاعتزم
واملأ الدنيا بأعمال شريفة
أنت نور الأرض تهدى أهلها
لن يرى غيرك فى الأرض خليفة
ما زال المسلم ممتحنا بالشدائد والحوادث الجسام ولقد انهالت على المسلمين مصائب الزمن ، ورأوا من البلايا ما ضاع بمثله ملك جميع الأمم السابقة من إغريق ويونان ورومان وفراعنة ؛ ولكن الحوادث ارتدت عن المسلم كما ترتد الحصباء عن القلعة الشماء ؛ وكل مصيبة تنزل بالمسلم تصير عاملا على إسعاده ، وسببا فى رقيه :
نحن نهدى الخلق زهرا وثمارا
وسوانا يبعث النار ضراما
كل نمرود إذا أوقد نارا عادت النيران بردا وسلاما
نحن بالإيمان نبنى عزنا
لا نبالى الهول أو نخشى الصعابا
وإذا الباغى رمى فى غرسنا جدوة الظلم جعلناها ترابا
ذهب اليونان والرومان وال فرس قدما وفراعين الزمان
وهدى الإسلام ما زال على قمة الدنيا يدوى بالأذان
ها هو يذكرنا بأن الممثل لوجود الملة هو الاُمة . وأما الأفراد فهم زائلون . بهذا يدعو المسلم إلى أن يبذل نفسه فردا لكى يحيى دولة وشعبا ، ثم يذ كره بأصله الأزلى وفرعه الأبدى ، ويضع نار اليقين فى صدر المسلم محمولة إليه فى ثنايا هذه الآبيات :
معيشة الفرد خيال والبقاء للأمم
فكُن فداء المبدأ ال أعلى إذا نادى العلم
منزلك العلوى لا تح جب سرحه الغيوم
أنت من الجيش الذى غبار خيله النجوم
فى العالم الأول من مطالع الأنوار كنت
والناطق الأخير فى رسالة الرحمن أنت
قم وانشر التوحيد فى الد نيا ووحد الأمم
فأنت خير من دعا وأنت خير من حكم
المنظر الذي يروع الإنسان هو حركة الموت التى تسكن بعدها الأعضاء وتبرد الحواس ؛ فحينما يراك " إقبال " مرتعدا مذعورا لهذا المشهد الرهيب ، يضع على قلبك برد العزاء ، ويبين لك أن ملك الموت لا يميت الارواح ، وإن أفنى عالم الأشباح :
يعصف الموت بالجسوم ولكن
ليس يفنى من قوة النفس شيئا
تصعد الروح للخلود ويبقى
عالم الغيب والشهادة حيا
لا تمت مخافة الموت جهلا
فبغير الأنفاس روحك تحيا
ليس الإنسان من هذا العالم فى شئ ، فجميع ما حوله من المظاهر المادية تضمحل وتذهب مع الهشيم ، ويبقى بعد ذلك جوهر الإنسان ساطعا . حدثنا عنه " إقبال" :
هوى مرير كيقباد وانطوى إ كليل جم
وأصبح الكل رمادا مثل هيكل الصنم
أما أنا فلست أدرى أين يعلو نظرى
أنا تراب غير أن الشمس دون جوهرى
في سكون السحر تتفتح قلوب الشعراء كما تتفتح الأزهار لتحتضن النسيم وتستقبل الندى . وتضيء مشاعر ذلك القلب على الأحياء وغير الأحياء ، حتى تتسع للوجود كله بما فيه من ماض وحاضر ، فينظر إلى ثل من الرماد فيسمع من صمته حزن الماضى ، ويقول إننى كنت شجرة مشتملة بأوى المدلج إلى نارى ، ثم اطفأتنى عواصف الصحراء . هكذا سمع " إقبال " سرعان ما تلفت فإذا نهر " سار " قد صفت مياهه كأنها مرآة لنجوم السماء ، فعادت نفسه الحزينة إلى الأمل بعد اليأس ، والرجاء بعد الخوف . وحدث عن هذه المشاعر بقوله :
قد تغني قلبي فأسمع أذنى نغما فاق رنة الأوتار
وكأنى رأيت نهر حياتى نابعا من صفاء عين السار ( ١ )
أزلى بعنصرى أبدى منزلى فى الخلود فوق المنازل
إن جسمى من التراب ولكن
روحى البحر ما له من ساحل
ما دام المرء لا يقف على حقيقة نفسه ، ومادام يقيس الجوهر الإنسانى بالهيكل الترابى ، فإنه كل وقت مستهدف للخوف من ساعته الأخيرة . و "إقبال " يندد بهؤلاء ويصفهم بهذا البيت :
يلازم خوف الموت كل مضلل
يرى أن مقياس الحياة تراب
إن الذي يحافظ على كمال ذاتيته يحيى بعوامل الموت . هذه الكواكب والأقمار تزول ، ولكن نشوة الذاتية لا يخبو لمعانها إلى الأبد . والذى تمكن من كمال ذاتيته ونضج إيمانه لا يخاف من الموت القادم . وقد أفهمنا " إقبال " مرارا أن ارتكاب أقبح الذنوب أساسه الخوف ، ولا سيما خوف الموت . هذه الخشية وما يتبعها من يأس وقنوط
يسميها " أم الخبائث " . وكثيرا ما وازن بين القلوب الفزعة المضطربة والقلوب الآمنة الثابتة ، وبين أن الواثق بنفسه يهجم على الأسد كالمعز ، والخائف يفر من الغزال كأن أسدا تعقبه . ولو لم تكن فى قلوبنا شائبة الوجل اميرنا البحر كأنه صحراء . وأما الفزع فيرينا فى كل موجة تمساحا :
يعلو على الموت من تسمو إرادته
وفى عزيمته صدق وإيمان
عمر الكواكب محدود وأنت إلى
غير انتهاء بكأس الخلد ربان
يرى الجبان غزال القاع مرتعدا
كأنه أسد فى القاع ضرغام
والحر يلقى أسود الغيل مبتسما
حتى كأن أسود الفيل أغنام
إن الشجاع يخوض البحر مقتحما
كأنما الموج أزهار وأدواح
وموجة النهر فى عين الجبان بها
غول وحوت وتنين وتمساح
هل يدفع الخوف آجالا محطمة
يجرى على الخلق فى أحكامها القدر
ومن زكت نفسه بالطهر واكتملت
فليس يلحقها من موتها ضرر
