منذ أسابيع، وجهت إحدى المجلات المصرية الى عدد من النوابغ المصريين استفتاء فى دعوى مخاطبة الأرواح أيصدقونها أم يكذبونها، فأعرب البعض منهم عن تشكك فى صحة الدعوى أو نفى لها للاسباب الآتية: -
١ - إن الدعوى لا تقوم على أساس علمى. ٢ - إن واحدا من كبار الباحثين الروحيين غرق فى حادث الباخرة (تيتانيك) ، فلم لم تنبئه الأرواح بالحتف الكامن له فى عرض المحيط؟ ٣ - لم نسمع بأن ساسة الدول وقادة الجيوش قد استخدموا الأرواح فى استطلاع ما يضمره خصومهم السياسيون والحربيون ٤ - لم نسمع بأن رجال الأمن قد استغلوا مخاطبة الأرواح فى كشف خفايا الجرائم وتعقب المجرمين.
هذا مجمل الاعتراضات. ولكن مع احترامى لقائليها، لست أراها تذهب بعيدا فى نفى دعوى المخاطبة. أما القول بأن الدعوى لا تقوم على أساس علمى فقول غامض. وما هو يا ترى المقصود بالأساس العلمى؟ إذا كان المراد أن المخاطبة لم تأت كنتيجة منطقية أو رياضية لإحدى النظريات القائمة فى العلوم الطبيعية فالاعتراض صحيح، إذ المفروض أن المخاطبة مشاهدة تجريبية مستقلة لا تقوم على نظرية علمية سابقة. ولكن من قال بأن النظريات العلمية السابقة يجب أن تكون أساس كل حقيقة علمية جديدة؟ إن أساس الاسس العلمية هو المشاهدة والتجربة لا النظريات العلمية السابقة.
فى ساعة من ساعات التجلى السماوى، جلس (جيمس واط) يرقب ابريق الشاى وهو على النار يغلي ويئز، ورأى البخار يدفع الغطاء من آن لآن فيفتح فرجة يهرب منها، فتملكت (واط) فكرة استغلال قوة البخار المحبوس، ومال على هذا المبحث بكل ما أوتى من ذكاء، وجد فى تهذيب ما سبق فى هذا الميدان من محاولات ساذجة (١)، فوضع أساس صرح ضخم من البحوث
والمخترعات، وحمل البخار الناس فى البر والبحر وطار بهم فى جو السماء؛ فهل كان اكتشاف قوة البخار بادئ ذى بدى نتيجة لنظرية علمية سابقة؟ كلا. لقد كان مشاهدة تجريبية مستقلة.
وفى ساعة من ساعات التجلى السماوى، تنبه وليم جلبرت من أهالى كلشستر بانجلترا، الى أن الكهرباء (الكهرمان) المدلوكة بالصوف تجتذب خفاف القش، وقصاصات الورق، وكان جلبرت ذكى الفؤاد بحاثة، فجرب وجرب، ووضع أساس كل ما نعرف اليوم عن الكهرباء، وما ننعم به من مخترعاتها وبدائعها ومعجزاتها، فكشف الكهرباء أيضا لم يكن قائما على نظرية علمية سابقة، بل كان مشاهدة تجريبية مستقلة.
القول إذن بأن مخاطبة الأرواح لا تقوم على أساس علمى هو على الأقل قول غامض. أما بقية الاعتراضات فليس لها من الخطر ما لهذا الاعتراض الأول. وهى تفاصيل لا أرى التعجل بالخوض فيها، ولعلها تتعلق بالأرواح ذاتها، وما تستطيع وتحب أن تفعله وما لا تستطيعه أو لا ترى فى فعله خيرا. وإذا انجلت هذه البحوث عن إثبات علمى لوجود العالم الروحى، وعن تقوية للأيمان بأوتاد من العلم اليقينى، فكفى بذلك نفعا، بل ذلك هو النفع كله، وهو اللباب الدسم، أما ما زاد عليه فألياف تافهة.
هذا الاعتراضات إذن قد أدلى بها على عجل. ولكن كما أنها لا تذهب بعيدا فى نفي دعوى المخاطبة فكذلك ردودى هذه لا وزن لها كاثبات لصحة الدعوى. إذ الحقائق العلمية لا تقوم على الجدل الكلامى، وإنما الوسيلة إليها هى البحث التجريبى.
فهل ثمة بحث تجريبى جدير بالاعتبار يجرى فى هذا الموضوع؟ فى العواصم بأوربا وأمريكا مجامع لهذا الغرض، أعضاؤها من المثقفين المفكرين، بينهم المحامى والطبيب والمربى والموظف والصحافى والأديب، وعدد صغير من أساتذة الجامعات وأفراد من العلماء الأفذاذ. تستحوذ هذه المجامع على وسطاء يزعمون فيهم الأخلاص وطهارة الطوية، ويدونون تجاربهم فى سجلات، وينشئون لأذاعتها المجلات. وقد يختلفون فى تفسير الظواهر، ولكنهم مجمعون بادئ ذى بدء على صحتها، وانتفاء الدجل منها، وأنها مفتاح ما استغلق من خصائص العقل البشرى ومدى علاقته بمحيط المادة ولكن جمهور المفكرين لن يطمئنوا تماما الى حكم هيئات كهذه فى موضوع خطير كهذا. قد يسلم الجمهور بأن فى الأمر ما يستحق
البحث، ولكن البحث الذى يرضيه يجب أن يكون بين جدران الجامعات. الجمهور يعتبر هؤلاء الباحثين ثائرين على العلم الرسمى، ينشئون داخل مملكته دولة يحكمون فيها باسمه، مع أنه - بحق أو بغير حق - لا يعترف بدولتهم ولا بأساليب حكمهم. ولكن لما كان رجال من وزراء البلاط العلمى قد انضموا إلى الثوار فقد جل الخطب عن السكوت؛ وها نحن أولاء نتساءل الى متى تتحمل الهيئات العلمية الرسمية تبعة شذوذ الموقف؟ ولماذا لا تجلب على الموضوع بالخيل والرجل، فاما أن تهلكه وإما أنت تضمه تحت جناحها؟
العلم لا يعترف الى اليوم إلا بشيئين - المادة وما يحرك المادة من قوى آلية. ولكن الروحيين ينادون بأن فى الكون أيضا قوى خفية ذات عقل وإرادة تؤثر فى المادة فى بعض الظروف. هل لهذه الدعوى من الحق نصيب؟ سؤال ملح موجه الى الهيئات العلمية الرسمية.
