تلخيص : رفضت مولى كن أن ترحل مع جون ديوي شانج إلى الصين بعد أن أتم تعلميه ، فسافر وحده محطم القلب ، وقد تركزت أماله صوب هدف واحد هو خدمة الوطن ، ولكن آماله تهدمت حين رأى ما عليه هذا الوطن من شقاء فكر رأيه على أن يرحل إلى البلدان الداخلية ، على أن يجد فيه صورة الوطن الجميلة التى رسمتها له أحلامه وأحاسيس الأم منذ الطفولة
سارت الباخرة النهرية المزدحمة بمئات الحجاج الميممين صوب أحد المعابد القديمة ، تقل بين ركابها جون ، وبين جنبيه بقية من أمل فى الوطن الجميل ، الوطن الساحر ، ذى الأرض السوداء الخصبة ، والنسوة الوديعات تضطرب بين جنوبهن أرواح صافية ، كروح تلك الأم التى غرست فى نفسه آمالا مشرقة .
كانت الباخرة تسير كأنها مريض قد أثقلت قدميه وطأة الداء ، وكان جون لا يجرؤ على مغادرة غرفته الصغيرة إلى سطح الباخرة ، فقد حاول ذلك غير مرة ، فأرجعته جيوش الذباب التى تهوم فى كل مكان كأنها من بين ركب السفين .
أى حسرة دبت فى نفسه وهو يرى هؤلاء المئات من الرجال تعلوهم الأقذار ، وتكشف عيونهم عن شتى الأمراض تنوء بها أجسامهم ؟ هؤلاء هم مواطنوه الذين طالما حن لرؤيتهم . إنه ليشعر بأنه لا يمت لكل هؤلاء بصلة ، رغم اتفاق السحنة واللغة ولون البشرة . حاول أن يقنع نفسه غير مرة أن هؤلاء هم أهله وعشيرته فلم يفلح ، مد بصره مرات كثيرة من مرة خلال نافذة غرفته الصغيرة نحو ضفة النهر ليتنسم نسيم الوطن ويري أرضه
الساحرة ، فردته رائحة الأقذار القوية تنبعث من كل مكان كأنها غلاف يحيط بالسفينة . لقد لمح غير مرة على ضفة النهر أرض الوطن ، ولكنها لم تكن كما صورت أحلامه ، كانت شيئا آخر تمنى حين رآه لو عاد ثانيا إلى نيويورك . كلما رست به السفينة ، وأتيح له أن يتحامل بجسمه الذى ضعفه الفشل ليلقى نظرة على الميناء ، لم تطالمه إلا وجوه صفراء باهتة كوجهه ، ولكنها غارقة فى الأقذار والذل ، لقد لمح هذا الذل فى كل شىء ، لمحه فى مئات الشحاذين يسألونه الصدقة فى لهفة وجوع ، ولمحه فى النساء اللواتى يترقين فضلات الطعام التى يلقى بها الحجاج كأنها عظام تلقى لبعض الكلاب ، ولمحه أخيرا فى نظرات الحسد التى يختلسها الكهول المستندون إلى جدران الميناء يرمقون بها الحجاج فى الباخرة . ترى أكانوا يحسدونهم على رحلة الحج ؟ أم على أنهم يملكون رداء يسترون به أجسامهم ؟ أم على أن لهم من القوة ما يعينهم على الحركة والكلام ؟ ...
الذل ، والفقر . ذلك هو الوطن الذي رآه كلما رست الباخرة على مرفأ من المرافئ المنتشرة على شاطئ النهر !
-١٧٣٠-
الجوع . الجوع فى كل مكان . حتى هذا الذباب الذى يهوم على مئات الوجوه كأنما يئس من أن يجد غذاءه فى هذه الأجساد التهالكة ، فهو يروح ويجيء فى جنون اليائس .
حن إلى نيويورك حنينا دفعه إليه اليأس الذى تسرب إلى نفسه والذى كان يزداد كلما خطت الباخرة شبرا متغلغلة فى صميم الوطن .
كان هذا اليأس يتسرب إلى نفسه كأنه يقظة بطيئة مفزعة من حلم جميل ، فأحس أنه فى حاجة إلى العزاء وإلى أن يبث آلامه ، فأمسك بقلمه وشرع يكتب .
