الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 143الرجوع إلى "الثقافة"

٣ - ميزات أدب المهجر، الأمريكى

Share

والآن لا أرى بدا من الاشارة السريعة إلى أهم ميزات الأدب العربى فى العالم الجديد .

من حيث اللغة ، فان فى لغة المهاجرين وأسلوبهم دماثة ومرونة جعلت لأدبهم طابعا خاصا . لكنهم تساهلوا فى اللغة أحيانا حتى أخذت على بعضهم بعض الأخطاء ، وأخذ على بعضهم شئ من الركاكة . يعود هذا التساهل إلى رأى تكون عند أدباء المهاجرين ، بأن اللغة واسطة لا غاية ، إنما الغاية هى الفكرة ، وهى المعنى المقصود . يكفى  فى نظرهم أن تومئ الكلمة أو التعبير إلى المعنى إيماء ، وقد تكون اكتسبت هذا الايماء من الشائع العامى ، فطالما هى قاموسية الأصل فهى صالحة . ولبعضهم مباحث فى هذا ، كما أن لبعضهم ثورات وتمردا على من أراد باللغة وقوفا وجمودا . أشهر هؤلاء الباحثين المتمردين جبران خليل جبران ، ومخائيل نعيمة ، وكلاهما من قادة الحركة الأدبية فى المهجر الأمريكى .

أما من حيث المعنى أو الروح ، فأدب المهاجرين -

والشعر خصوصا - من النوع الوجدانى الرومنطيقى العميق ؛ فتسود أ كثره أو كله كآبة أشبه بتلك الكآبة تتشح بها الطبيعة فى أمسية الخريف الناعمة . والكآبة من أخص ميزات المدرسة الرومنطيقية .

ومن نزعتهم الرومنطيقية هذه تشخيص الطبيعة . " La Personnification de la nature ", حتى غدت  الطبيعة أشباحا يأنسون بها وتأنس بهم ، يخاطبونها فتفهم عنهم و تخاطبهم فيفهمون عنها .

بمثل هذه الروح وهذه النزعة خاطب مخائيل نعيمه نهرا متجمدا ( قصيدته النهر المتجمد  ) :

" يا نهر هل نضبت مياهك ، فانقطعت عن الخرير "؟!

" بالأمس كنت إذا أتيتك باكيا سليتنى "

" واليوم صرت إذا أتيتتك ضاحكا أبكيتنى "

" بالأمس كنت إذا سمعت تنهدى وتوجعى "

" تبكى ، وها أبكى أنا وحدى ولا تبكى معى "

وهذه الروح والنزعة نجدها فى قصيدته ( الرياح ) :

" هللى    هللى    يا رياح     وانسجى حول نومى وشاح "

         " من خرير الغدير     واهتزاز الأثير "

         " واختلاج العبير     فى دموع الصباح "

                  " هللى هللى يا رياح "

لكنها من الرومنطيقية الناقصة إذا وقف الحال عند هذا الحد من الطبيعة ! إنما هم يرون بالمظاهر الطبيعية رموزا وصورا لحالات النفس المختلفة وبعبارة الرومنطيقيين الفرنجة ، états d'âme ، فكآبة الخريف صورة لكآبة نفوسهم ، وتناثر أوراق الشجر رمز لتبددد أحلامهم وأمانيهم ، فمخائيل نعيمه رأى فى " النهر المتجمد " وقد كبله الجليد ، رمزا لقلبه وقد ماتت فيه الأمانى ، وغدا فى أشد حالات القنوط والحيرة .

" يانهر ذا قلبى ، أراه كما أراك مكبلا " " والفرق أنك سوف تنشط من عقالك وهولا . . " وفوزى المعلوف من شعراء أمريكا الجنوبية صور روح الشاعر فى أحد أناشيده ؛ فإذا الشاعر فى نظره من امتزجت نفسه بالطبيعة ، فأصبح يرى فى كل مظهر من مظاهرها إحدى خلجات نفسه :

" ما احمرار الأصيل غير لهيب

                          شع من قلبه على مقلتيه "

" وركام السحاب غير دخان   نفثته الهموم من شفتيه "

" ما أنين الرياح غير زفير      نزعته الرياح من رئتيه "

" ما ندى الفجر غير لؤلؤ دمع

                              رشفته الأزهار من محجريه "

" وبريق النجوم غير شظايا

                              كأس حب تحطمت فى يديه "

مظهر آخر من أخص مظاهر المدرسة الرومنطيقية ، هو الحزن والنوح والبكاء وتمجيد الألم . وكل شعر تعرى من هذا المنصر فليس هو فى نظر الرومنطيقيين من الشعر الحقيقى فى شئ . وقد قال دى موسه وهو أكمل من مثل هذه الناحية فى المدرسة الرومنطيقية . Les plus des  espérés sant les chant les  plus beaux

" إن أبدع الأغانى ما تسربل بالأسى " . وهذه النغمة ظاهرة الوضوح فى شعر المهجر ، قال فوزى يصف الشاعر :

وجبين ألقت عليه شجون النـــ      فس ظلا من العبوس ظليلا

فهو لا يعرف النعيم إلا           عندما يستعيد حلما جميلا

ألف اليأس قلبه فهو واليأ        س يحاكى بثينة وجميلا

وإذا ما النسيم مر عليه          فعليل أنى يعود عليلا

وللدمع والألم ، عند دى موسه ، خطورة فى حياة النفس الانسانية ، فهو القائل : Rien me neus rend plus grands qu'une grand dauleur .

