والآن لا أرى بدا من الاشارة السريعة إلى أهم ميزات الأدب العربى فى العالم الجديد .
من حيث اللغة ، فان فى لغة المهاجرين وأسلوبهم دماثة ومرونة جعلت لأدبهم طابعا خاصا . لكنهم تساهلوا فى اللغة أحيانا حتى أخذت على بعضهم بعض الأخطاء ، وأخذ على بعضهم شئ من الركاكة . يعود هذا التساهل إلى رأى تكون عند أدباء المهاجرين ، بأن اللغة واسطة لا غاية ، إنما الغاية هى الفكرة ، وهى المعنى المقصود . يكفى فى نظرهم أن تومئ الكلمة أو التعبير إلى المعنى إيماء ، وقد تكون اكتسبت هذا الايماء من الشائع العامى ، فطالما هى قاموسية الأصل فهى صالحة . ولبعضهم مباحث فى هذا ، كما أن لبعضهم ثورات وتمردا على من أراد باللغة وقوفا وجمودا . أشهر هؤلاء الباحثين المتمردين جبران خليل جبران ، ومخائيل نعيمة ، وكلاهما من قادة الحركة الأدبية فى المهجر الأمريكى .
أما من حيث المعنى أو الروح ، فأدب المهاجرين -
والشعر خصوصا - من النوع الوجدانى الرومنطيقى العميق ؛ فتسود أ كثره أو كله كآبة أشبه بتلك الكآبة تتشح بها الطبيعة فى أمسية الخريف الناعمة . والكآبة من أخص ميزات المدرسة الرومنطيقية .
ومن نزعتهم الرومنطيقية هذه تشخيص الطبيعة . " La Personnification de la nature ", حتى غدت الطبيعة أشباحا يأنسون بها وتأنس بهم ، يخاطبونها فتفهم عنهم و تخاطبهم فيفهمون عنها .
بمثل هذه الروح وهذه النزعة خاطب مخائيل نعيمه نهرا متجمدا ( قصيدته النهر المتجمد ) :
" يا نهر هل نضبت مياهك ، فانقطعت عن الخرير "؟!
" بالأمس كنت إذا أتيتك باكيا سليتنى "
" واليوم صرت إذا أتيتتك ضاحكا أبكيتنى "
" بالأمس كنت إذا سمعت تنهدى وتوجعى "
" تبكى ، وها أبكى أنا وحدى ولا تبكى معى "
وهذه الروح والنزعة نجدها فى قصيدته ( الرياح ) :
" هللى هللى يا رياح وانسجى حول نومى وشاح "
" من خرير الغدير واهتزاز الأثير "
" واختلاج العبير فى دموع الصباح "
" هللى هللى يا رياح "
لكنها من الرومنطيقية الناقصة إذا وقف الحال عند هذا الحد من الطبيعة ! إنما هم يرون بالمظاهر الطبيعية رموزا وصورا لحالات النفس المختلفة وبعبارة الرومنطيقيين الفرنجة ، états d'âme ، فكآبة الخريف صورة لكآبة نفوسهم ، وتناثر أوراق الشجر رمز لتبددد أحلامهم وأمانيهم ، فمخائيل نعيمه رأى فى " النهر المتجمد " وقد كبله الجليد ، رمزا لقلبه وقد ماتت فيه الأمانى ، وغدا فى أشد حالات القنوط والحيرة .
" يانهر ذا قلبى ، أراه كما أراك مكبلا " " والفرق أنك سوف تنشط من عقالك وهولا . . " وفوزى المعلوف من شعراء أمريكا الجنوبية صور روح الشاعر فى أحد أناشيده ؛ فإذا الشاعر فى نظره من امتزجت نفسه بالطبيعة ، فأصبح يرى فى كل مظهر من مظاهرها إحدى خلجات نفسه :
" ما احمرار الأصيل غير لهيب
شع من قلبه على مقلتيه "
" وركام السحاب غير دخان نفثته الهموم من شفتيه "
" ما أنين الرياح غير زفير نزعته الرياح من رئتيه "
" ما ندى الفجر غير لؤلؤ دمع
رشفته الأزهار من محجريه "
" وبريق النجوم غير شظايا
كأس حب تحطمت فى يديه "
مظهر آخر من أخص مظاهر المدرسة الرومنطيقية ، هو الحزن والنوح والبكاء وتمجيد الألم . وكل شعر تعرى من هذا المنصر فليس هو فى نظر الرومنطيقيين من الشعر الحقيقى فى شئ . وقد قال دى موسه وهو أكمل من مثل هذه الناحية فى المدرسة الرومنطيقية . Les plus des espérés sant les chant les plus beaux
" إن أبدع الأغانى ما تسربل بالأسى " . وهذه النغمة ظاهرة الوضوح فى شعر المهجر ، قال فوزى يصف الشاعر :
وجبين ألقت عليه شجون النـــ فس ظلا من العبوس ظليلا
فهو لا يعرف النعيم إلا عندما يستعيد حلما جميلا
ألف اليأس قلبه فهو واليأ س يحاكى بثينة وجميلا
وإذا ما النسيم مر عليه فعليل أنى يعود عليلا
وللدمع والألم ، عند دى موسه ، خطورة فى حياة النفس الانسانية ، فهو القائل : Rien me neus rend plus grands qu'une grand dauleur .
