رحنا ستزوار والساعة تمان من صباح الخميس نانى رجب سنة١٣٥٣ (١١ أكتوبر سنة ١٩٣٤) فضربنا فى السهل صوب الشرق نصف ساعة . تم ارتقينا جبلا هبطتا منه الى سهل فسيح , وهكذا راينا إيران مابين قصر شير ن وطوس , سهولا يحيط بها جبال , فما يزال المسافر على جبل او فى سهل يقضى البصر فيه الى جبل حينما توجه . هبطنا سهلا كثير الشجر والزرع , قد انتشرت القرى فى أرجائه , تحيط بها الأشجار الباسقة , ورأينا زروعا شتى منها البطيخ والقطن . وراينا لوز القطن قد تفتح , ولما تعد الأعواد ذراعا
وبعد مسيرة ساعة وربع من سيزوار , زلنا بقرية على الطريق اسمها شوراب , فأكلنا من عنبها واسترحنا قليلا . ثم استأنفنا السير تلقاء نيسابور والقلوب علؤها الشوق , والفكر يستجمع ما وعى من أحاديث التاريخ عن المدينة العظيمة ذات المياه والقرى والأشجار - المدينة ذائعة الصيت فى العلم والأدب التي نشأت علماء يفتخر سهمالمسلمون علىالادهار , بلد مسلم ن الحجاج صاحب الصحيح , والحاكم المحدث الكبير , وأبي القاسم القشيري صاحب الرسالة , ومحيى الدين النيسابوري الفقيه , وفريد الدين العطار وعمر الخيام - المدينة التي يقول فيها الخيام
شراب نشابور وآب دبير ... جواني كند كرخورَد مردبير وترجمته (شراب نيسابور وماؤ ذبير يردان الشيخ الى شبابه)
ويقول الأنورى :
حبذا شهر نشابوره درُبشت زمين ... كربهست است همين است وكرنه خودنيست وترجمته (حبذا مدينة نيسابور! إن يكن على ظهر الأرض جنة فهذه، وإلا فلا جنة)
نيسابور مدينة ازلية , يروى الفرس ان بانيها طهمورث الثالث الملوك البيشداديين , وان اسكندر الكبير خرسها تم عمرها شابور الملك الناسانى فميت باسمه . وقد عرفها اليونان القدماء
وسموها نيسوس . ويقال لهم سمو باكوس إله الخمر ديونيسوس أى إله نيسابور
وقد تعاقب عليها البناة من الساسانيين والعرب والغزيويين والسلاجقة كما بوالت عليها النواب من الزلازلوالغارات فى عصور شتى . اصابها زلزال عظيم سنة نيف وخمسمائة من الهجرة وسنة ٦٦٦ وسنة .٨٠١ ودمرها الغاز سنة ٥٤٨ حين غلبوا السلطان سنجر السلجوق واسروه . وهي المصيبة التى نطم فها الآنورى الشاعر الفارسي قصيدته المعروفة " دمو ع خراسان " ولكن المدينة على رغم هذه المصائب كانت فى معظم العهد الاسلامى قبل التتار عامرة مزدهرة حتى سميت أم البلاد وقبة الاسلام
وقد رووا فى عمر انها ونضرتها ما يستبعده العقل . فمن عجائبها الاثني عشرية أنه كان بها اثنا عشر معدنا للفيروز والنحاس والمرمر وغير ذلك . واثنا عشر نهرآ تنحدر من الجبال , واثنا عشر مائة مدرسة ( أى ألف ومائتين ) واثنا عشر مائة قرية , واثنا عشر ألف قناة يجرى من اثني عشر ألف ينبوع
قال ياقوت , وهو ممن أدركوا غارات التتار
(وأصابها الغز في سنة ٥٤٨ بمصيبة عظيمة حيث أسروا الملك سنجر وملكوا أكثر خراسان، وقدموا نيسابور، وقتلوا كل من وجدوا، واستصفوا أموالهم حتى لم يبق فيها من يعرف، وخربوها وأحرقوها، ثم اختلفوا فهلكوا. . . واستولى عليها المؤيد أحد مماليك سنجر فتقل الناس الى محلة منها يقال لها شاذباخ وعمرها وسودها، وتقلبت بها أحوال حتى عادت أعمر بلاد الله وأحسنها وأكثرها خيراً وأهلاً وأموالاً لأنها دهليز المشرق، ولابد للقوافل من ورودها.) وقال بصفتها قبيل غارة التتار: (وعهدي بها كثيرة الفواكه والخيرات) وقال: (لم أر فيما طوفت من البلاد مدينة كانت مثلها)
