أوضحت في هذه الأحاديث آرائي في (الشعر الجديد) مطلقة صريحة. وكانت قد تجمعت لدي من مطالعات طويلة. وكنت أهم أحياناً بتقييدها، وأنساها أحياناً، حتى كان أن فتح (الأستاذ الجليل) هذا الباب. فلممت شعث ما تفرق منها في ذاكرتي، وجهرت بها مستهدفاً وحدي لغضب الغاضبين؛ فإن جلة النقاد آثروا العزلة، واعتصموا بالسكوت، لما قدمت في كلمتي الأولى. ولقد وددت لو كنت قد خرجت من الإجمال إلى التفصيل؛ ولكني جانبت الأشخاص، لما أسلفت، وعمدت إلى (المدرسة) - كما يعبر الآن - وهي تجمع ما تفرق من خصائهم، وتضم شتات مميزاتهم
لا شك عندي أن الذين تتبعوا كلماتي وتأملوها في إنصاف وعدل، قد أدركوا أي صنف أعني من الشعراء، وأي نوع تنظم هذه الصفات التي عنيت ببسطها، وجهدت في تحديدها - فلا يغالطن معالط بعد هذا - أني أعني فلاناً أو فلاناً من شعرائنا ذوي المكانة فينا، أولئك الذين أجمعنا على تمجيدهم، لا الذين يتلمسون شهرتهم بين فئة قليلة من المعجبين
والآن آن أتحدث إلى الكاتب الفاضل الأستاذ دريني خشبة في بعض نقداته، كما وعدت أن أفعل
قال الأستاذ: (لقد أنكر الأستاذ جميع الشعر العربي بعد البارودي وشوقي وحافظ. . . وأشفق من الشعراء الشيوخ الإجلاء الذين لا يزالون على قيد الحياة، والذين يعتز بهم الشعر العربي. . . الخ)
أقول: يشير الأستاذ إلى مقالي بالرسالة.(٢) فقد قصرته على هؤلاء العلية الأمجاد، وضممت إليهم صبريا - وإن كان كثير غيري لا يذكرونه في حلبتهم - لأوجه من الشبه كثيرة بينه
وبينهم. وقد رجعت إلى هذا المقال، فإذا هو خلو من هذا الإنكار. ولعله توهمه من قولي: (فلما خلا الميدان من هؤلاء الفرسان، ودالت أيامهم، سدلت على المسرح الستارة. ثم عادت فارتفعت. فإذا مشهد عجب، وإذا الحال غير الحال، وإذا نحن أمام فوضى النظم والنظام. . . الخ)
فهذا يا سيدي لا يدل بمنطوقه ولا بمفهومه - فيما أدرك أنا - على أنه لم يكن بيننا إذ ذاك شعراء من الطبقة الأولى، بدليل قولي: (فوضى النظم والنظام) ؛ فإن كلمة (النظام) إنما تطلق في العرف العام على القارضين الذين ينظمون ولا يشعرون(١)؛ فهذه الفوضى لا نعرفها في أثناء حقبة شعرائنا هؤلاء. وإنما شاعت بعدهم هذا الشيوع الذي نلمسه الآن. أما قولي: (إن تلك الحقبة لا تعبر إلا عنهم وحدهم، وإن نجم بينهم من يعترف لهم بالاقتدار رسمو الشاعرية) ، فدليل آخر يشهد لي. ومعنى كون تلك الحقبة لا تعبر إلا عنهم وحدهم، أن لهم ميزات اشتركوا فيها جميعاً، فأفردتهم بين شعراء جيلهم. فهم فصل قائم برأسه في تاريخ الشعر الحديث. وهكذا يجب أن يكون في تاريخ الأدب المصري
على أني مع ذلك عند عقيدتي الثابتة فيهم - وهي عقيدة جمهرة المتأدبين في العالم العربي - تلك هي أنهم لا يزالون يتسنمون المكانة الأولى بين الشعراء لهذا العهد. والفلك الدوار قد يجود بأمثالهم وبأعظم منهم. فليرقب الفلك الدوار وقال الأستاذ الفاصل: (أمن العدل أن يحدثنا عن قصيدة لم نرها، لنحكم إن كان إنكاره منها ما أنكر حقاً، أو ليس من الحق في شيء؟ وهل من العدل أن يجحد شعراء الشباب عامة، لأن تلك القصيدة لم ترقه؟)
أقول: ليرجع الأستاذ إلى مقالي الأول خاصة، ومقالاتي بعد ذلك، ليرى أبان أنا أحكامي جميعاً على تلك القصيدة وحدها؟ وليراجع سيدي المقال الذي تعرضت فيه لهذه القصيدة، ولينظر ما قلت هناك. وإذا كان الأستاذ يحكم هذا الحكم من غير أن يقراً كلامي حق القراءة، فما حيلتي؟ وما حيلتي أيضاً أن يسيغ
أن يكتب مثلي سبعة أحاديث مستنبطاً آراءه فيها من قصيدة واحدة؟
وهل في كلامي ما يشير أو يدل على أني (أجحد شعراء الشباب عامة؟) لا يا سيدي. إني حكمت على فئة كبيرة تسنى لها - بعوامل مختلفة - أن تنشر شعرها بين ظهرانينا. وهو شعر هزيل في ألفاظه وتراكيبه ومعانيه. فليس معنى هذا ألا يكون من بين شعراء هؤلاء الشباب ما يستجاد أو يستملح. ولولا أني لزمت الصمت عن الأشخاص في هذه الأحاديث لمثلت أما (نبش قبور الموتى) و (سرقة أكفان النائمين تحت التراب) . . . الخ. فهذه ألفاظ معادة، نسمعها دائماً في معرض الازدراء بالقديم أو التنفير منه. فنضرب عنها صفحاً
وقال الأستاذ أيضاً من مقال آخر: (وخامسة الأثافي، أو داهية الدواهي، ما وقعت فيه من أسبوعين من الخطأ الشنيع فقد ذكرت في كلمتي. . . طائفة غير قليلة من الشعراء الشباب في مصر، على أنهم بعض من يمثل شعرنا الحديث. وكان هذا الخطأ سبباً في إثارة بعض هؤلاء الشعراء أنفسهم، فقد ساءهم أن تحشر أسماؤهم على هذا النحو الزري في ذلك الثبت الطويل من أسماء الشعراء). ثم قال: (ولكن المضحك في هذا الأمر غلو بعض من نقموا مني ذكر أسمائهم في ثبت الشعراء هؤلاء! لقد أٌقبل أحدهم ثائراً كالعاصفة، ونكش شعر رأسه (نكشة) أفزعتني، ولست أقول إلا الحق! ثم راح يتهمني بأني أناقض نفسي حين أعلن استجادتي لشعر هؤلاء (أل. . .) . ثم قال: (والظريف أن الذين أنكر عليهم صديقي (العاصفة) شاعريتهم، كانوا شعراء من الطبقة الأولى عند صديق آخر سعى إلي ليعلن احتجاجه للسبب نفسه. . . الخ.)
هذا ما رأينا اقتباسه ضرورياً من كلامه فانظر إلى هؤلاء الشعراء كيف ينكر بعضهم شاعرية بعض على هذه الهيئة الغريبة! وهل بعد تصوير الأستاذ دريني خشبة لهذا المنظر البديع، تحتاج إلى شرح أو تعليق؟
(انتهى الحديث)
