الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 492الرجوع إلى "الرسالة"

٣ - دفاع عن عن البلاغة، حد البلاغة

Share

تسألني بعد ذلك عن البلاغة التى أعنيها وأدفع عنها : أهى بلاغة العقل العربى التى بجلت في نثر ابن المقفع والجاحظ والبديع ، وارتسمت في منهج ابى هلال وعبد القاهر ؛ ام هى بلاغة العقل اليونانى التى تمثلت فى كلام الاصوليين والجدليين والمتاطقة ، واستسرت فى قواعد السكاكى والسعد ؟ أهى بلاغة المعنى أم بلاغة اللفظ ؟ أهي بلاغة الفكر أم بلاغة الاسلوب ؟

والجواب أن البلاغة التى أعنيها وأدفع عنها هى البلاغة التى يحدى بها القرآن امراء القول فى عهد كان الادب فيه صورة الحياة وترجمة الشعور وعبارة العقل . هي البلاغة التى لا تفصل بين العقل والذوق ، ولا بين الفكرة والكلمة ، ولا بين الموضوع والشكل ؛ إذ الكلام كائن حى ، روحه المعنى وجسمه اللفظ ، فإذا فصلت بينهما أصبح الروح نفسا لا يتمثل ، والجسم جماد لا يحس

ومن العجيب أن كان فى أمم البلاغة الثلاث : اليونان والرومان والعرب ، من فصلوا بين القلب واللسان ، وفرقوا بين المنطق والفن . ففي اليونان وهي الأمة التى نشأت البلاغة فى حضانة الفلسفة ، وجعلت الشعر والخطابة قسمين من أقسام المنطق - كان للبلاغة مذهبان : مذهب الفلاسفة ؛ ومن رجاله . بركليس وديمستين ؛ ومذهب البيانيين ؛ ومن رجاله السوفنطائيون والمتشدقون منمثال طراسماك وجر جياس .

وفي العرب كان مذهب المعنويين ومذهب اللفظيين ، أو مذهب أهل العراق ، ومذهب أهل الشام . وكان هذان المذهبان أول الأمر يتماسان من شدة القرب كما تراهما بين أسلوب الجاحظ وأسلوب ابن العميد . فلما فسدت الطباع وأمحلت الفرائح صار بينهما من البعد ما بين براعة ابن خلدون وغثانة القاضى الفاضل

ولقد اختلفت التعريفات على مدلول البلاغة باختلاف تصور الناس لها وتأثرهم بها وغرضهم منها ، ولكنها تعريفات مقتضبة لا تكاد تكشف عن جوهرها الفنى لا من جهة النظر ولا من جهة العمل . ولعل أول من حاول شرح البلاغة على نحو يشبه الفن ابن المقفع إذ قال : " البلاغة اسم لمعان يجرى فى وجوه كثيرة : مها ما يكون فى السكوت ، ومنها ما يكون فى الاستماع ، ومنها ما يكون شعرا ، ومنها ما يكون سحعا ، ومنها ما يكون خطبا ، وربما كانت رسائل فعامة ما يكون من هذه الابواب ، فالوحى فيها والإشارة إلى المعنى أبلغ . والإيجاز هو البلاغة " . ومن امثلة الاقوال المقضبة قول ابن المعتز : " البلاغة هي البلوغ إلى المعنى ولما يطل كفر الكلام الخليل : ( البلاغة هى ما قرب طرفاه وبعد منتهاه )

ولبلغاء الغرب في البلاغة اقوال تشبه ما قال بلغاء العرب فى إجمال المعنى وبعد الإشارة . قال لاهارب : ( البلاغة هي التعبير الصحيح عن عاطفة حق . وقال سورين : (هي الفكرة الصائبة ، ثم الكلمة المناسبه ) . وقال لابرير : ( هي نعمة روحية تولينا السيطرة على النفوس ) . ولقد مخيلها ( سنيك ) إليها مجهولا فى صدر الإنسان . ومثلها القدماء فى صورة إله يتكلم فيخرج من فيه سلاسل من الذهب تسلك السامعين فلا بفلت منهم أحد . والتمثال على هذا الوضع لا يمثل غير بلاغة الخطيب