ثم كانت القارعة التي دمرت حضارة الاسلام - كارثة التتار - فأحرقوا وهدموا، وقتلوا وسبوا وسلبوا، وتركوها خاوية على عروشها، ولم تنسها المصائب من بعدُ، فقد أغار عليها الأزبك وغيرهم في عصور مختلفة
ذكرنا هذه الخطوب ونحن قادمون على نيسابور , ولكن خيال المدينة الكبيرة الزهرة المزدحمة عساجدها ومدارسها كان يغلب علينا فنمنى النفس برؤية نيسابور فى زينتها وجلالها
وردناها والساعة عشر وثلث فأبصرنا إلى يسار الجادة قرية
هى بقية الاحداث من نيسابور , كما يبقى من الجنة الناصرة عود يابس , أو من الرجل العظيم قبر دارس
ماتت المدينة فلم يبق إلا أن نزور قبرها فيما بقي من قبور أبنائها، فها نحن أولاء نسرع المسير إلى قبر عمر الخيام. وقفت بنا السيارات بعد قليل على حديقة بعيدة من البلد فدخلنا بستاناً كبيراً تتوسطه طريق واسعة، فهبطنا درجات إلى مستوى سرنا به خطوات، وهبطنا إلى مستوى آخر، وبجانبنا قناة تنحدر إلى المستوى الأسفل فتفضي إلى حوض في وسط الطريق. وتنتهي الطريق إلى مسجد صغير جميل نقشت على بابه آيات من القرآن، واسم الشاه طهماسب الصفوي الذي بناه. وفي المسجد ضريح لأحد أبناء الأئمة من آل البيت النبوي رضي الله عنهم، واسمه محمد المحروق وينتهي نسبه إلى زين العابدين علي بن الحسين
وإلى يمين المسجد مصطبة لها درجات قليلة ولها سياج من الرخام وفي وسطها عمود كتب على أوجهه أبيات من الشعر . فهذا قبر عمر الخيام. وقد سمعت ممن زاروا القبر قبلاً أنه كان في طاق في جدار المسجد (وفي جدار المسجد على جانبي الباب طاقان) ثم نقل إلى هذا الموضع
لم يعجبنا قبر الخيام، فقلت لوزير المعارف، كان ينبغي أن تكون بجانب القبر أشجار تتهدل أغصانها عليه، وتنثر الأزهار فوقه كما وصف الخيام قبره قبل موته، وكما رآه نظامي العروض بعد موت الخيام فوجوده مصدقاً لما قال. قال نعم. لابد أن يكون كما وصفت
كتب على صفحة من العمود ": الحكيم عمر الخيام - وفاة الحكيم سنة ٥١٧ هجرية " وفوق ذلك رباعية من نظم ملك الشعراء بهار ترجمتها :اجلس إلى قبر الخيام واقض الوطر , وابتغ فراغ ساعة من غم الايام . ان تسأل عن تاريخ بناء مرقده فهو " اطلب سر القلب والدن من قبر الخيام "( راز دل ودن وزقبر خيام طلب )
وعلى الصفحة الثانية رباعيتان ترجمتهما :
عاد السحاب يبكى على العشب الأخضر , فلا ينبغي العيش بغير القمر الحمراء . هدا المرج مسرح ابصارنا اليوم , فليت شعري من يسرح بصره غدا فى أعشاب قبورنا ؟ محن لعب , والفلك بنا لاعب , حقيقة هذه لا مجاز فيها ،
كنا لاعبين على تطع هذا الوجود , فعدتا إلى صندوق العد . واحدا بعد آخر (١)
وعلى الصفحة الثالثة رباعيتان :
ظهر بحر الوجود من الخفاء , وما استطاع احد ان يثقب جوهرة الحقيقة هذه , كل تكلم بما يهوى , وما قدر أحد أن يبين عن الحقيقة
ليس عندنا يقين ولا حقيقة، ولا يستطاع تزجية العمر كله في رجاء هذا الشك، هلم نأخذ اقداح الصهباء بأيدينا لا نضعها، ما فرق الصاحي والسكران في عذه الجهالة؟
وعلى الصفحة الرابعة رباعيتان :
.أولئك الذين كانوا بحار الفضل والآداب , وصاروا فى كمالهم مصابيح الأصحاب , لم يجدوا للخروج من هذا الليل الظلم طريقا فحدثوا بالأساطير ثم أخذهم النوم
إن هذا الدوران الذي يتجلى فيه مجيئنا وذهابنا، لا تستبين له بداية ولا نهاية، ولايستطيع أحد أن يخبر صادقاً من أين جئنا وإلى أين نذهب)