لم يكتب لوالده ولا لأصدقائه ، وإنما كتب إلى موللى ، شعر بالراحة وقلمه يخط إليها أحزان نفسه فمضى فى الكتابة . قال لها فى أول رسالته إنها كانت على حق حين رفضت أن ترحل معه ، ثم تحدث عما يعانيه من مرارة الوحدة وقسوة الفشل على نفسه . كأن شيئا غير عقله المفكر يملى عليه ، حتى إنه حينما ألقى بالرسالة إلى صندوق البريد سأل نفسه أكثر من مرة : لم كتب لها ؟ فلم يظفر بجواب يرتاح إليه العقل ، وإن كان قد داعب قلبه شعور وهمى بالراحة والعزاء .
لم يصله رد على رسالته ومع ذلك فقد كتب ثانيا ، كتب كأنما كانت جرعة العزاء قد ضعف مفعولها فكرر الدواء . تسلل إلى قلبه إلهام خفى أنه يكتب لإنسان يستمع إلى شكايته وبألم لأحزانه ، فكتب ثالثا ورابعا . وفى إحدى رسائله كتب يقول : ˒˒حذر الأقذار والشحاذين لا أجرؤ أن أغادر غرفتى ، فإذا خرجت مرة فقد كتب على ألا أنتبه إلى شىء إلا إلى حافظة نقودى وساعتى ، فإن غفلت عنهما لحظة واحدة نشلنا بسرعة البرق . إنهم هنا فى أرض الوطن يخطفون كل شىء ، ويسرقون كل شىء ، ولا حيلة للمرء إلا السكوت˓˓ .
عاد يوما إلى الفندق منهوك القوى بعد يوم قضاه فى
عمل يتعلق بتجارة عمه ، فوجد رسالة قد حولت إليه من حانوت عمه آنية من نيويورك ، لم يكد يفض غلافها حتى اشتمله شعور فرح عميق جعله يتردد برهة قبل تلاوتها .
لقد كانت من موللى . لقد كتبت إليه آخر الأمر هذه الفتاة المرحة التى لا تمنى بشىء . أى شعور بالسعادة عمره وهو يقرأ كلماتها المشجعة التى تفيض عطفا وعزاء ؟ هذه الكلمات المرحة التى كان لا يطيق سماعها منها أيام كانا جارين فى المسكن وصديقين فى الطفولة ، لقد ما تغيرت نظرته إلى هذه الكلمات المرحة فقد أصبح برتاح إليها بل ويفرح بها . لقد قرأ الرسالة مرات كثيرة ، واستوقفه فى كل مرة قولها فى إحدى الفقرات : ˒˒وماذا كنت تظن يا صاح أن تكون عليه حال بلادك ؟ اشد ما أتمنى أن أكون بجانبك لأشد من عزيمتك وأبعد عنك هذا اليأس الذى يشيع فى نفسك . إنى لأرجو أن أحضر إليك ، لا لنتروج فأنت تفهم جيدا ميولي ، وإنما لغرض آخر هو أن أحاول جهدى أن أبذل ما أستطيع فى إصلاح هذا البلد إن كان حاله على ما ذكرت من السوء والشقاء˓˓ .
