الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 219الرجوع إلى "الثقافة"

٤ - فى الهواء الطلق

Share

كانت الرحلة هذه المرة إلي رجل كبير قد طوي مراحل الشباب ، وصحب الأيام الخالية ؛ تقوس ظهره واعوجت قناته من طول ما حمل من اعباء العيش ؛ خبر الحياة حلوها ومرها ، وعرف حياة الفلاح في حقله ، والموظف في مناصبه المختلفة ؛ ومكنته ظروفه ان يخالط الاعيان ويدرس احوالهم ، والطبقة الارستقراطية ويعرف تقاليدهم وقوانينهم وتزمتهم ، ورجال السياسة واتجاهاتهم وأساليب تفكيرهم وتهريجهم ، وشاهد مطمع خلافاتهم ، وانغمس في تيارهم ، ثم نفض يده من كل شؤونهم ؛ وفي طول حياته يجاري الحركة الفكرية والأدبية والفلسفية في الشرق والغرب ، ويتذوقها وينقدها ، ويدلي بآرائه فيها .

زرته في ضاحية من ضواحي القاهرة ضحي ، والجو بارد ، والشمس جميلة تبعث بدفئها فتنعش النفس ، وترد الحياة .

تبادلنا التحية ، وتكلمنا في الجو والبرد ، والسياسة والحرب ؛ ثم قال : هل لك في مشية خفيفة في هذه الشمس اللطيفة ؟ فقلت : أنعم بها وأكرم ، وسحب عصاه .

وبعد قليل كنا في الهواء الطلق ، والجو النقي ، والسماء الصافية ، والشمس الساطعة ، وتنقلنا في الحديث إلي أن وصلنا إلي العجب من اختلاف الناس في آرائهم ، وتعدد اتجاهاتهم في تفكيرهم ، وكيف يلعب بالحق ويخفي وجه الصواب ؛ فحركت من الشيخ كامن شجنه ، وعميق فكره ، فقال :

إن الخلاف في الرأي يرجع - في نظري - إلي اسباب كثيرة ، وهو موضوع لطيف ، قرات فيه بعض كتب إفرنجية ، وجربت فيه تجارب شخصية ، ولا يزال

يعلق شئ منها بذهني الذي أدركته الشيخوخة ، ولعلها قوسته كما قوست ظهري ، وشيبته كما شيبت رأسي ، فأصبح يري الأمور كما يراها الناظر خلال منظاره مقوسا أو محدبا ، ومع ذلك فمن الذي يستطيع أن ينظر إلي العالم مجردا من منظار ؟ إن كل إنسان ينظر إليه من خلال منظاره الأحمر او الأصفر أو الأسود او الأبيض ؛ وللشباب منظاره ، وللشيخ منظاره ؛ وكل إنسان ينظر إلي العالم من خلاله ، وتحول بينه وبين إدراك الحقيقة شهواته أحيانا ، وعواطفه أحيانا ، وكل يسمي ما يراه الحق .

وقد استفدت من مطالعاتي في المنطق أن أحدد موضوعي وأحصر كلامي في نقطة حتي استوفيها طاقتي ، سواء في ذلك إذا أردت أن أفهم أو أردت أن أتحدث ، ورأيت ذلك أجدي وانفع ؟ وأكره ما أكره تشتت الذهن في الفهم ، وتشقق الحديث في القول - ففي موضوع كهذا نري ان اسباب الخلاف بين الناس كثيرة بعضها يرجع إلى اللغة ، وبعضها يرجع إلى درجة الثقافة ، وبعضها يرجع إلي اختلاف الأغراض والشهوات ، وبعضها يرجع إلي اختلاف الأمزجة ، ونحو ذلك . فأحب إذا تحدثت أن اتحدث في نقطة حتى استوفيها ، ثم أعطف علي غيرها ، ولا احب ان اتكلم كلمة من هنا وكلمة من هناك ، فاختر ما تحب أن نبدأ به .

