كان العرب في جاهليتهم ، منحطين في عبادتهم ، فعبدوا الأحجار من دون الله ، وقال واصفهم "كنا نعبد الحجر في الجاهلية ، فإذا وجدنا حجرا أحسن منه نلقي ذلك ونأخذه ، فاذا لم نحد حجرا جمعنا حفنة من تراب ، ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه ، ثم طفنا به " . وقال آخر : " كنا نعمد إلى الرمل فنجمعه ، وتحلب عليه فنعبده ؛ وكنا نعمد إلى الحجر الأبيض فنعبده زمانا ثم نرميه " .
وإذا رأوا حجرا فعلت فيه الطبيعة فعلها حتى جعلت منه شبيها بالإنسان ، كانوا له أكثر تقديسا وأحر عبادة ، فكانوا يعبدون حجرا ، كجثة الرجل العظيم وهو من صخرة بيضاء ، لها رأس أسود ، وإذا تأملها الناظر رأى فيها صورة وجه الإنسان " . وكانت طيئ تعبد " القلس " " وكان أنفا أحمر في وسط جبلهم - الذي يقال له أجا - أسود كانه تمثال إنسان ، وكانوا يعبدونه ويهدون إليه ويعقرون عنده".
ودعاهم إلى ذلك أن لم تكن لهم مهارة فنية يستطيعون بها أن يتقنوا النحت وصناعة التماثيل ، فكانوا يتأملون ما تخرجه الطبيعة من فن فيعبدونه ، كحجر أبيض جميل ، أو شبه تمثال ، أو شبه صنم ، فما كان عندهم من تماثيل متقنة فمجلوبة من الخارج - غالبا - فيذهب بعضهم إلى أن " يغوث " كان على صورة الأسد ، ونه مجلوب من مصر ، وأن بين آلهة المصريين صنما على صورة الأسد اسمه " يغنوث " الخ.
وكما عبدوا الأحجار عبدوا الحيوان، قال ابن عبد البر: "إن العرب كانوا يأتون بالشاة البيضاء فيعبدونها ، فيجئ الذئب فيأخذها ، فيأخذون أخرى مكانها". ولما وفدت
طيئ على رسول الله ( ص )قال لهم : " إني خير لكم من العزي ولاتها ، ومن الجمل الأسود الذى تعبدونه من دون الله " ولما اغار عمرو بن حبيب على بني بكر وجدهم يعبدون سقبا من دون الله ، فأراد إغاظهم فنحره وأكله" وكانت لهم أصنام على شكل حيوان جلبوها من الخارج ، على شكل اسد ونسر وفرس ويربوع .
فإذا ارتقوا من الحجر والحيوان عبدوا تمثال إنسان ، فعبدوا " أسافا ونائلة " وهما - فيما ذكروا - صنمان ، زعموا أنهما رجل وامرأة من جرهم ، فجرا في الكعبة فمسخهما الله حجرين" . ولست أدري ما حملهم على عبادتهما مع شنيع فعلهما ، وهما إن استحقا شيئا فالرجم لا العبادة .
وعبدوا اللات والعزي ، واختلفت الأقوال فيهما ، فمنهم من قال إنهما صمان لرجلين صالحين كان أحدهما يلت السويق للحجيح.
فإذا ارتقوا خطوة أخرى عبدوا النجوم كالشمس والمشترى والشعرى ، ولكنهم نظروا إليها في عبادتهم نظرة مادية جامدة .
سقنا هذا لنبين أن العرب في جاهليتهم كانت نظرتهم الدينية نظرة وثنية مادية وضيعة .
وللدين أثر كبير في الأدب ، لأنه من ناحية مصدر كبير من مصادر الإلهام الأدبى ، ومن ناحية أخرى إذا كان الآديب ذا دين مادي وثني جامد ، تأثر أدبه بعقليته ، فخرج مثله ماديا جامدا ، وإذا كان دينه ضيق الخيال لاصقا بالحجارة والأرض ، كان خياله في أدبه غالبا كذلك ،
لأن نفسية الإنسان وعقليته وحدة لا تتجزأ ، وإن اختلفت مناحيها ومظاهرها .
من أجل هذا نرى الأدب الجاهلى في الكثير الأغلب ماديا ، لا معنويا ولا روحيا .