ووراء قبر الخيام مزهرة جميلة كتب على أرضها بألوان النبات: (حكيم عمر خيام) ، ورأينا بجانب القبر خابية، كأن واضعيها رأوا مناسبة بينها وبين قبر الشاعر الذي كان مستهتراً بالخمر. وقرأت على هذه الخابية أنها موقوفة على مسجد إمام زاده محمد المحروق. فقلت قد وضعت في غير موضعها، وقُرنت بما هي منه براء وقد مُدَّ وراء قبر الخيام رواق كبير وضعت فيه كراسي للجلوس ومدت فيه موائد الطعام
استراح الوافدون قليلاً واجتسوا ما شاءوا من أصناف الشراب ثم وقفوا يشربون على ذكر الخيام، قلت بئس ما ذكرتم صاحبكم! وانتبذت أنا وزميلي الأستاذ العبادي جانباً وتركنا القوم وخيامهم. وقلت لبعض رفقائنا الايرانيين أين قبر العطار؟ فلابد لقادم نيسابور أن يزوره، فيسر لنا المسير اليه فذهبت أنا وبعض الحاضرين إلى قبر العطار. سارت بنا السيارات في طريق غير معبدة فانتهينا إلى حديقة ذابلة الشجر والزهر، وفي وسطها بنية ثمانية عليها قبة، ولجنا الباب خاشعين إلى قبر عال عليه كسوة خضراء، وإلى رأسه عمود أسود أطول من القامة قليلاً
عليه آية الكرسي وابيات فى مدح الشيخ فريد الدين العطار . لبثنا برهة فى حمرةشيخ الصوفية الخليل , والشاعر المفلق المكثر الذي نظم زه ، ثلاثين منظومة فيها أكثر من ألف ألف بيت - ناظم منطق عبر ٠ والسعىنامه , وأسرار نامه , وجوهر بالذات الخ ومؤلف تذكرة لأولياء ؛ ثم بؤنا بغير ما باء به أصحاب الخيام . والقلب حشعوالذكرى الجليلة آخذة على النفس آفاقها
وهنا صحيفة لايعنى إهمالها :
بينما نخرج من باب حديقة العطار احست بوخزة فى كفى فظننت زن- -يعني , فأخبرت رقيق الشاعر الشاب النابغة رشيد اليستو فضحك وقال قبلت الزيارة . قلت : لاغرو ان تكون وخزة من العطار ينبهنى بها من الغفلة . ألم يقل معاصرو العطار -.": شعره سوط السالكين ؟" قال بلى . ثم ارتجل بيتا فارسيا
رئيس عصر است ابن , زنبور نيست
وذكر تحمل ميكنى زو دور نيست ( هذهحمة خطار لاحمة الزنبار , فان تحملت فهو أهل لذلك .
فأجبته فى لفور :
لسع الزنبار كفي عادياً ... ودواءً كان شعر الياسمي ولما قدمنا مشهداً جاء الى شاعرنا النابغة وقد نظم أبياتاً كثير في هذه الواقعة أترجمها نثراً فيما يلي معتذراً اليه من هذه الترجمة المرتجلة التي لا تفي بشعره السلس، ومعتذراً الى القراء عم فيها من مدح:
جاء عزام من أرض مصر لمختارة الى نيسابور من أرض إيران، فأراد أن يقبل تربة العطار إذ ملأت محبته روحه، وذهب بدءاً الى مرقد الخيام فرأى مكاناً ناضراً زاهراً، وسمع صيحات الطرب، ورنات الكؤوس من كل جانب، ورأى القلوب تفور بناز الصهبا. قال عزتم: أيها القلب دع بساط الشراب والسرور، واعجل الى العطار ذلك الشيخ الوقور، فسلك الصحراء رجل الطريق هذا حتى رأى قبراً عليه حجر أسود، فلثم سدة العطار وطاف في هذه البقعة المباركة. ثم صاح بغته وقال مضطرباً قد أصاب كفي زنبار. قال له الياسمب: يا عالم مصر! بل يا أيها الدر المتلألئ في بحر مصر!
( هذه حمة المطارلالسعة الزنبار , فان تتحمل فهو لذلك أهل
حمة العطار توقظك حتى لا تخلو لذة من ألم(١) إن تبتغ الحبيب فلابد من السعي الجاهد، وإن ترد اللذة (نوش) فلابد من الحمة (نيش) . إن تكن ذقت حلاوة الخيام، فوخزة العطار خير يا عزام
من يجزك يوقظك من الغفلة، ومن ينعمك يدعك في غمرة . وخزة اليقظة تبعدك من الضلال، واللهو ينأي بك عم السداد، وانبعثت حينئذ من هذا الجدث صيحة بينة مفصحة وعتها أرواحنا:
أرواحنا :
(يا من اختلط وجوده بالعدمن وامتزجت لذته بالألم! إذا لم يتداولك الهبوط والصعود، فكيف تعرف نفسك في هذا الوجود)
وجعنا من العطار الى الخيام فذكرت في الطريق قول حافظ الشيرازي. . . .
(يتبع)
عبد الوهاب عزام