قلت : فلنبدأ من آخرها ، فذلك اشهي إلي

قال : - وهو أيضا أحب إلي

وكنت ألاحظ أنه يرقب السماء والشمس ، وأخيرا أدركت أنه يخشى أن يحول بينه وبين الشمس سحابة تذهب بدفئها وتعرضه للبرد والزكام ، فإذا رأي سحابة قدر البعد بينها وبين الشمس ، وحسب حساب الزمن الذي تقطعها فيه ، فقلت في نفسي : يا الله من الكبر ؛ وما أقسى الوقوف على ساحل الحياة

ثم اطمأن إذ ودع آخر سحابة تسير من الغرب إلي الشرق ، واستمر في حديثه فقال :

هب ان عقل الناس كلهم وتفكيرهم المنطقي واحد ، فإنهم في أمزجتهم مختلفون ، والفكر الإنساني لا يتكون ولا يظهر في الخارج - بالحديث أو الكتابة إلا متزوجا بالمزاج ، ويكاد كل إنسان ان يكون له مراجه الخاص به ويتبع ذلك ان يكون لكل إنسان تفكيره الذي يظهر في قوله أو فعله أو كتابته ، ولكن لأجل التقريب فقط - قسم الأستاذ " وليم جيمس " المزاج الإنساني إلى قسمين هامين ، ويكاد كل إنسان يكون من أحد هذين القسمين " غليظ العقل " و رقيق العقل " كما نقول : غليظ القلب ، ورقيق القلب ؛ ولكل منهما مظاهر ، فغليظ العقل - عادة - واقعي يؤمن بما يعتمد على التجربة والاختبار والحواس فقط . مادي ، متشائم ، ملحد ، متعصب ، شره ، شكاك

وعلي العكس من ذلك أخوه " رقيق العقل مثالي متفائل ، متدين ، حر الفكر ، قانع ، مطمئن إلى عقائده

وقد يتلون الناس ألوانا مختلفة ، ولكن إذا حلت ألوانهم رأيتها ترجع في النهاية إلي هذين اللونين .

ولهذا تري أن الناس فيما يختارون من المذاهب الدينية والفلسفية ، بل والسياسية ، وما ينظرون إليه فيما يعرض عليهم في المسائل اليومية ، ونظراتهم إلي الله وإلي الحياة ، وعواطفهم وميولهم واخلافهم متأثررون بما فطروا عليه من أحد هذين المزاجين أكثر من تأثرهم بفكرهم المنطقي المجرد .

من أجل هذا كان الوجود كله معروضا أمام الناس كلهم على السواء ، ولكن كل يقرؤه بعينه الخاصة ، ويشعر به بشعوره الخاص ، وكل ينجذب إلي اشياء يتجذب إليها الآخر ، ولا سبب لهذا إلا عقله الغليظ

أو الرقيق ، ومزاجه الطبيعي المفطور عليه

هذا الشاعر الذي لا يري في الحقل إلا جماله ، لا يري فيه المالي إلا غلته ؟ وهذه جماعة تنظر كلها إلي إمرأة واحدة ، ينظر أحدهم إلى حالها الظاهر من جسمها فيهيم بها ، وينظر الآخر إلى سوء حديثها وقبح معانيها فينفر منها ، ويقومها الثالث حسب ثروتها وما ينتظر أن تناله من ميراث أبويها فيحبها أو يكرهها ، حسب علمه بمالها ، ولا يقومها الرابع إلا بمقدار صلاحيتها لأن تكون ربة بيت ، ومريبة نسل ، والمرأة المرأة ، وإنما اختلف النظر ، وإنما اختلف النظر واختلاف المزاج ؛ وقديما قالوا : " كل يغنى على ليلاه

أرأيت الأكل أصنافا وألوانا ، يستورد كل يوم الحديقة الحيوان من حشائش وبقول ولحوم ، ثم يأكل كل صنف من الطيور والحيوان ما يتفق وطبيعته ؟ !