فمن مظاهر ذلك ناحية التشبيهات والاستعارات في الأدب الجاهلي ، فهي أدل ما تكون على ضعف الخيال أو قوته ، فإذا استعرضناها وجدناها مادية لاصقة بالأرض في الأعم الأغلب ، فالجاهلي يشبه الحيوان بحيوان مثله ، فيشبه الناقة بالظليم ، أو بالثور الوحشي ، أو بالنعامة ، أو بالأتان ؛ ويشبه امرؤ القيس الفرس بجلمود صخر خطه السبل من عل ، والنجوم بالمصابيح ، وبعر الآرام بحب الفلفل ، وفرع الشعر بقنو النخلة المتعثكل ؛ ويشبهون السنام بقنطرة الرومى أو بالقصر ، والسيد العظيم بفحل الإبل ، والنساء ببيض النعام ، والحرب وما يحلب منها من دماء بالناقة يحلب منها اللبن ، أو بالناقة تحمل ثم ترضع ثم تفطم ، ومثل هذا كثير ؛ وكل الشواهد تشهد بما نقول من ولوعهم بالتشبيه المادي الأرضي ؛ وقل أن نجد لهم تشبيها سماويا أو معنويا ، كما فعل غيرهم من تشبيه سرعة الفرس بالبرق ، أو تلألؤ السيف بلمعان الشهب ، أو جرى الفصيل إلى أمه بدبيب الخيال الخ . وهكذا كانت تشبيهاهم مادية أرضية من جنس دينهم المادى الأرضى .
لقد كان اليونانيون وثنيين كالجاهليين ، ولكنهم رفعوا آلهتهم من الأرض إلى السماء ، ومنحوها الحركة والحياة ، وجعلوا للحب والجمال والشعر آلهة ، وجعلوا " افرودبت " تخلق من أمواج البحر ، وأولدوها إله الحب ، وجعلوا له جناحين ذهبين ، وجعلوه يحمل سهاما حادة ، ومشاعل ملتهبة ، ونسجوا حول آلهتهم أساطير فى منتهى الخصب في الخيال ، والبعد في السماء ، والحركة في الحياة ، وظلت هذه الخيالات والأساطير تسير سيرها وتعمل عملها في الحياة اليونانية ، حتى حولها الأدب إلى
قصص وتمثيل ، وحولها العقل إلى فلسفة .
ومظهر آخر من مظاهر المادية الأرضية في الأدب الجاهلى ، وهو شعرهم في المرأة ؛ نعم قد أكتروا من الغزل والنسيب ، وافتتحوا به قصائدهم في كل غرض من أغراض الحياة ؛ ولكن أعمل النظر في أشعارهم ، وأطل التفكير في غزلهم ، نجد انهم لم ينظروا في المرأة إلا إلى جسمها ؛ لقدادركوا تمام الإدراك جمالها الحسى ، ولكنهم لم يدركوا جمالها الروحى ، أولعوا بقدها الممشوق ، وعيونها الدعج ، ووجهها الوردي ، وخصرها النحيل ، وردفها الثقيل ، وما شئت من أعضائها وأجزائها ، فأما روحها السماوي ، وجمالها الروحى ، وتعشق روح الشاعر لروحها ، والشعور بأنها مصدر وحيه وإلهامه ، فشئ لم يستطع إدراكه الشاعر الجاهلى .
لقد نظر الشعراء الجاهليون إلى المرأة كما ينظرون إلى لحم الجزور ، وكاس الخمر ، هي متعة جسمية لا غير واستفتح هذه الآراء امرؤ القيس بقوله :
كأني لم أركب جوادا للذة
ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل
لخيل كرى كرة بعد إجفال
وقوله :
وبيضة خدر لابرام خباؤها
تمتعت من لهو بها غير معجل
فسار الشعراء على اثره يتخذون المرأة ملهاهم ، ويقرنونها بالفرس والكاس ، حتى وصل الأمر بأبي تمام في العصر العباسي إلى أن يقول :
كانت لنا ملعبا نلهو يزخرفه
وقد ينفس عن جد الفتي اللعب
استقر الشعر الجاهلي ما شئت ، واستقر ما جرى على
اثره من بعد ، تلمس دائما شيئين واضحين في أدب المرأة : العناية بتشبيه أعضائها وأجزائها ، فترائبها مصقولة كالسجنجل ، وجسدها كجيد الريم ، وفرعها كفنو النخلة ، وكشحها كالجدبل ، وساقها كأنبوب السقى ، وهي تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل ، ووجهها كأن الشمس ألقت رداءها عليه ، وأسنانها كالأفحوان . الخ الخ هذه هي المرأة في ذاتها ، أما موقفه منها فالمتعة والهو إن استطاع ، واللذة بذكرى المتعة ، أو الألم من حرمانها ، ثم لا شئ وراء ذلك .