أغلق الرسالة بعد أن تلاها أكثر من مرة ، ثم ألقى نظرة من نافذته إلى الطريق ، إلى هذه الأزقة المظلمة ، وقد انتشر الناس رجالا ونساء على جنباتها فزعين من الحر فاختلطت أصوات الكلاب النابحة فى ضعف من ألم الجوع بأصوات الأطفال يولولون فى ذل من ألم الجوع ، فارتد بصره فى سرعة وقد اعتراه الخجل وعادت إلى ذاكرته رسالها مرة أخرى فردد في همس قولها : ˒˒إنى لأرجو أن أحضر إليك˓˓ فخالجه شعور عميق بأنه لا يتمنى ذلك لا يرغب قط أن تحضر موللى وترى ما يراه من شقاء الوطن ، أجل إنه لا يحب أن تحضر موللى أبدا . لقد جلس إلى المنضدة يكتب إليها الرد ، فجرى قلمه بعبارات الشكر وكانت كل كلمة من كلماته كأنها قهقهة سخرية مرة
-١٧٣١-
يخالطها الألم والحسرة ، لقد تحولت شكاياته فى رسائله الماضية إلى التهكم ، حاول أن يخفى به ما تفيض به نفسه من حزن موجع ، ولم يشك شيئا هذه المرة ، وإنما تظاهر بالشجاعة وعدم الاكتراث . ولم ينس فى ختام رسالته أن يكتب إليها ، وقد لفت نظره مفتاح الكيروسين يرسل ضوءه الخافت الكئيب : ˒˒حتى المصباح الذى يضىء لى غرفتى ويبعث إليها شيئا من النور لا يوقد إلا بالكيروسين المجلوب من أمريكا ، فخير لك ألف مرة أن تظلى فى أمريكا˓˓
كان صادق الرغبة فى أن تظل موللى فى أمريكا ، وكان يتمنى أن يعود هو أيضا إلى هناك حيث قضى الطفولة وشرخا من الشباب . ولكن أنى له ذلك أنى له أن يعود بعد هذه السنوات التى قضاها فى التفاخر بهذا الوطن ، وبعد ان كان فى دراسته بمثل فكرة التطرف فى الوطنية ، ويرأس جماعات الطلبة الصينيين الذين يحدبون فتى الوطن . لقد تقرر مصيره هو على هذا الوجه المحزن ، وليس من العدل أن يدفع إلى هذا المصير فتاة أحبها وكانت أبعد منه نظرا حين أجفلت من الأوية إلى أرض الوطن .
ولكن موللى حضرت رغم كل شئ ، حضرت أخيرا حين تمنى هو أن لا تحضر . إنها لم تكن كما تصورها فتاة لاهية مستهترة . على العكس من ذلك ، إنها كانت تفهم الحياة حق الفهم . لقد كانت تحب الوطن كما يحبه ، ولكنها كانت أكثر تقديرا للظروف بطبيعتها العملية من نزعته الخيالية المحضة . كانت تدرك أن فتى وفتاة في سيمة الصبا لن يستطيعا أن يغيرا من حال الملايين الغارفة فى الذل والشقاء والأمراض ، ولذلك سخرت من فكرته حين أعلن عن رغبته فى العودة إلى الوطن ، وأدركت ما سيعانيه شاب تربى فى محيط غربى متعدن حين يلقى نفسه فى بلد إن ربطته بأهله رابطة السحنة والدين والأصل
فلن تجمعه وإياهم رابطة الأخلاق والتربية والبيئة . لم تكن تتبرأ من الوطن حين زعمت له أنها أمريكية ، وإنما كانت تقرأ أمرا واقعا : إن من تربى فى وسط المدنية لا يستطيع أن يصنع شيئا فى بلد متأخر غارق فى ظلمات الشقاء ، إلا أن يحمل نفسه من المضايقات ما لا يطيق .
آية ذلك أن موللى قد حضرت إلى الصين حينما أصبحت أمام الواقع ، وحينما رأت أنه أصبح وحيدا فى هذا الوطن يعانى وحده الألمين ، ألم الوحدة وألم الفشل الذريع ، وحين عرفت أنها تستطيع أن تعمل شيئا لهذا الوطن هو على الأقل أن تخفف العناء عن أحد أبنائه .
