ماذا يصنع الشيخ محمد عبده فى مصر وقد عاد إليها ! إن مصر التى يدخلها اليوم غير مصر التى تركها .
لقد أصبح كل شئ فى يد الإنجليز ، لهم فى كل نظارة من يستبد بالأمر فيها دون الناظر ، حتى الداخلية وحتى التعليم وحتى الأزهر والمحاكم الشرعية . النظار قطع شطرنج والمديرون فى البلاد خاضعون للمفتش الإنجليزى ، والعميد الإنجليزى مقصد كل ذى حاجة ، والمقرب إلي الإنجليز مقبول الشفاعة ، مقضى الحاجة ، واسع الجاه ، والمبعد عنهم معطل الحوائج ، مضطهد ، محارب حتى فى أدق الأمور - والخديو وتوفيق مسالم يأخذ بنصائح الإنجليز حتى فى الجلاء عن السودان ، ويقول لكاتب التيمس :
" إن أمامى واحدة من ثلاث خطط فى الحكم : إما اتباع نصايح إنجلترا ظاهرا والعمل على محاربتها فى الخفاء ، أو إطاعتها إطاعة عمياء ، أو أناقش نصائحها بكل صراحة وأبدى آرائى فيها ، فإذا قبلت فيها ، وإلا فأنا مضطر لقبولها ، وقد انبعث فى الحكم الطريقة الأخيرة ، فرميت بالضعف ، فهل كان يمكنني أن أقاوم إلى النهاية ؟ "
إن أهم غرض للشيخ محمد عبده كان إصلاح العقيدة الإسلامية والمؤسسات الإسلامية كالأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية ، ومثل هذا الإصلاح لا بد أن يعتمد فيه المصلح على سلطة قوية تحمي ظهره ، وإلا كان كأي عالم من علماء الأزهر لا تسمع له كلمة ، ولا يؤبه له بدعوة فعلى أي السلطات يعتمد ؟ أعلى الخديو توفيق وهو يكرهه كل الكراهية ، ولو ترك له الأمر ما أعاده من من منفاه ؟ ثم هو ليس له من الأمر شئ ، ولكنه على كل حال السلطة الشرعية ، والمؤسسات الدينية التى يريد إصلاحها أمس به . أم على الإنجليز وفي يدهم القوة ، ولو عاونوه في الإصلاح
لتحقق بفضل نفوذهم ، ولكن أليس من المهانة أن يستعان بالأجنبي المحتل للبلاد ؟ ولو استعان بهم لظللت دعوته بظلال من وحي الأجنبي ، وظن الناس الظنون بكل ما يدعو إليه ولكن هم الذين لهم الفضل في دخوله مصر ، ولولاهم لظلل مبعدا ، ثم هم لا يمانعون في الإصلاح الديني والمؤسسات الدينية ، إذ هذا الإصلاح لا يؤثر في مركزهم في مصر ، فما الضرر من الاستعانة بهم لتحقيق الغرض ولو اتهم و كره ؟
أم يعتمد على الأمة وهي ضعيفة منهوكة ممزقة ثم يتكون فيها وهي قوي ، ولا شعور بالعزة ، وكبراؤها أسوأ ما فيها ؟ ثم إن اصلاح العقيدة والمؤسسات الدينية يهيجها - كما هو الشأن دائما - لإنها ألفت الفاسد حتى لم تشعر بفساده ، فإذا دعيت إلي الإصلاح هاجت وماجت ورمت الداعي بالكفر والزندقة ، فكيف يعتمد عليها في الاصلاح ؟
أعتقد أن هذا وأمثاله هو ما كان يدور في ذهن الشيخ محمد عبده ويحيره في طريقه إلى مصر وعند عودته .
وأظن أنه وضع قرارا في أعماق نفسه بمسالمة الخديو ما استطاع والاستعانة بالانجليز فيما ينوي من إصلاح .