إني لأفهم أن يكون ذلك بعض الأدب ، وبعض وجوه النظر إلى المرأة ، أما أن يكون ذلك كل الأدب النسوي فشئ يدعو إلى الخجل ! إن وراء هذا النظر المادي الأرضى نظرا آخر روحانيا سماويا ، فيه المرأة ملك كريم ، وفيه المرأة مصدر وحى وإلهام ، وفيه المرأة قلب ؛ وحول هذا كله ينشأ أدب من طراز آخر ، فيه العواطف السامية ، والمعاني الراقية ، وهذا مالم نجده في الشعر الجاهلى .
ثم لكل أمة أساطير تدور حول عقائدها وتقاليدها واحداثها وتاريخها ، وتختلف فيها بينها بقوة خيالها أو ضعفه ، وإحكام نسجها أو هلهلته . وكان للعرب الجاهليين أساطير من هذا القبيل ؛ والذي يمعن النظر في أساطيرهم يراها أيضا تكاد تكون مادية أرضية لا تبعد في الخيال ولا تسبح في السماء ، تدور حول المعمرين الذين عمروا مئات السنين ، أو حول الجن وقد جسدوها في حية أو نعامة أو قنفذ أو أرنب أو حيوان خرافي كالغول ، أو حول المسخ كالذي زعموا أن الضب والكلاب والأرانب كانت أمما فمسخت ، وان الصفا والمروة كانا رجلا وامرأة فمسخا ، او حول النجوم كالذي زعموا ان الغميصا وسهيلا كانا مجتمعين فامحدر سهيل فصار يمانيا وتبعته العبور فعبرت الهجرة وأقامت الغميصاء فبكت لفقد سهيل حتى غمصت " وأن الزهرة كانت امرأة حسناء فصعدت إلى السماء ومسخت كوكبا " إلى غير ذلك من
الأساطير ، وكلها تدل على ضرب من الخيال محدود .
والأساطير في الأمم مصدر كبير من مصادر الأدب القصصى ، فلما ضعف الخيال القصصى الجاهلى تبعه بعد ضعف القصص العربي .
رأينا من كل هذا أن الأدب الجاهلي كان يساير الدين الحاهلي إلى حد بعيد ، وأنه كان يقف في المستوى الذي وقفه الدين ، وأن الدين كان ماديا أرضيا فكان الأدب ماديا أرضيا كذلك .
ومن الواضح جدا أن الشعر العربي اتخذ قبلته الشعر الجاهلي قبل أي شئ آخر ؛ وأوضح الأدلة على ذلك ما هو مدون في كتب الأدب وخاصة في باب السرقات والموازنات ؛ فنجد فيها أن المعاني الأساسية للشعر الجاهلى اتخذت أساسا سار على مهجها الشعراء الإسلاميون ، فحوروا بعض معانيها مع احتفاظهم بالأساس ، أو حافظوا على الجوهر وغيروا الشكل ؛ مدح الجاهليون بالشجاعة والكرم فكان أكثر المدح الإسلامي بالشجاعة والكرم ، حتى الملوك والأمراء الذين يجب أول كل شئ أن يمدحوا بالعدل قل أن يمدحوا بالعدل ، لأن الجاهلي مدح بالشجاعة والكرم . وقال امرؤ القيس :
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا
لدي وكرها العناب والحشف البالي
وقال :
كأن عيون الوحش حول خببائنا
وأرحلنا الجذع الذي لم يثقب
وقال :
وقد أغتدى والطير في وكناتها
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
فأصبحت هذه وأمثالها مصدرا للكثير من الشعر العربي ، ورددوها و كرروا حتى صدعوا ، وكما قال ابن سعيد : " وهذه المعاني ولد منها شعراء المشرق والمغرب وتطارحوا
في الأخذ منها " وصار لكل شاعر من شعراء الجاهليين ابيات معدودات ، ومعان محدودات ، يعرفها العلماء بالأدب ، هي الإمام في الفن وهي التي حددت القوالب التي يصب فيها الشعر العربي - أصبح امرؤ القيس إمام الشعراء في التشبيهات ، والنابغة في الاعتذارات ، والأعشي في الخمريات الخ .