لقد كتبت فى رسالتها : ˒˒وأخيرا سأحضر ياجون . لقد غيرت فكرى آخر الأمر وأيقنت أن الوطن القديم فى أشد الحاجة إلى الآن . على الأقل لأننى أستطيع أن أعمل شيئا لأحد أفراده . لأننى أستطيع أن أقف بجانبك أنت ، لقد أعددت تذكرة السفر وسأحضر مع والدى لأن له أعمالا بالصين ، أما أنا فعملى الوحيد هو أنت .. ˓˓
أغلق الرسالة واضطربت فى نفسه شتى الخواطر ، أحقا أن موللى قادمة إلى الصين ؟ أحقا أنها خلال هذه الأيام التى يقضيها قلقا مضطربا ، تأخذ طريقها إليه بين مئات من الذاهبين إلى الصين بين أجنبي يمضى لعمل وبين آب إلى الوطن تملأ نفسه الآمال - مثله هو حين آب إلى أرض الأحلام ؟ لم يدر ماذا بفعل . خطر له أول الأمر أنه يجب أن يصلح كل شئ قبل أن تحضر ، وتجسد له هذا الخاطر أمرا لابد منه حين قفزت إلى رأسه صورة ما رآه من الجهل والقذارة فى كل مكان . كبر عليه أن ترى موللى ما رآه حتى تمنى لو أتيح له أن يحجب عن عينيها كل شئ ، وسارع بما معه من النقود فاستأجر منزلا صغيرا فى الحى الأوربى فى المدينة ، وابتاع بعض
-١٧٣٢-
الأثاث مما يحتاج إليه زوجان يعيشان حياة أمريكية متواضعة ، وحرص على أن يكون المنزل الذى يستأجره محاطا بحديقة صغيرة لكى يحقق ولو جزءا صغيرا من حلمه فى عش الزوجية القديم .
بعد أسبوع واحد كان يجلس إلى موللى فى المنزل المتواضع الذى استأجره .
جلس يتأمل وجهها وقد جلست قبالته على المائدة فلمح شيئا من التغير ثم عليه محياها . لقد كانت فى نيويورك فتاة مرحة تستهتر بكل شئ ولا تخضع لإنسان . أما الآن فقد غادرها المرح المستهتر وحل محله هدوء عجيب ! حتى لقد حدث نفسه أن ذلك بدء الملل والسأم وخيبة الآمال . وسألته مرة وقد جلسا إلى الطعام :
-أين ما زعمت لى من القذارة والشقاء فى هذا البلد ؟ . فأجابها وقد تجنب أن يلتقى نظراهما : - لقد كانت موجة من التشاؤم والملل ليس إلا .
ولكنها لم تكن موجة من التشاؤم كما زعم لها . لقد كان الشقاء والقذارة حقيقة لا ريب فيها جهد أن يجنبها مرآها ، لقد حرص على ان يحيطها بجو لا ترى فيه شيئا مما يراه ، فى ذلك الحى الغربى من المدينة لا تبدو تلك الوجوه التى تنطق بالفاقة والمرض ، ولا يلمح الانسان إلا وجوها أمريكية أو أوربية يعلوها المرح والسرور والنشاط . ولقد ظن أول الأمر أن موللى لن تخرج من هذا الجو الذى أحاطها به ولكنه كان واهما .
لقد بدأت تتعلم الصينية من الخادمة التى كانت تعاونها فى شئون المنزل ، ولم يمض شهران حتى سألته صباح أحد الأيام رأيه فيما إذا خلعت ملابسها الأمريكية وارتدت رداء وطنيا . فلما عارضها فى ذلك أجابته قائلة :
- مهلا ، لا تتسرع فى الحكم قبل أن ترانى فى ذلك الزى بعينك .
وفى المساء عندما أقبل إلى المنزل كانت موللى تستقبله على الدرج وقد ارتدت رداء وطنيا فبدت فى الصورة التى كان يتمثلها خياله لبنات الصين ، فابتسم فى تردد وسألها حذرا :
- ألا تشعرين بشىء من الغرابة فى هذا الزى ؟ وأجابت مسرعة : - غرابة ؟ إننى على العكس أشعر أنى لم أرتد زيا يليق بى قبل اليوم .
ولكنه ظل بالرغم من كل ذلك قلقا يتوقع أن يعتريها الملل ، فقد كان يعتقد انها فى هذا الحى يأمن من رؤية الأحياء الوطنية حيث يبعث كل شئ على الضيق والسأم ، فلو أتيح لها أن تخرج من هذه الدائرة لحدث ما لا يتمناه وقد يحدث ذلك فى أى يوم .
كان يتجنب أن يتحدث معها عن أى شئ يحدث فى البلد ، حتى أنباء الحرب الداخلية والمجاعات عند ما كانت تسأله عنها كان يتحاشى فى إجاباته أن يذكر لها كل ما يعرف عن فظائعها وأهوالها ، وكانت تحس منه هذه الرغبة ، فتعمدت ألا تقلقه بأسئلتها ، حتى جاء يوم أصبح فيه علمها بكل شى على صورة لم تخطر فى باله .
