الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 55الرجوع إلى "الرسالة"

٣ - من روائع عصر الأحياء، حياة بنفونوتو تشلليني مكتوبة بقلمه، مثل عال للترجمة الشخصية

Share

زج بنفونوتو تشلليني إلى غيابة الحصن الرهيب (حصن سانت انجيلو) مرة أخرى، وهو كسير الساق، طريح الفراش وألقي في تلك المرة إلى غرفة مظلمة ضيقة رطبة، تتمثل فيها روعة الأسر، ورهبة العدم؛ وشعر أن لهب حياته يخبو، فانكب على قراءة الكتاب المقدس استعداداً للقاء ربه؛ ولكنه بعد أن  لبث أياماً في قراءته، شعر أن قبساً جديداً يضئ حياته، وتولاه  نوع من السكينة المعنوية وصفاء النفس؛ ويصف لنا تشلليني ذلك التطور النفسي الغريب الذي حقق له خلال الألم المبرح نوعاً من السعادة، وحوّله من فتى مضطرم الأهواء والنزعات، إلى شبه قديس يتجرد بعواطفه نحو الملكوت الأعلى، لا يذكر  شيئاً من ملاذ هذا العالم وحواسه؛ ويقص علينا في عدة صحف شائقة حوادث حياته الهادئة في ذلك الظلام الدامس، وكيف غدا عرضة للأحلام الروحية البديعة، ويبدو تشلليني في هذا الوصف كاتباً بارعاً، في بيانه كثير من القوة والسحر؛ والمحن  تطلق البيان والشاعرية؛ أجل، وغدا تشلليني شاعراً أيضاً،

يكتب فوق الصفحات البيضاء من (توراته) أبياتاً من الشعر الصوفي، ويشتغل بوضع قصيدته الكبيرة (الكابيتولو) في وصف السجن ومديحه، ووصف ما عانى من ألم، وما آنس من  سعادة نفسية

ثم توفي محافظ الحصن، صديقه القديم الذي كان يرعاه  ويجتهّد في تخفيف محنته وخلفه أخوه في منصبه. وكان البابا كلما خطر له أن يطلق تشلليني من أسره تدخل ولده السنيور بيرلويجي  وحال دون قصده. وكان خصوم تشلليني يودون موته بأي  الوسائل، وكان السم بالطبع أيسر وأنجح الوسائل التي تستعمل  في هذا العصر الفياض بالجريمة والغدر. وعلى ذلك عهد أحد  رجال البطانة إلى أحد حراس السجن أن يضع شيئاً من مسحوق  الماس في طعام تشلليني، وعهد بسحق الماس واعداده إلى صائغ  من أريزو؛ وقدم الطعام المسموم إلى تشلليني فأكله، ولكنه لاحظ في النهاية ذرات تلمع في أحد الصحون، فخفق قلبه،  واعتقد بعد فحصها أنها ذرات الماس القاتلة. يقول: (فأيقنت عندئذ بأني هالك، وامتزج الحزن والايمان في قلبي حينما هرولت  إلى الصلاة. ولبثت مدى ساعة أواجه الموت المحقق، وأضرع  إلى الله، وأشكره على أن هيأ لي هذا الموت الهين، وشعرت برضى عميق، وباركت العالم والزمن اللذين عشت فيهما؛ والآن فإني أعود إلى أرض أفضل برعاية الله التي أيقنت أني كسبتها) .

ولكن أملاً غامضاً في الحياة حمله على أن يتأمل الذرات اللامعة مرة أخرى، وأن يفحصها بواسطة مدية صغيرة، فانتهى بعد فحصها وسحقها إلى أنها لا يمكن أن تكون من الماس، وأنها  مسحوق مادة لامعة أخرى لعلها لا تؤذي الحياة. والظاهر أن  الصائغ الذي عهد إليه بسحق الماس قد طمع فيه واستبقاه  لنفسه واستبدله بهذه المادة. وعلى أي حال فقد نجا تشلليني من  هذه المحاولة، واستمر أياماً يرفض الطعام الذي يحمل اليه مالم يذقه أمامه حارس السجن

وقضى ربك أخيراً أن تختم المأساة المروعة وأن يطلق سراح  البريء. ذلك أن الكردينال دي فرارا مبعوث فرانسوا الأول  ملك فرنسا قدم إلى رومة لمفاوضة البابا في بعض الشئون، وانتهز هذه الفرصة فالتمس من قداسته أن يفرج عن تشلليني، وأن يسلمه إليه، منوهاً باهتمام ملك فرنسا بأمره، فاضطر بولس الثالث