أو رأيت الأسواق العامة المأكل والملبس والمشرب ؟ يأتي إليها الناس فيتخيرون ما يشترون ، كل حسب مزاجه ، ويعجب كل كيف اختار غيره غير ما اختاره ، كذلك الشأن في الآراء السياسية والدينية والاجتماعية والأخلاقية ، إنما يقع عليها الشخص منجذيا بمزاجه لا بمنطقه ، ثم من غفلته بظن أنه حر الإرادة حر الاختيار .

وهنا تعب الشيخ ، فاقترح العودة ، ثم قال : هذا سياسي من الصنف الغليظ العقل ، قد اتخذ السياسة مغنما ، يختار المذهب الذي يري انه يدر الربح عليه أكثر ، ويتخذ السياسة مصعدا يصعد عليه في ماله وجاهة ونفوذه ، وليست السياسة عنده إلا كسب المال أو انتهاز كسب المال ؛ وهذا سياسي آخر من الصنف الرقيق العقل ، مثالي ، يري السياسة مغرما ، وهي ليست إلا وسيلة إلي إصلاح قومه قدر جهده ، فهو يضحي لذلك من ماله وزمنه ، خدمة لمبدئه . وليس الفرق بين

الاثنين إلا الفرق بين المزاجين

وتجد هذين النوعين في الأمم المختلفة راقيها ومنحطها قد يختلفون في العرض ، ولكنهم يتحدون في الجوهر .

وكذلك الشأن في الدين

وكنا قد وصلنا في عودتنا إلي حديقة جميلة في أطراب الضاحية ، فوجدنا مقعدا خشبيا فقعدنا ، فإذا نظرنا عن قرب فالحشائش الخضراء الجميلة ، والنخيل التي تبهر بقوامها اللطيف وغصونها المتهدلة ، فإذا مددنا الطرف فالصحراء وما لانهاية - وبدأ الشيخ يشكو التعب وكبر السن ، فحركته ليتم حديثه ، فسأل أبن وصلنا ؟ فقلت ؛ الدين .

قال : نعم ، إن الدين كذلك تابع للمزاج ، فمهما حارب العلم الدين ، ومهما دعا الملاحدة إلي الإلحاد ، ومهما قاوموا العقيدة ، فالناس في كل عصر قسمان قسم لا يريد أن يؤمن إلا بالحواس وقواعد المنطق الجافة ؛ وقسم يدعوه إلي الإيمان . ولهؤلاء حجج ولهؤلاء حجج ، ولا تظنن أن العقل هو الذي يعمل وحده في تأليف الحجح ، بل إن المزاج هو الذي يوحي إلي العقل بها وتكوينها وتشكيلها . والتصوف والزهد ليس إلا مزاجا ومهما حاولت أن تجعل من الصوفي ملحدا ، أو من الملحد صوفيا فلن تستطيع ، لأن تغيير المزاج في حكم المستحيل . فذر المزاج الذي سميناه " رقيقا " ينظر إلي العالم فيري فيه أشياء لا تفهم ولا تشرح ، فيهيم بها ، ولا يستطيع أن يشكرها ، قبولها احترامه وتقديسه ، على حين أن الغليظ المزاج يتخذ من غموضها وعدم فهمها وسيلة لجحدها ، ويحترم كل الاحترام حواسه ومنطقه ، فينكر ما وراءها ، ويصبح : إن الله ، والخلود ، والحياة الآخرى ، والوحي ، وما إلي ذلك لا أحسها ولا أهتدي إليها بالمنطق الصرف ، فأنا أنكرها احتراما لحواسي ومنطقي . ويجادله

الأول : ما حواسك وما منطقك ؟ إنك كلما وثققت بها زدت عمي ، وهي ليست إلا وسائل لإدراك التافه من الأمور ، وخدمة الشهوات ، ومن الحمق والمنطق الرخيص ان تغمض العين عما لم تدركه حواسك وقواعد منطقك ، وتحل مشاكله بإنكارك السهل ، فيكون مثلك مثل من عجز عن حل مسألة حسابية أو تمارين هندسية ، فأنكر وجودها بدل أن يحاول حلها بأساليب جديدة غير التي جربها - وهكذا ، وهكذا ، يطول النزراع والجدل ، والمسألة في الواقع مسألة مزاج