يدل على هذا أنه وضع تقريرا بعد عودته عما يراه في وجوه إصلاح التعليم في مصر ، ورفعه إلي اللورد كرومر تسليما منه بأنه القوة الفعالة ، ويدل عليه سيرته الواقعية ؛ فقد ظل طول حياته بعد عودته يسالم الانجليز ويتعاون معهم ، وهي سياسة لها منطقها ؛ فقد كان يري أن جلاء الانجليز وصلاح السياسة المصرية لا يأتي إلا عن طريق استنارة الشعب وفهمه لحقوقه وواجباته وغضبه من الاعتداء على حقوقه وهمته في أداء واجباته ، ومصر لم تبلغ هذا المبلغ ، ووسيلة إصلاحها التعليم - ثم يري أن مسألة مصر لا تحل بمواجهة مصر لانجلترا ، بل بالحالة الدولية العامة ، والتفات الدول إلى أن مصلحتها في استقلال مصر ؛ وإلى أن يحدث ذلك يجب على القادة أن ينيروا الشعب بالتعليم ولا يجعلوا كل همهم الاشتغال
بالسياسة ؟ فهو ينقد جمال الدين لأنه صرف كل جهوده في السياسة دون الإصلاح الداخلي للشعوب ، وينقد الأميرة نازلى في أنها انصرفت إلي المجهود السياسي ولم تؤسس جمعية للنهضة النسائية - مثلا ، وإذا حضر مجلسها لم يحب أن يتكلم في السياسة ، وهي لا تحب إلا أن يتكلم في السياسة .
وكان في مصر رأيان : رأي يقول إنه لا أمل في الإصلاح الحقيقي إلا بزوال الاحتلال أولا ، ورأي يري أن الإصلاح الحقيقى الداخلي هو وسيلة الجلاء ، وعلى الرأي الأول كان الشيخ محمد عبده وأصحابه ، وعلى الرأي الثاني كان فيما بعد مصطفى كامل وأصحابه ، وبينهما حرب عوان ، يتهم الأولون الآخرين بالرعونة ، ويتهم الآخرون الأولين بالرجعية والضعف .
وطبيعي أن يكون الزعماء السياسيون من الصنف الثاني ، والمصلحون الدينيون والاجتماعيون من الصنف الأول . وفي الحق أن السيد جمال الدين كان زعيما للناحيتين أو على الأقل اعتقد أن رسالته اصلاح العقيدة الدينية والاصلاح السياسي بمهاجمة الاحتلال الأجنبي ، ولكنهما لم يجتمعا إلا في يده ، ثم من بعده دعا دعاة إلي هذا ودعاة إلي ذلك ، فخلفه في مصر فى إصلاح العقيدة الشيخ محمد عبده وتخلي عن السياسة ، وخلفه في السياسة فقط عبد الله نديم ، ثم مصطفي كامل ، ثم سعد زغلول .
ومن الإنصاف إذا قومنا الشيخ محمد عبده في هذه الناحية أن نراعي كل ظروفه وكل الأحوال في زمنه ، ولم يكن الشيخ محمد عبده بدعا في هذا الاتجاه ، فمثله في ذلك كان السيد أحمد خان المصلح العظيم في الهند فقد رسم خطته أن يصلح الشؤون الاجتماعية والدينية لمسلمي الهند مع مسالمة الإنجليز حتى لا يحاربوه في إصلاحه .
ولما اقتنع بهذه النظرية سار عليها قولا وعملا ، وقد استفتي مرة في الاستعانة بالأجانب فكان من فتواه : " قد قامت الأدلة من الكتاب والسنة وعمل السلف على جواز
الاستعانة بغير المؤمنين وغير الصالحين على ما فيه خير ومنفعة للمسلمين وأن الذين يعمدون إلى هذه الاستعانة لجمع كلمة المسلمين وتربية أبنائهم وما فيه خير لهم لم يفعلوا إلا ما اقتضته الأسوة الحسنة بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وأن من كفرهم او فسقهم فهو بين الأمرين إما كافر أو فاسق ، فعلي دعاة الخير أن يجدوا في دعوتهم وأن يمضوا على طريقتهم ، ولا يحزنهم شتم الشاتمين ولا يغيظهم لوم اللائمين ، فالله كفيل لهم بالنصر إذا اعتصمو بالحق والصبر " .
فهو في هذه الفتوى يعبر عن مذهبه ويبرر موقفه والقاريء يشعر بما يشعر الأستاذ فيها من مرارة وغيظ .
على كل حال هذا مفتاح لفهم سياسته ومالاقي في حياته من عناء وفي إصلاحه من دسائس وفي شخصه من تهم وفي طريقه من عوائق .