أن يجيب ملتمسه، وأوفد رسوله في الحال الى الحصن مع كبيرين من حاشية الكردينال، وأفرج عن تشلليني، وأخذ الى الكردينال دي فرارا، فاستقبله بترحاب، وأنزله بقصره. فلبث به مدى حين  ينفض عنه عثار السجن، ويستجمع قواه الذاهبة، ويستعيد  مواهبه التي كادت أن تخبو. ولما انتعشت نفسه، عاد فانكب على عمله المحبوب، وأخذ يشتغل بطائفة من الأواني والتحف التي عهد اليه الكردينال دي فرارا بصنعها. ولما أتم الكردينال مهمته  في رومة اعتزم السفر إلى فرنسا، فسار تشلليني في ركبه مع فتاه  اسكانيو وزميل له يدعى باجولو، وسبفه الكردينال إلى فرنسا، وتخلف هو حيناً في فلورنس وفيرارا، ثم كتب اليه الكردينال  ليوافيه إلى باريس، فسار إليها مع عامليه، ولم يكن راضياً عن  معاملة الكردينال له من الوجهة المادية، ولكنه لم يستطع التخلف  قياماً بحق الوفاء والعرفان لأنه هو الذي أنقذه من إسار السجن.

ووصل الى باريس، ثم سار الى فونتنبلو حيث كان يقيم الملك  وبلاطه، وهنالك لقي الكردينال، فأكرمه وأنزله منزلاً حسناً، ثم استقبله الملك فرانسوا الأول بترحاب وأغدق عليه عطفه، وقدم  اليه التحف والحلي التي صنعها لحسابه، فأعجب بجمالها ودقتها وهنأه  على براعته، وعهد اليه بصنع تحف أخرى، وأقطعه منزلاً للعمل والأقامة، وأجرى عليه راتباً حسناً. وهنا يفيض تشلليني كعادته في وصف التحف التي عهد اليه ملك فرنسا بصنعها والزخارف التي  وضع نماذجها لبعض أبواب قصر فونتنبلو، ثم يصف لنا حياته اليومية في عاصمة فرنسا. وكانت كالمعتاد حياة عاصفة مليئة بالشجار والمنازعات، وكان قد اتخذ له صاحبة جديدة، هي فتاة فرنسية تدعي كاترينا، تشتغل لديه كنموذج فني، فكانت هذه العلاقة  مثاراً لعدة منافسات وفضائح غرامية يصفها لنا تشلليني بصراحته  المعروفة. ويقص علينا كيف فاجأ ذات يوم فتاه باجولو متلبساً  بالخيانة مع كاترينا، وكيف تسممت بينهما العلائق من أجل ذلك،  وطرد الفتاة الخائنة وصاحبها، ثم انتهى بأن رتب لهما انتقاماً  جهنمياً هو أنه عقد زواجهما بالاكراه، وسيفه معلق على رأسيهما ثم عاد بعد ذلك فاستخدم كاترينا نموذجاً وخليلة لكي يذل بذلك  أنف عامله السابق باجولو، وكيف أنه استخدم بعد ذلك فتاة أخرى، وأولدها طفلة ثم صرفها مع طفلتها بشيء من المال،  ولم يرهما بعد ذلك قط