" لا شئ يجعلنا عظماء إلا ألم عظيم " . وهو القائل أيضا : Le seul bien qui me reue au mande est d'avoir quelque lois picuré .
" كل ما بقى لى من نعم الحياة أنى قد بكيت مرارا " . وفوزى يرى أن الألم والدمع يطهران النفس من أدرائها ، فقد قال يصف كفارة الشاعر وتطهره من أوحال الحياة :
والتظى قلبه ، فطهر بالآ لام ما دنسته شهوة حسه
غسلت عينه ، بما سكبته
من ندى الدمع ، كل أدران نفسه
قد أخذت هذه الأمثلة من شعر فوزى ولأنه يمثل خير تمثيل عنصر الكآبة فى رومنطيقية أدب المهاجرين ، ولكنها روح تطفو على إنتاج الأدباء الآخرين من أدباء المهجر .
إنما الشئ الذى يدعو إلى العجب أن تكون الرومانطيقية العميقة أخص وأظهر ميزات أدب المهاجرين ، إذ ليس هذا اللون هو الغالب على الأدب الأمريكى حتى نقول إنهم تأثروا به ؛ ومن ناحية أخرى فالبيئة الأمريكية بيئة تقوم فيها المدنية على البركار والدولار ، فهى بيئة مادية ، وليس من شأن البيئات المادية أن تكون عنصر الرومنطيقية ! .
إذا أردنا أن نرجع المسببات إلى أسبابها ، قلت إن اغتراب هؤلاء الشعراء عن أوطانهم كان مما أوجد
الرومنطيقية فى شعرهم ؛ هؤلاء أغراب فى تلك البلاد يكدحون النهار بطوله ، فاذا عادوا فى المساء ، فلا جار لهم من أبناء جنسهم يهش لهم ، ولا الزوجة تحنو عليهم ، ولا الأم ، ولا الأب ، حتى عظامهم سترقد فى مدينة الأموات ، من تلك البلاد ، غريبة بين العظام ؛ حرمانهم هذا من العطف الخالص ، وإحساسهم بوحشة الاغتراب ، ولد فى نفوسهم وحشة واغترابا ، نفسوا عنهما فى شعرهم ونثرهم ، فجاء أدبهم صورة لنفوسهم المكدودة ، وإذا الرومنطيقية هى الميزة الغالبة فى أدبهم بكل ما تحمل من عناصر خاصة بها .
وكان للاغتراب أثر آخر فى العاطفة الوطنية من أدب المهاجرين ، خرجوا فى هذه العاطفة من مخرجين : عاطفة وطنية سلبية ، وعاطفة إيجابية . أما الأولى ، أى السلبية ، فظهرت فيما يحمل أدبهم من ثورة وتمرد على بعض تقاليد بلادهم الاجتماعية والدينية والأدبية ، وعلى ما فى بلادهم من أوضاع سياسية . وقد أشرت إلى ما كان دافعا إلى هذا التمرد والثورة ؛ ومن آثار ثورتهم الأدبية أن خلا أدبهم أو كاد يخلو من شعر المدح ، وشعر المناسبات ، وقد شنوا غارة شعواء على هذا النوع من الأدب ، مع ذلك لم يخل أدبهم من الهجاء لأنه من أداة التمرد والثورة .
أما العاطفة الوطنية الايجابية فقد تجلت فى استمداد هؤلاء الأدباء الصور والتشابيه من بيئة بلادهم ، وروح بلادهم ، على الرغم مما يباعد بينهم وبينها من بحار .
وتجلت مرة اخرى فيما يسود أدبهم من الحنين إلى مرابع طفولتهم ، والتشوق إليها ، والتغنى بجمال بلادهم ، بما فيها من سهول وجبال وأنهار وينابيع وغابات وبساتين . إننا نجد الواحد منهم يتغنى بجبلى " جلق وصنين " . كأن الشواهق من جبال الأند لا تهز نفسه ، ونرى
الآخر يتشوق إلى جلسة سمر على ضفاف " بردى , والبردونى " ، كأن " الهدسون وشلالات نياجرا " لا تفتن نفسه . وظل المهاجر العربى يتلفت فى مهجره إلى صوت شبابة الراعى فى مراعى بلاده ، من سفوح الكرمل ، إلى تلال لبنان إلى سهول سوريا ، كأن ما فى تلك البلاد من موسيقى لا ترنح عطفيه .
وددت أن أوضح هذه الميزات بالشواهد من أدب المهاجرين ، وأن أكشف عن عوامل أخرى من ثقافية ونفسية كانت كلها عاملة على تكوين ما امتاز به أدب المهاجرين من خصائص ، ولكنى قصدت إلى عرض أشبه بمقدمة ، ولم أرد الاستفاضة والاسهاب .