عاد الشيخ محمد عبده وهو يأمل أن يكون ناظرا لدار العلوم أو استاذا فيها ، فيعبد فيها ما بدا وينير أذهان المعلمين لينيروا أذهان الطلبة ، ولكن لم يرض الخديو توفيق بذلك ، لأنه إذا فعل أوصل التيار الكهربائي إلي الأسلاك ، وهو تيار بغيض إليه ، ولعل الإنجليز أيضا لم يرضوا ولو شاءوا لضغطوا ، فعين قاضيا أهليا في محكمة بنها ثم الزقازيق ثم عابدين ، ثم عين مستشارا في محكمة الاستئناف ولم يكن هذا غريبا ، فقد كان يعين في القضاء أي مثقف ممن تمرن على المحاماة ولم تكن معه شهادة ، أو ممن تخرج في دار العلوم أو نحو ذلك .
ورأي نفسه - وهو قاض - في وسط يدل بمعرفته للقوانين الفرنسية وشروحها ، فأبت نفسه الطموح أن يكون أقل شأنا منهم ، فبدأ يتعلم اللغة الفرنسية وهو قاض في عابدين وسنه إذ ذاك نحو الأربعين ، وجد فيها حتى بلغ شأو لا بأس به ، وقد أطلعه تعلمها على ميدان فسيح استفاد منه كثيرا مما
قرأ في اللغة الفرنسية ، وقد ترجم كتاب التربية لسبنسر بعد أن نقل من الإنجليرية إلى الفرنسية ، وكان يكمل تعلمه الفرنسية برحلاته إلي سويسرا وفرنسا يستمع إلي بعض المحاضرات ، ويقابل بعض العظماء ، وكما يقول يجدد نفسه
وقد امتاز في قضائه بتحريه الحق وتقديره العدالة أكثر مما يقدر نصوص القانون ، ويرجع هذا إلي سعة أفقه ودراسته للشريعة الإسلامية وعدم تشكله تماما بالقالب القانوني ، ولذلك شكا بعض زملائه من أنه يتحرر من النصوص القانونية ، ولما سئل في هذا اعترف به ودافع عن وجهة نظره .
مات الخديو توفيق وتولى الخديو عباس سنة ١٨٩٢ وقد عاد من فيينا ممتلئا حماسة وغيرة وتصميما على مناهضة الاحتلال ، وأخذه خطة جديدة غير خطة أبيه المستسلمة ، والتف حوله بعض شباب مصر المتحمسين وبقايا رجال الثورة العرابية الذين تألموا من الهزيمة ولم ييأسوا من تغير الحال ، ووراءهم تركيا وفرنسا تشجعانهم على حركتهم ، وقد ضاع نفوذهما على يد توفيق فأملا عودته على يد عباس .
وبدأ الخديو عباس بتغيير رجال الحاشية وإحاطة نفسه بما يتفق وسياسته ، وبدأ يتعرف أحوال مصر بنفسه ويتصل بالموظفين والأعيان وأحيانا يرأس مجلس النظار ، وبدأت انجلترا تشعر عما سيصادفها من متاعب على يد هذا الشاب وتنتهز الفرص لإحراجه ، وقد وجدوا هذه الفرصة عندما أقال الخديو مصطفى فهمي باشا من رئاسة النظار وعين حسين فخري باشا من غير رجوع إليهم ، وجاءت برقية من وزارة خارجية انجلترا بعدم الموافقة على تعيين حسين فخري وأنه لا بد من أخذ رأيها فيمن يعين وأن الخديو إذا رفض فإن العاقبة ستكون وخيمة . وتحرجت الأمور ، ورأي عباس أن تنازله عن العرش أهون من رجوع مصطفى فهمي ، وأكثر من الاستشارات
والاتصالات ، وأخيرا وجد الحل في استقالة حسين فخري وتعيين رياض باشا بالاتفاق مع اللورد كرومر ، فكانت هذه أول صدمة للخديو عباس .
رأي الشيخ محمد عبده أن آمال عباس في الإصلاح يجب أن تستغل ، ووضع خطة أن يتقرب إليه ويوثق الصلة به ، ويحسن إليه برنامجه في الإصلاح مع حسن علاقته أيضا بالإنجليز ، فيكسب السلطتين ويعتمد عليهما في تحقيق أغراضه الإصلاحية ويتم له ما يريد . ولكن ستبين الحوادث أن هذا خيال ، وأن الجمع بين صداقة السلطنين كالجمع بين الماء والنار ، وأن إرضاء إحداهما إغضاب للأخري .