ولبث تشلليني في خدمة ملك فرنسا حيناً من الدهر،  ولكنه لم يحظ بعطف الدوقة دتامب صاحبة الملك، وكانت تستأثر يومئذ بالنفوذ في البلاط، وأنفت نفسه من أن يترضاها بوسائل لا تتفق مع كبريائه، فلبثت من جانبها تدس له لدى الملك وتخلق الصعاب في وجهه. ولكن الملك أعرض عن تحريضها حيناً،  وعهد الى تشلليني بأعمال فنية كبيرة منها تماثيل فضية عديدة،  وأحواض زهر، وباب برنزي وغيرها، وأدى الفنان هذه الأعمال  كلها ببراعته الفائقة، وأعجب بها الملك أيما إعجاب. وأخيراً شعر  تشلليني بأن عطف الملك قد فتر، وعاف هذه الحياة المضطربة  الفياضة بالأحقاد والدس، فاستأذن في السفر، وذهب الى الكردينال دي فرارا يلتمس اليه العون في العودة الى وطنه، فاجاب ملتمسه، وغادر فرنسا غير آسف على فراقها، ووصل الى  إيطاليا بعد رحلة شاقة، وقصد الى مدينة فلورنس مسقط رأسه،  وكان ذلك في صيف سنة ١٤٤٥. وبعد أن أقام أياماً إلى جانب  أسرته، سعى إلى لقاء الدوق كوزيمو دي مديتشي أمير فلورنس،  فاستقبله بترحاب وعهد اليه بصنع تمثال (لبرسيوس) وتمثال نصفي له، وقضى حيناً في خدمته، ولكن سوء تفاهم وقع بينه وبين الدوقة زوج الأمير، حمله على مغادرة فلورنس، وعندئذ  سافر الى البندقية وأقام بها حيناً ثم سافر الى رومة وزار هنالك  ميشيل أنجيلو المهندس والفنان الخالد، وكان يومئذ يعني ببناء  كنيسة القديس بطرس وزخرفتها، ليفاوضه في بعض المسائل  الفنية. ثم عاد الى فلورنس، بعد أن عاد التفاهم بينه وبين الدوق، واشترى هنالك ضيعة صغيرة بما اجتمع له من المال، واستقر هنالك منكباً على تحفه وتماثيله

وهنا ينتهي ما كتبه بنفونوتو تشلليني عن حياته. وقد كتب تشلليني هذه الصحف بين سنتي ١٥٥٨ و١٥٦٦، ولكنه يقف فيها عند سنة ١٥٦٢. وكانت أوصاب الشيخوخة قد دهمته  يومئذ، وذهبت بذلك العزم المضطرم الذي كان يلتهب أبدا؛ وملك تشلليني سحر القلم فكتب في ذلك الحين أيضاً قصته (تراتاتي)  يكرر فيها القصة القديمة المعروفة بذلك الاسم. وليس في حياته ما يستحق التدوين يومئذ غير زواجه سنة ١٥٦٥، وهو في الخامسة والستين من خادمته بيرا دي سلفادوري، تزوجها عرفاناً

بما قدمته في خدمته أثناء مرضه من الغيرة والاخلاص، ورزق منها بولدين هما ابنه أندريا سيموني، وأبنته مادلينا، وتبنى أيضاً أبناءها من زوجها الأول. وتوفي الفنان الكبير في ١٣ فبراير سنة ١٥٧١، بمنزله في فلورنس، ودفن باحتفال فخم، وخبت  تلك الحياة التي لبثت سبعين عاماً تملأ ما حولها حركة ونشاطاً  واضطراما.

هذه خلاصة لذلك المجلد الضخم الذي تركه لنا بنفونوتو تشلليني  عن حياته الغريبة الحافلة. وإذا كان تشلليني قد عُدّ من أقطاب الفنانين في عصر الأحياء، فانه يرتفع بأثره الى صف أقطاب كتاب هذا  العصر. ولم يكن تشلليني كاتباً كما قدمنا، ولم تهيئه تربيته الساذجة،  ولا حياته الشريدة المضطربة لمعالجة الكتابة؛ ولكن البيان هبة  الطبيعة؛ وقد كان تشلليني ابن الطبيعة، وهبته كثيراً من خلالها الباهرة؛ فكان القلم في يده يدون به حوادث حياته، كالريشة يرسم بها نماذج تحفه. وليست روعة ترجمة تشلليني في هذا البيان  القوي الساذج الساحر فقط، ولكنه أيضاً في تلك الصراحة  الخشنة التي يحدثنا بها تشلليني، وفي تلك البساطة الرائعة التي  يكشف لنا بها عن دخائل نفسه. ويقول لنا تشلليني في الخطاب الذي يوجهه الى صديقه بنديتو فارشي بشأن ترجمة أنه لم يكتب  إلا ما وعته الذاكرة من حقائق حياته. يقول: (والواقع أنني  لم أكتب سوى الصدق، وقد أغضيت عن كثير من الحوادث  العجيبة التي كان غيري يعطيها أهمية خاصة. ذلك أن لدي شئوناً عظيمة كثيرة أقصها،وقد تركت كثيراً مما هو أقل أهمية منها  لكي لا يفيض بي القول فأخرج مجلداً ضخماً جداً). ولم ينته الينا قبل تشلليني أو بعده أثر كأثره يمتاز بتلك الروعة والصراحة والحقائق المدهشة، وإن كانت هنالك ثمة تراجم شخصية عديدة  غربية وشرقية ترتفع الى ذروة البيان والطرافة الأدبية. وقد أشرنا  فيما تقدم الى ما بين ترجمة تشلليني و(اعترافات)جان جاك روسو  من وجوه الشبه والتباين، وأخصها أن جمال ترجمة تشلليني مستمد  بالأخص من روحه التي تكاد تمثل في كل صفحة من صفحاته؛  أما جمال الاعترافات، فهو مستمد على الأغلب من السحر الذي يسبغه بيان روسو وقلمه على حوادث حياته. وفي رأينا أن ترجمة