كان ذلك فى صباح يوم من أيام الربيع ، بعد أن حال عليهما الحول الثانى وأصبحت موللى حاملا فى جنين يخطو فى شهره السابع نحو الوجود .
دوت فى القضاء طلقة مدفع ، وتتابعت وراءها الطلقات ، وامتلأ الجو بزوبعة من الدخان أخذت تتجمع مرتفعة صوب الشمال ، فنظر جون إليها فى ارتباك وحيرة وقد عرف كل شئ . لقد كانت تلك الطلقات تدير الحرب بين الصين واليابان ، فقد وصلت طلائع الجيش اليابانى إلى
-١٧٣٣-
الشاطئ وبدأت عدوانها بأن أطلقت نيرانها على الميناء التفت إليها وقال : - موللى . لا تخافى شيئا . إنني بجانبك وسوف أعنى بك .
تمنى فى هذه اللحظة مرة ثانية لو أن موللى لم تحضر إلى الصين وظلت فى حى موت بنيوبورك ، بل تمنى لو أنه هو ظل هناك ولم يحضر أيضا .
لم يعد هناك شئ يستطيع إخفاءه عنها فزاد فزعه ، ولم يصبح الأمر أمر القلق عليها من الملل والسأم ، وإنما أصبح أمر حياتها ، أمر هذا الخطر الداهم الذي يقترب فى سرعة قاتلة ، والذى بدت مظاهره من تدفق الوطنيين إلى الحى الأمريكى للهروب من خطر اليابانيين .
وخطر له أن يذهب إلى المدينة ليتنسم أخبار الحرب فغادر المنزل وسار فى طريقه مضعضع الحواس ، وقد شغله الحزن الذى استحوذ عليه عن أن يرى تلك الجموع الهائلة من أبناء وطنه وهى تندو وتروح فى حيرة وقلق ، وقد عقد ألسنتها الخوف . وكان منظرا يفتت الأكباد أن ترى كهلا تمزق جسده الأمراض يدفع فى وهن عربية صغيرة قد حمل عليها كل متاعه المؤلف من زوجة هى كومة من العظام وأبناء كلهم من ذوى العاهات لا يقوون على السير : ! ولكن جون لم ير شيئا من كل ذلك ، كان كل ما يشغل فكره هو مصير موللى وما سيعتريها من الفزع والحزن حين تعلم ما يحدق مهما من خطر ، وحين ترى مرغمة ذلك البلد الذى تعيش فيه وما هو عليه من بؤس وشقاء ، كان يحرص كل الحرص على ألا يثير أحزانها برؤيته ، وكان قد وضعها فى الحى الأوربى بمعزل عن كل ذلك ، فما حيلته الآن وقد انتقلت هذه الجموع من الرجال والنساء والأطفال تحمل أقذارها وأمراضها إلى هذا الحى . إنه لن يستطيع أن يحول دون تدفق هذه الجموع ، ولن يستطيع أن يمنع موللى من مجرد التطلع إلى هذه الجموع
وهى تضطرب فى جزع خلال الحى طالبة المأوى والطعام .
عاد جون إلى العزل فى المساء بعد يوم عصيب رأى فيه الأهوال وأحس مدى الخطر المحدق ، وقد توقع أن يرى موللى ملقاة على فراشها مريضة من أثر مارأت من مناظر مؤلمة ، او مضعضعة الحواص لكثرة ما سمعت من اصوات القنابل الداوية التى لم ينقطع إطلاقها طوال اليوم .
ولكنه لم ير شيئا من ذلك ، لم يجد موللى نائمة على فراشها ، وإنما وجد غرفة النوم وغرفة الطعام والردهة ، كلها كأنها خلية من خلايا النحل تموج بالرجال والنساء والأطفال ، من هؤلاء المواطنين الذين تجنب أن تراهم موللى ، كانوا جميعا كأنهم مرضى فى أحد المستشفيات يقطعون وقتهم بالحديث وبإسكات أطفالهم الذين يقطعون الوقت بدورهم فى البكاء والنحيب .