والناظر المتقصى فى اقوال هؤلاء واولئك يستطيع ان يستخلص من جمليها ان البلاغة هى بمعناها الشامل الكامل ملكة يؤر بها صاحبها فى عقول الناس وقلوبهم من طريق الكتابة أو الكلام . فالتأثير فى العقول عمل الموهبة المعلمة المفسرة ؛ والتأثير فى القلوب عمل الموهبة الجاذبة المؤثرة ؛ ومن هاتين الموهبتين تنشأ موهبة الإقناع على اكمل صورة . وتحليل ذلك أن بلاغة الكلام هى تأثير نفس فى نفس ، وفكر فى فكر . والأتر الحاصل من ذلك التأثير هو التغلب على مقاومة فى هوى المخاطب او فى رأيه . وهذه المقاومة قد تكون فاعلة

كسبق الإصرار أو الميل أو العزم ؛ وقد تكون منفلة كالجهل أو الشك أو التردد أو خلو الذهن . فإذا كانت منفعلة كانت ضعيفة لا يحتاج فى قهرها إلى الوسائل البلاغية القوية ؛ فالمره يجهل أو يشك أو يتردد ربما يتهيأ له أن يعلم أو يستيقن أو يجزم ؛ وهو فى مثل هذه الاحوال تكفيه الحقيقة البسيطة للستفادة من ( التعليم ) . وقد يكون مع الجهل زيف العلم ، واعتساف الحكم ، وخطل الرأى الثابت باستمرار العادة ، وفساد الوهم القانم على قوة القرينة . وحينئذ لا بد أن تتناصر قوى العقل جمعاء على كسر هذه المقاومة من طريق البرهان ؛ وذلك عمل الجدل ، والجدل عصب البلاغة . وربما حدث مع ذلك كله أو بدون ذلك كله ، فتور فى الطبع فلا ينشط لحديث ولا يرتاح إلى رأى . وهنا يجب على صاحب البلاغة أن يدفع السأم ويحرك النشاط ، فيوني الحقيقة بخياله ، ويحيى الاسلوب بروحه ، ويجذب القارئ بفنه . وفى هذه الحال يظهر فضل البلاغة على الفلسفة

وقد تكون المقاومة ضعيفة أو معدومة من جهة العقل ؛ ولكنها تكون قوية عارمة من جهة النفس . فأنا لا أمارى فى ان هذا هو الحق ولكنى استثقله ، او هو الفضل ولكنى أسترذله ، أو هو النفع ولكنه يجهد نفس ويبهر قواى ، أو هو العدل ولكنه يعارض نفسي وبصادم هو اى . فجهد البلاغة هنا يجب أن يوجه إلى النفس من طريق التأثير ، لا إلى العقل من طريق الإقناع

فإذا اجتمع على مقاومة البلاغة العقل والهوى : هذا بميله أو نفوه ، وذاك باصراره أو قصوره ، كان هنا ميدانها الاول وجهادها الخطير . لقد حشد لها العدو جميع قواه فيجب ان تربع حجره وتستعد له . وهي على حسب ما تقتضيه الحال اما أن تهاجم الرأى فتخضع بخضوعه الإرادة كحالها مع القاضي ، وإما أن تهاجم الإرادة فيخضع بخضوعها الرأى كحالها مع الجمهور

أما الغرض من يحليل هذا التعريف فهو بجلية المراد من قول البيانيين إن البلاغة هي مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى الحال . فليست الاحوال المعروضة او المفروضة إلامانفعالات العواطف فى النفس ، او اتجاهات الخواطر في الذهن . وليست مفضياتها إلا الصور البلاغية المناسبة التى يهتدى إليها البليغ بطبعه او فنه فيؤثرنها فى هذه العواطف  أو فى تلك الخواطر التأثير الذي يريد....

( للكلام بقية)

اشترك في نشرتنا البريدية