ولقد أنصف العلماء إذ سموا المنهج الذي سار عليه الشعر العربي " عمود الشعر " وفي الحق أنه عمود متحجر لم يلن ولم يتغير .
ومن أشد دواعي الأسف أن الزمان قد سمح بمن خرج عن هذا العمود أحيانا وأراد أن يبني عمودا آخر ، أو أراد أن يغير العمود إلى شجرة تنتج فروعا جديدة ، فسمع قوله ولم يتبع ، وصفق له بعض الناس ولم يقلد ، والتف الناس حول عمود الشعر ، وعمود الشعر وحده .
لقد ابتدع عمر بن أبي ربيعة فن القصص الشعري وأتى فيه بالمر قص المطرب ثم مات ولم يعقب .
وجاء أبو تمام فأبعد في الخيال وغاص على المعاني وعرضها بأسلوب فيه جدة ، فقام علماء اللغة والأدب في وجهه وفضلوا عليه البحتري لا لتزامه عمود الشعر ، فماتت طريقته من بعده .
وجاء ابن الرومي فابتدع توليد المعاني وتبسيطها واستخراج ما فيها إلى النهاية ، كما اخترع الهجاء اللاذع بالتصوير الفكه وبالفن الذي يشبه الفن اليوناني ؛ وتعصب له قوم من القدماء فقالوا : " إنه أحق الناس باسم شاعر لكثرة اختراعه وحسن توليده " ولكن مات فنه بموته وبقي عمود الشعر ، وعمود الشعر وحده .
وجاء " المعرى " فأراد أن يحول الشعر إلى غذاء عقلي ونقد اجتماعي ، وينفخ فيه من روح فلسفي ، فقالوا إنه فيلسوف لا شاعر ، وإنه في " سقطه " أشعر منه في " لزومياته " ، وأخيرا سار في طريقه وحده .
ثم جاء القراآن فغير العقلية العربية ، ورفع النظر من الأرض إلى السماء ، وإلى ما فوق السماء ، وعلم الناس أن يقرءوا كتاب الطبيعة في فصوله المختلفة من إنسان ونبات وجبال وسحاب وأمطار ونجوم وسماء ، وأن يقرءوا ما بعد الطبيعة من إله فوق العالمين ، هو نور السموات والأرض ، وكشف عن العيون غطاءها ، فأصبح بصرها حديدا ؛ فنظرت إلى العالم من طيارة ، بل من أعلي من الطيارة ، ورأته وحدة متناسقة الأجزاء تخضع كلها لإرادة الله وأعلن الثورة على النظرة المادية التي كان ينظر بها أهل الجاهلية ؟ فكانت كل ضربة بالمعول في صم ثورة على ذلك النظر ، ودونت كلة لا إله إلا الله في جزيرة العرب تعلن ضياع الوثنية وعبادة المادية ؛ فلا لات ولا عزى ، ولا بعل ولا هبل .
وكان للقرآن بجانب ناحيته الدينية ناحية أخرى أدبية ، فهو في تعبيراته وتشبهاته يتناسب كل التنسب مع دعوته ، يعالج شئون الأرض ويرتفع بالنظر إلى السماء ، وهو في تعبيره وتشبيهة ومجازه كذلك لا يقتصر على التعبير المادي ولا التشبيه المادي كالذي كان في الجاهلية ، بل وجه النظر إلى المعاني أيضا في كل ضروب بيانه .
وأتى بنوع من القصص بديع في تصويره وتعبيره ، وجعله يخدم عرضه في وعظه وإرشاده .
ورفع شأن المرأة فجعلها إنسانا عدلا للرجل لا ملهاة له ، لها كل حقوق الرجل ، وعليها واجباته ، تحاسب علي عملها كما يحاسب الرجل ، وتدعى إلي جلائل الأعمال كما يدعى الرجال .
كان في القرآن كل هذا وأكثر من هذا ، وكان من المعقول أن يتغير نظر الشعر في الإسلام كما تغيرت العقائد ، وأن يرتفع نظر الشاعر الإسلامي ارتفاعه في عقيدته ، وأن يكون له جانب روحي كجانبه المادي ، وأن يستغل قصص القرآن فينقص هو ولو في اتجاهات أخرى ، وأن
يرى القرآن يدعو إلى العزة فيكف عن المبالغة في المديح، وأن يرى القرآن يدعو إلى عفة اللسان فيتحرج من الإقذاع في الهجاء ، وأن يرى القرآن يرفع شأن المرأة فتعظم في شعره ، ويسمو أحيانا من الكلام في جسمها إلى الكلام في روحها .