ويخيل إلينا أن العلم الرسمى قد بدأ يصغى إلى السؤال. فقد تألف بلندن فى الأيام الأخيرة مجمع جديد للبحث الروحى، أعضاؤه من صميم رجال العلم، يرأسه البروفسور جرافتون أليوت سميث عضو المجمع العلمى البريطانى والعالم العالمى فى الأنثروبولوجيا (علم أصل الأنسان) وأستاذ التشريح بجامعة لندن. . أعلن هذا الرئيس تأليف المجمع بخطاب أرسله لمحرر مجلة اللانسيت (مجلة للعلوم الطبية) ونشر فى عدد ١٣ يناير من تلك المجلة، وفيما يلى ترجمته: -
سيدى: صحت كلمة عدد من رجال العلم على تأليف مجمع للبحث فى الظواهر المسماة عادة بالروحية أو غير العادية، وذلك بالوسائل العلمية التجريبية المتبعة فى علوم الطبيعة والفزيولوجيا. يحدث كثيرا أن يدعى رجال العلم لأبداء رأيهم فى تلك الظواهر فيعجزون عن الأتيان بحجج مستقيمة تبرر موقفهم السلبى، والاولى بهم لكي يكون موقفهم أكثر التئاما مع الروح العلمية أن يتقدموا لبحث تلك الدعاوى بالوسائل العلمية المعروفة بدلا من أن يقتصروا على نفى وجودها، والمجمع الجديد ينوى القيام بهذه المهمة تلبية لنداء مجلة (نايتشر) فى مقالها الرئيسى بعدد ٢٣ ديسمبر سنة ١٩٣٣ (1) قال مستر جيرالد
هيرد عضو اللجنة الاستشارية لمجمعنا فى كلمة اذاعها باللاسلكى يوم ٥ يناير، إن الوقت قد حان ليتنبه العلم الرسمى إلى وجود ظواهر تشذ عن القوانين المعروفة فى العلوم الطبيعية، ولا تلتئم مع أى نظام مادى، ولا يصح إغفالها بعد اليوم، منذ أربعين عاما كان رجال الطب ينكرون الدعاوى الغريبة التى جاء بها التنويم المغنطيسى، ولكن التجربة والاختبار أثبتا صحة تلك الدعاوى وأهميتها، وها هو العلم اليوم فى موقف مشابه لموقفه ذاك منذ أربعين عاما. عندما كنت طالب طب بالسنة النهائية، كان زملائى من الطلبة يسخرون منى لمجرد قراءتى كتابا فى التنويم المغنطيسى، ولكنى نجحت فى اقناعهم بصحة التنويم بأن نومت كبير الساخرين منى. قد أورد مستر هيرد فى خطابه المذاع باللاسلكى طرفا من تلك الظواهر النادرة الغامضة التى يزعمون حدوثها. ظواهر فيها المجال واسع لكل باحث كفء فى علوم الطبيعة والفزيولوجيا والسيكولوجيا. إن لدى العلم اليوم لأجهزة ووسائل للبحث غاية فى الدقة لم تكن موجودة منذ ثلاثين سنة، مثل تصوير الأشعة فوق البنفسجية ودون الحمراء، ومثل أشعة إكس والحاكى ومضخم الأصوات وأشرطة السينما وغيرها مما لم يكن يعرفه الذين بدأوا البحوث الروحية أمثال كروكس وريشيه ولدج. لن نبدأ البحث متأثرين باعتقاد فى الأرواح ولا بأى اعتقاد آخر. وسنسير على النمط الجامعى كما هو الحال فى معامل البروفسور وليم مكدوجال بأمريكا وفى جامعات أخرى بأوربا. وسنعامل بكل اعتبار أولئك الذين يسمون بالوسطاء. وسيضطرب هذا المجمع فى مستهل حياته حتى يكون مستقلا فى ماليته، ولكن رجال العلم ليسوا دائما ذوي مال، ومعلوم أن بين الأثرياء اليوم من يهمهم جدا تشجيع هذه البحوث، فلعلهم يجودون بسخاء لإقامة المجمع على دعائم مالية ثابتة. ونزولا على إرادة البروفسور مزيزرهاريس، الذى أكد لى أنه يعبر عن رغبة باقى زملائه من أعضاء المجمع قد قبلت أعباء الرياسة، ولكن ليس معنى هذا القبول أننى أعرف الكثير فى هذا الموضوع، بل معناه أنى أتعهد بان أجعل البحث جديا وبعيدا عن كل تحيز.
هذا خطاب رئيس المجمع الجديد، وقد أدلى إلى الصحف اليومية الأنجليزية بأحاديث لا تخرج فى معناها عما بهذا الخطاب..