تشلليني تتفوق من ناحية الفن والطرافة والروعة على اعترافات روسو؛ وعلى أي أثر غربي آخر من نوعها.

ولدينا في العربية أثر هام من نوع التراجم الشخصية القوية.

ذلك هو ترجمة المؤرخ الفيلسوف ابن خلدون لنفسه، وهي المشهورة  (بالتعريف) . فقد دوّن ابن خلدون حوادث حياته في مجلد خاص في أواخر القرن الرابع عشر وأوائل القرن الخامس عشر، أعني قبل أن يكتب تشلليني ترجمته بقرن ونصف؛ و(التعريف)  ترجمة شخصية، ولكن الحياة السياسية العاصفة التي خاض  أبن خلدون غمارها والتي يقصها علينا في هذا السفر، تسبغ على (التعريف) لون التاريخ العام؛ ذلك أن ابن خلدون ضنين علينا بمواطن الافضاء الشخصي التي تملأ ترجمة تشلليني،  وهو يؤثر دائماً أن يدون من حوادث حياته ما يرتفع إلى أهمية  الحياة العامة وحوادث التاريخ؛ بيد أنه يحدثنا أيضاً عن نفسه وعن خلاله، ولا يتردد في الافضاء بكثير مما لا يحسن الافضاء به،  لا عن حياته الداخلية ولكن عن حياته العامة. وفي تعريف ابن  خلدون، كما في ترجمة تشلليني عنصر القصة الشائقة لحوادث حياة حقيقية. فان فيلسوفنا يصف لنا في تعريفه كيف يجوز من قصر الى قصر، ويتعرض لمخاطر النقمة والاعتقال والمطاردة، ويسير  في ركب الجند، ويمثل الى جانب أميره في المعارك الحربية، ويقوم  بقضاء المهام الخطرة في أعماق الهضاب والصحاري. ونراه في دمشق في السبعين من عمره يجوز مخاطر جديدة، وينزل من أبراج  المدينة المغلقة مدلى بحبل ليقصد الى معسكر الفاتح التتري تيمورلنك،  وغير ذلك من الحوادث الغريبة الشائقة. والواقع أن هنالك شبهاً  عظيما بين ترجمة ابن خلدون وترجمة تشلليني مع اختلافهما في النوع، فكلتاهما تفيض بمواطن الجرأة والمخاطرة ومواطن الافضاء والصراحة. وإذا كانت ترجمة الفنان الايطالي تعتبر في الأدب  الغربي نموذجاً بديعاً للترجمة الشخصية، وقطعة رائعة من العرض  الساحر والقصص الشائق، فان (تعريف) ابن خلدون يتبوأ  مثل هذه المكانة في أدبنا العربي.

ولأثر تشلليني فوق ذلك أهمية تاريخية، فهو يصور لنا كثيراً  من ألوان الحياة الاجتماعية في عصر الاحياء، وهو عصر تطور

(البقية في أسفل الصفحة التالية)

عظيم في تاريخ الانسانية؛ وفيه وصف شائق لكثير من أحوال  البابوات وبذخهم وقصورهم، ووصف لأخلاق الأحبار ودسائسهم واستغلالهم لطبقات المجتمع الأخرى، ووصف لأحوال الجمهوريات الايطالية في ذلك العصر وأمرائها وسادتها؛ والخلاصة أنه يلقى أكبر الضياء على تاريخ عصر من أهم عصور إيطاليا، وعصر يعتبر بحق فجر التاريخ الحديث. وفي رأينا أن كتاب تشلليني من أجدر الآثار الغربية وأحقها بالترجمة العربية؛ وقد ترجم فعلاً من الايطالية  الى جميع اللغات الأوربية؛ فعسى أن يتقدم بعض شبابنا المثقف فيتحفنا بترجمة عربية بديعة لذلك الأثر البديع.

(تم البحث)

اشترك في نشرتنا البريدية