على كل حال تقرب محمد عبده من عباس بواسطة محمد ماهر باشا ، ورحب الخديو بذلك ، إذ كان يسره أن يجمع حوله أقوياء الرجال ، وتقابلا مرارا سرا وجهرا ، وحسن إليه الشيخ محمد عبده أن يتجه إلي إصلاح الشعب الثلاث المتصلة بالدين ، والتي لا شأن للانجليز بها ، والتي في صلاحها صلاح للأمة ، وتقوية لمركز الخديو . إذ في ذلك برهان قوي على أنه إذا وكل إليه الأمر أحسن خيرا مما يحسن الإنجليز في إدارتهم - وهي : الأزهر ، والأوقاف ، والمحاكم الشرعية . وليكن البدء بالأزهر . فاقتنع الخديو بذلك ، وكلفه تقديم تقرير ، ففعل واعتمد ، وصدر القرار بتشكيل مجلس إدارة للأزهر برياسة الشيخ حسونة ، وفيه الشيخ محمد عبده ، والشيخ عبد الكريم سلمان ، مندوبين عن الحكومة ، واعتمده مجلس النظار سنة ١٨٩٥ ، وصدق عليه الخديو ، وأتيحت الفرصة للشيخ محمد عبده لإصلاح الأزهر الذي تمناه من يوم أن كان مجاورا ساخطا على سوء حاله .
بالله وإصلاح الأزهر ! ما حاوله أحد ونجح ، ولا الشيخ محمد عبده ، لأن كل المحاولات كانت نتيجه إلي هامش الموضوع لا أساس الموضوع وكانت عن سبيل استرضاء أهله والخوف من أي قلق واضطراب ، وهم يتزعمهم طائفة ألفت القديم حتى عدته دينا ، و كرهت الجديد حتى عدته كفرا ،
وعاشت في المغارات فلم تر ضوءا ، وأفنت عمرها في فهم لفظ ، وتخريج جملة ، وتأويل خطأ . فلم تر حقائق الدنيا . فإذا أتى مصلح سمم أهله الجو حوله ، واحتموا بالدين يخيفون به الحكومة ، ويكسبون به عامة الشعب ، وخنقوا الطائفة القليلة من شبابه النازعين إلى التجديد ، وحرصوا على مرا كزهم أن يكتسحها الاصلاح ، وجاههم أن ينتقل إلي يد المصلحين ، وبجانبهم طائفة أخري تؤمن بالقديم عن صدق وإخلاص ، ولكن عن ضيق أفق ، وغفلة من
الحق ، هم من جنس ما قال أهل الحديث عن بعضهم : " تتطلب دعوتهم ولا تقبل شهادتهم" ، فتتجمع كل هذه العوامل ، فتضطر للصلح إلي الانسحاب إن غضب ، أو المداراة والمسالمة والرضا بالموجود إن لم يغضب . وتضطر الحكومة أن تنتحي حبا في السلامة ، وتتركه يأكل بعضه بعضا ، وتنشئ بجانبه المعاهد لمعلمي اللغة العربية والقضاء الشرعي ، لتستطيع تنظيمها والإشراف عليها إذ أعجزها الإشراف على الأزهر ، ومع هذا لا يخلو الجو من شغب يقلق بال الحكومة الحين بعد الحين ، بين الأصل
والفرع ، وما يحتضنه الأزهر ، وما تحتضنه الحكومة وتترك ذلك للزمن ، والزمن لا يحل المشكل ، والمشكل لا يحل إلا بالعلاج الحاسم ، وهو أن يتبع الأزهر الحكومة تبعية الجامعة ، ويستقل استقلالها ، ويخضع في نظمه لما ترشد إليه علوم التربية الحديثة ويرقي برقيها ، ثم ينفذ ذلك من غير خشية .
أخذ الشيخ محمد عبده يحرك مجلس الإدارة للاصلاح ، وبدأ بالمسائل الشكلية من زيادة رواتب المدرسين وتنظيمها ، ووضع لائحة لكساوي التشريف ، وتنظيم الجرابة ، ومساكن الطلبة والإشراف الصحي عليهم ، والامتحان . فلما تعرض لشئ من الأساس ، وهو ماذا يدرس في الأزهر واختيار الكتب ، وطرق التدريس ، و برامج الدراسة . زادات العقبات في سبيله ، واضطر أخيرا إلى الانسحاب . فكانت معالجته برشاما للصداع لا علاجا لأصل الداء وفي الحق أنه لم يكن يمكنه في مثل ظروفه غير ذلك .