" لا شئ يجعلنا عظماء إلا ألم عظيم " . وهو القائل أيضا : Le seul bien qui me reue au mande est d'avoir quelque lois picuré .

" كل ما بقى لى من نعم الحياة أنى قد بكيت مرارا " . وفوزى يرى أن الألم والدمع يطهران النفس من أدرائها ، فقد قال يصف كفارة الشاعر وتطهره من أوحال الحياة :

والتظى قلبه ، فطهر بالآ    لام ما دنسته شهوة حسه

غسلت عينه ، بما سكبته

                  من ندى الدمع ، كل أدران نفسه

قد أخذت هذه الأمثلة من شعر فوزى ولأنه يمثل خير تمثيل عنصر الكآبة فى رومنطيقية أدب المهاجرين ، ولكنها روح تطفو على إنتاج الأدباء الآخرين من أدباء المهجر .

إنما الشئ الذى يدعو إلى العجب أن تكون الرومانطيقية العميقة أخص وأظهر ميزات أدب المهاجرين ، إذ ليس هذا اللون هو الغالب على الأدب الأمريكى حتى نقول إنهم تأثروا به ؛ ومن ناحية أخرى فالبيئة الأمريكية بيئة تقوم فيها المدنية على البركار والدولار ، فهى بيئة مادية ، وليس من شأن البيئات المادية أن تكون عنصر الرومنطيقية ! .

إذا أردنا أن نرجع المسببات إلى أسبابها ، قلت إن اغتراب هؤلاء الشعراء عن أوطانهم كان مما أوجد

الرومنطيقية فى شعرهم ؛ هؤلاء أغراب فى تلك البلاد يكدحون النهار بطوله ، فاذا عادوا فى المساء ، فلا جار لهم من أبناء جنسهم يهش لهم ، ولا الزوجة تحنو عليهم ، ولا الأم ، ولا الأب ، حتى عظامهم سترقد فى مدينة الأموات ، من تلك البلاد ، غريبة بين العظام ؛ حرمانهم هذا من العطف الخالص ، وإحساسهم بوحشة الاغتراب ، ولد فى نفوسهم وحشة واغترابا ، نفسوا عنهما فى شعرهم ونثرهم ، فجاء أدبهم صورة لنفوسهم المكدودة ، وإذا الرومنطيقية هى الميزة الغالبة فى أدبهم بكل ما تحمل من عناصر خاصة بها .

وكان للاغتراب أثر آخر فى العاطفة الوطنية من أدب المهاجرين ، خرجوا فى هذه العاطفة من مخرجين : عاطفة وطنية سلبية ، وعاطفة إيجابية . أما الأولى ، أى السلبية ، فظهرت فيما يحمل أدبهم من ثورة وتمرد على بعض تقاليد بلادهم الاجتماعية والدينية والأدبية ، وعلى ما فى بلادهم من أوضاع سياسية . وقد أشرت إلى ما كان دافعا إلى هذا التمرد والثورة ؛ ومن آثار ثورتهم الأدبية أن خلا أدبهم أو كاد يخلو من شعر المدح ، وشعر المناسبات ، وقد شنوا غارة شعواء على هذا النوع  من الأدب ، مع ذلك لم يخل أدبهم من الهجاء لأنه من أداة التمرد والثورة .

أما العاطفة الوطنية الايجابية فقد تجلت فى استمداد هؤلاء الأدباء الصور والتشابيه من بيئة بلادهم ، وروح بلادهم ، على الرغم مما يباعد بينهم وبينها من بحار .

وتجلت مرة اخرى فيما يسود أدبهم من الحنين إلى مرابع طفولتهم ، والتشوق إليها ، والتغنى بجمال بلادهم ، بما فيها من سهول وجبال وأنهار وينابيع وغابات وبساتين . إننا نجد الواحد منهم يتغنى بجبلى " جلق وصنين " . كأن الشواهق من جبال الأند لا تهز نفسه ، ونرى

الآخر يتشوق إلى جلسة سمر على ضفاف " بردى , والبردونى " ، كأن " الهدسون وشلالات نياجرا " لا تفتن نفسه . وظل المهاجر العربى يتلفت فى مهجره إلى صوت شبابة الراعى فى مراعى بلاده ، من سفوح الكرمل ، إلى تلال لبنان إلى سهول سوريا ، كأن ما فى تلك البلاد من موسيقى لا ترنح عطفيه .

وددت أن أوضح هذه الميزات بالشواهد من أدب المهاجرين ، وأن أكشف عن عوامل أخرى من ثقافية ونفسية كانت كلها عاملة على تكوين ما امتاز به أدب المهاجرين من خصائص ، ولكنى قصدت إلى عرض أشبه بمقدمة ، ولم أرد الاستفاضة والاسهاب .

اشترك في نشرتنا البريدية