أسرع يبحث عن موللى فى كل مكان ، حتى وجدها أخيرا فى حجرة الطهى منهمكة فى إشعال النار ، فسألها فى لهفة :
- ماذا حدث ؟ وفيم اشتغالك ؟ وأجابته فى هدوء دون أن تترك ما فى يدها : - لا شئ يا جون ، إنهم جائعون ، هؤلاء النمساء يكادون يموتون من الجوع . لقد خربت منازلهم وأصبحوا بلا مأوى .
- ولكن . موللى : إننا لا نستطيع أن نطعم كل هؤلاء ! ورفعت موللى رأسها ، كانما لم تكن تتوقع منه هذا الجواب : - من قال لك ذلك يا جون . إننا لقادرون على أن نطعمهم .
وتلفت جون فى ضيق كأنما يتنسم شيئا ثم قال : - أية رائحة كريهة تلك التى تملأ أرجاء المنزل ؟
-١٧٣٤-
وأجابت موللى فى غضب : - جون ، يجب أن تخجل من نفسك ، إن هؤلاء الذين تتبرم بهم هم أبناء وطنك !
- لقد جهدت طوال الأيام الماضية أن أباعد بينك وبين هؤلاء بما هم عليه من قذارة وجوع وشقاء ! - لقد كنت مخطئا يا جون ، لقد كدت خلال هذين العامين أجن من الضيق والملل ! وأجاب فى بلاهة : - الضيق والملل؟
- أجل . الملل لأننى لا أجد ما أعمله ، بينما يوجد كل هؤلاء . - كل هؤلاء ؟ أتظنين أن هؤلاء هم كل شئ ؟ إن هناك الملايين ، وملايين وملايين .
ولكنه لم يتم جملته ، فقد أجابت فى حزم : - إذا فقد حلت المشكلة . - المشكلة ؟ وأى مشكلة ؟ - أن أبقى هنا أو أعود إلى نيويورك .
وحملق فى وجهها بدهشة دون أن يفهم ما تعنى ، بينما نظرت هى إليه فى ابتسام وعطف ، وكأنما أشفقت عليه من حيرته فقالت دون أن تغادر شفتها ابتسامتها : - يا أبله ! ألا ترى ما أمامك . لقد كنت أتوق دائما إلى أن أجد عملا ، وها أنت ترى أن هنا عملا كثيرا .
وبدت لعينيه الحقيقة أخيرا ففهم ما تعنيه . إنها لا تفزع من رؤية هذه الوجوه ، ولا يضايقها أن تختلط بأصحابها ، إنها تدرك أنهم جباع ، وترى من واجبها أن تطعمهم ، أما قذارتهم ...
وكأنها فهمت ما يجول بخاطره فقد استأنفت حديثها فى حزم قائلة : - بعد أن يطعم كل هؤلاء سأشرع فى غسل أطفالهم
وتنظيف أجسادهم ، وربما أتيح بعد ذلك للكبار أن يغتسلوا بعد أطفالهم . وقاطعها قائلا :
- ولكن يا موللى من أجل هذا الجنين الذى تحملينه فى أحشائك يجب أن تغادرى هذا البلد إلى أمريكا ، إن الحرب هنا على حال من الفظاعة تدفعنى إلى المسارعة بانقاذك ...
ولم تدعه يتم حديثه ، بل اندفعت فى غضب ، وقد وضعت يديها فى خاصرتيها كما فعلت يوم أن رفضت الرحيل معه :
- اسمع يا جون : سيولد طفلى هنا فى البلد الذى يملك وحده حق التصرف فيه ، وبين أهله الحقيقيين . وتغيرت نبرة صوتها من الغضب إلى لهجة الأمر : ˒˒والآن خذ هذا الوعاء واذهب لإطعام هؤلاء التعساء أسرع قليلا بربك ...˓˓
... وطرق سمعه وهو يغادر غرفة الطهى صوتها يكرر عليه الرجاء قائلة : - أسرع يا جون ، فلا زال لدينا عمل كثير ...
(تمت)
-١٧٣٥-