وسعل الشيخ سعلة شديدة ، احمر منها وجهه ودمعت عينه ، فرثيت لحاله ) ولكن عز علي انقطاع حديثه ، فتكلمت كلاما خفيفا في غير الموضوع ، حتى عادت إليه نفسه ، واستراح نفسه ، ثم حركته من جديد ، فقلت : ولكن إذا كانت مسألة الدين مسألة مزاج ، فكيف تفسر من كفر بعد إيمان ، أو آمن بعد كفر ؟ أتغير مزاجه ، وقد فهمت من قولك استحالة تغييره ؛

فسكت قليلا ثم قال :

إن أخذت بالظواهر فاعتراضك صحيح ، ولكن إن دققت النظر فغير صحيح . إني اعتقد - مثلا - أن الذين لبوا دعوة النبي في أول الأمر كانوا من ذوي المزاج الرقيق الذي ينزع إلي الدين . وكانوا يتدينون في جاهليتهم ، فلما جاء الإسلام سهل عليهم التحول من دين غير صحيح إلي دين صحيح ، والنزعة الدينية واحدة وهناك بعد قوم أسلموا رغبة في مغنم ، أو خوفا من سيف ، أو نحو ذلك ؛ وانا لا انظر في قولي إلي الأشكال ، وإنا أنظر إلى القلوب ، ويعجبني الحديث : " الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلامية ، والحديث : " إن الله لا ينظر إلي صوركم وأموالكم  ولكن ينظر إلي قلوبكم " ، أن الذين يؤمنون إيمانا

تجاريا خارجون من حسابي ، وكذلك الذين يكفرون كفرا تجاريا

وقد قرأت عن بعض العلماء المحدثين انهم شغلوا بالعلم وتعمقوا فيه واستسلموا له ، وغمرهم تياره فكفروا بالدين ، ولكن مع هذا كله ظل امر الدين ساكنا في أعماق قلوبهم ، ووصف بعضهم أحدهم - ولا أذكر اسمه الآن - فقال : " ) إن كفر عقله وأمن قلبه " ، وذلك لأن مزاجه من النوع الرقيق الذي يؤمن رغم انفه . والآن أظنك توافقني على أن كل إنسان يخرج من عقله وقلبه وعواطفه ومزاجه خيوطا خاصة به ، يؤلف منها مقدماته ونتائجه ، ثم يعتقد انها الحق ، وانها وحدها الحق ، وانها منطق صرف ، وانها عقل بحت ؛ وكذلك يفعل الآخر حسب عقله ومزاجه ، فيكون الخلاف ؛ وكلما كانت هذه الخيوط أكثر اختلافا في النوع ، كان المتجادلان  أشد خلافا في الرأي

وإن ما تري - الآن - حتى من الاختلاف في النزعات السياسية من نازية وشيوعية وديمقراطية يمكن إرجاعه إلي ما ذكرت من اختلاف في المزاج ، وأعني اختلاف القادة والمؤسسين لهذه المذاهب ، لا العامة والأتباع ؟ فمزاج الفقراء غير مزاج الأغنياء ، ومزاج الفلاحين والعمال غير مزاج الطبقة الأرستقراطية

لقد هممت أن أمطره بوابل من الأسئلة : ما قيمة التربية الأخلاقية والدينية والسياسية علي مذهبك كيف يؤسس الإصلاح إذا صحت نظريتك ؟ كيف نقرب التفاهم بين المفكرين إذا اختلفت خيوط نسيجهم ؟ ونحو ذلك من الأسئلة ، ولكنه بدأ يسعل ثانية ، فأشفقت عليه وسايرته إلي منزله ، ولكن في حديث الصحة والمرض ، والأدوية ومنافعها ، لا في العقل والمزاج . وودعتة بعد أن رجوت له الصحة ومتابعة الحديث ، حتي يتمم لي رأيه في باقي أسباب الخلاف

اشترك في نشرتنا البريدية