فإن لم يجب أن يتغير الشعر الإسلامي كل التغير ، فلا أقل من أن يجعل الشاعر الإسلامي له مصدرين مصدر الشعر الجاهلي لاستغلال خير ما فيه ، ومصدر الإسلام لاستلهام وتعديل منهاجه في شعره .
ولكن تعال معي ننظر ماذا كان ؟ كان أن الشعر الإسلامي لم يتخذ له إماما غير الشعر الجاهلي ؛ فقاله قالبه ، وموضوعاته موضوعاته ، وماديته ماديته ، وتشبيهاته من جنس تشبيهاته (١)، وإن كان هناك جديد فجدة في العرض لا في الجوهر ، وفي الشكل لا في الأساس ، في رقة اللفظ بدل الخشوبة ، وفي تحوير المعني لا في خلقه ، وفي تقصير الأوزان الشعرية أو تحويرها تحويرا خفيفا لا في تجديدها ، وفي اقتباس بعض التشبيهات من أدوات المدنية لا في التحليق في جو جديد ، وهكذا .
قد تقول إن القرآن ليس شعرا ، وإمام الشعر يجب أن يكون شعرا ، ومصدر الشعر يجب أن يكون شعرا ، ولم يكن أمام الشعر الإسلامي إلا الشعر الجاهلي ، فطبيعي أن يقلده لا غيره .
ولكن هذا صحيح في الطبيعة القاصرة والملكات المحدودة ، أما الطبيعة النابغة والملكات المبتكرة فتستمد فيها من كل شئ من خرير الماء ، وصفير الهواء ، وحركات النسيم ، وتموجات البحر ، وتوقيعات الموسيقى، وأحاديث العامة ، وجدال الخاصة ، وأضاحيك المغفلين والماجنين ، وأقوال الفلاسفة وخاصة المفكرين ؛ فكيف
لا تستطيع أن تستفيد من القرآن لأنه نثر ، إلا أن يكون مرض الكسل والهرب من مشقة الابتكار ؟ .
وقريب من هذا في باب الغرابة أنه لما اختلط المسلمون بالأمم الأخرى في العصر العباسي ، وعرضت عليهم اثار الأمم الآخر وخاصة اليونان ، نقل الناقلون إلى اللغة العربية فلسفة اليونان وعليهم وجغرافيتهم ورياضتهم وهندستهم ، ولكنهم لم ينقلوا أدبهم ولا شعرهم ولا قصصهم ولا تمثيلهم ، فكان موقفهم غريبا إذ سمحوا للعقل أن يتغذى بأنواع أخرى من الغذاء ، ولم يسمحوا للعاطفة أن تتغذى بأنواع أخرى من الفن ! بل أمعن في باب الغرابة أن يسمحوا بنقل نظريات فلسفية تتعارض في صميمها مع الدين الإسلامي ، ولم يسمحوا أن ينقلوا ضروبا من الشعر والأدب اليوناني لا تتعارض مع الإسلام في شئ ! ولقد كان يكون في هذا التصرف بعض العذر ، لو أن متبعهم في الشعر الذي يستقون منه منبع إسلامي ، أما ومنتبعهم الوحيد هو الشعر الجاهلي الوثني بما فيه من لات وعزي ، وخمر وميسر ، وشرك وأوثان . فالأمر جد غريب !
اعتقد أن من أهم الأسباب في ذلك أنه لو كان حملة لواء الأدب في العصر العباسي عربا خلصا لسمحوا للآ داب الأخرى أن تعرض عليهم ، ولأخذوا منها ما تستسيغه أزواقهم ، وتجيزه مداركهم ؛ ولكن كان كثر حملة لواء الأدب أعاجم استعربوا ، والأعجمي إذا استعرب كان قصاري همه ، وغاية و كده أن يصل في فنه إلى العربي الأصيل ، ولا تحدثه نفسه أن يشكر في القديم ، أو يجدد في الشئ الأصيل . أري المصري - مهما بلغ في لاتقان اللغة الإنجليزية - محدثه نفسه أن يبتكر في الشعر الإنجليزي ؟ او الشامي مهما بلغ في إجارته اللغة الفرنسية أن يبتكر في
الشعر الفرنسي ؟ إنما يبتكر في الإنجليزية والفرنسية الإنجليزي الأصيل والفرنسي الأصيل ، لأنه من الناحية النفسية لا يشعر فيها بعجز طبيعي ، فكذلك الشأن في العربي الأصيل ، والأعجمي الحامل لواء العربية في العصر العباسي . وهناك من غير شك أسباب أخرى تخرج بنا عن موضوع مقالنا .
أما بعد ، فكل قارئ كريم يلحظ ما أردت من معالجة هذا الموضوع .
أردت أن يتحرر الأدب من قيوده التي تنقله ، وأن يكون الحكم في أدبنا أذواقنا لا أذواق غيرنا ؛ فخير بيت عندي ما تدوقت أنا أنه خير بيت لا ما قال فلان - ولو كان عظيما - أنه أفضل بيت .
وأن يكون أدبنا معتمدا على شيئين : خير ما في الماضي مما يتناسب وحاضرنا ، ويبعث على تحقيق أملنا في مستقبلنا . ودراسة حاضرنا واشتقاق أدبنا منه ، لا أن نعيش في أدبنا على الماضي وحده ، وعلى الماضي الذي لا يتناسب وحاضرنا ؛ فإننا إن فعلنا ذلك كان أدبنا وقفا علي طائفة الخاصة فينا ، وغزا أبناءنا في المدارس وجهرة المتعلمين منا الأدب الأوربي الحديث ، وأصبح الأدب العربي لا حياة له إلا في مناهج المدارس واسئلة الامتحانات وفئة قليلة جدا من المتخصصين ؛ وفي هذا أكبر إجرام على الأدب العربي .
أريد أدبا عربيا يلذه الطفل في مدرسته ، والبنت في مطالعانها ، والشاب في غدانه العقلي والروحي ، والكهل الناضح ، والفني الغر .
أريد أدبا عربيا بشاهده النظارة في السينما ودور التمثيل ، يعرض لحياتهم اليومية وأحداتهم التاريخية ، ويصور حياتهم الاجتماعية .
أريد أدبا عربيا بعرض لأسرنا وحياتنا العامة والخاصة ونفوسنا وخلجاتها ، فيضع في ذلك قصصا رائعا وشعرا بديعا يهز نفوسنا ويلمس مشاعرنا ويحركنا نحو
مثل أعلي ننشده ونسعى إليه .
أريد أدبا عربيا يشعر كل فرد من أبناء العرب بجمال طبيعته ، ويهز قلبه لادراك الجمال الطبيعي والجمال الصناعي ، فيرقى حسه وترهف نفسه ، ويحركه ذلك إلى أن يكون جميلا في سلوكه جميلا فيما يصدر عنه ، ليؤلف مع ما يشعر به من جمال نغما متناسقا وتوقيعا متناغما .
أريد شعرا عربيا يغنيه المغني فيمثل ما في نفسه الحاضرة من حب ووطنية وإنسانية ومعان مستحدثة ومواقف مستجدة ، ويتمثل به المرء في شتى مواطنه ومختلف شؤونه .
أريد شعرا عربيا ينشده الأطفال في رياض مدارسهم والشبان في ألعابهم والجنود في معسكراتهم ، والأسرة المتدينة في صباحها ومسائها ، والفتاة في تغذية آمالها .
ولا يتم شيء من ذلك إذا نظرنا إلى الخلف فقط وإلى الخلف دائما ، ولا يكون شئ من ذلك إلا إذا كسرنا عمود الشعر الذي وضعه الأدب الجاهلي ، وجعلنا بدل العمود الحجري شجرة تقبض بالحياة ، يكون أحد فروعها فقط الشعر الجاهلي ، وأهم فروعها نتاج حياتنا الواقعية ، وآمالنا المستقبلة . لا يكون شئ من ذلك ما دمنا نعد البيت الجاهلي خير الأبيات ولو كان سخيفا ، وخير القصص القصص القديم لأنه ورد في الكتب القديمة ، وأحسن الأبيات في الغزل ما استحسنه ابن الأعرابي . لا يكون شئ من ذلك ما دمنا نوقع الأنشودة القديمة " أن الأدب العربي كامل ليس فيه نقص ، وقوي لا يشوبه ضعف ، وبناء مكتمل لا يحتاج إلي علو ، ومتين الأساس لا يحتاج إلى دعامة " .
إنما يكون ذلك كله يوم نزن الأدب العربي ككل أدب بموازينه الصحيحة من غير عصبية ، ونصرح بالنقص في غير خجل ، ونبني الجديد في غير هوادة ، ونكسر قيود القديم في غير رفق . والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم

