( استكندرية يا عروس الماء وخلية الحكماء والشعراء فشأت بناطتك الفنون جميلة وترعرعت بسمائك الزهراء قد جملوك نصرت زنيفة الترى للوافدين , ودرة الداماة ) "شوق"
( إن إنشاء مدينة الأسكندرية ، ومكتبتها ، وجامعتها ( قد أرنى فى ساحة الخلود على فتوحات الأسكندر الباهرة ) . " نابليون "
" كان القادم العابر , إذا أقبل على الاسكندرية, شارفه فنارها ذو الطبقات الثلاث, المشيد من الرخام الأبيض , يتألق صفاله فى وجه الضحى, ويشب من الرخام فى عمق الدجى, فإذا دخل المنياء من الشمال الغربى كان الفنار على يمنيه, ثم ندلو به السفينة قليلا قليلا, فنأخذه روعة ما يرى ويبصر , فلا يقيم لجزيزة فاروس Plaros وحينها ويالا, ثم يرى يرمى يبصره كرة أخرى, وينوزع ليه, فماذا ينظر وماذا يدع ؟؟ فهاتيك هى القصور والمعابد تتسامى إليه بغتة فى كثرة وتعدد, حتى تلهيه عن النظر والتحديق, فقصور لصق قصور, بيت جمعيا على الطراز الاغريقى,يختلع وميض رخامها الناصع مع الشمس الساطعة, وقد برزت منها شرفات جميلة , وضربت بين حدائقها سفائف تحملها عمد رخامية لوطيية, وتعلوها أشجار اللبلاب, يزهر نورها المتفتح , من أبيض ناصع , وأحمر فان, أصفر فاقع ، وتزينها تماثيل رائعة ، أحسن تجديدها صناع بارع . ويمضى العاير فى مشيته ، فيلمح على شماله وعند نهاية جزيرة لوخياس Lochias التى تكون حائط الميناء الغربى ، معبد إيزيس ، قد تعالى سامقا إلى السماء ، ومن خلقه قصور ودور ملكية ، كل قصر أبهى وأجمل من الذى
يليه , ومن وراء ذلك كله , وإلى داخل المدنية , امتدت قصور ملكية أخرى ، كأنها حلقات سلسلة ذهبية مفرغة فى جيد حسناء عطبول ، وعلى هضبة غير بعيدة من الميناء مسرح مشيد للإله ديونيس Diorysus (1) الجد الإلعى للبطالسة ، وعلى كتب منه السوق الزاخرة تموج بالناس كما تموج بهم جوانب الميناء .
أما الجزيرة الصغيرة التى كانت تقع أمام متدخل الميناء الملكى, فهى جزيرة أنتيرودس Antirohds , وكأنما سميت كذلك لتكون منافسة لجزيرة رودس الشهورة فى بلاد اليونان. وأما ذلك البناء العاطسى المشحمر, ذو العمد المقدودة الهيفاء, الذى كان يقع وراء هذه الجزيرة ، فقد كان مكتبة الإسكندرية ، ذات الشهرة العالية التى احتوت على مئات الآلاف من المجلدات والأسفار ، والتى عدت بتلك الذخائر أكبر وأضخم مكتبة فى العالم القديم ، وبجانها مدرسة الإسكندرية ، أو جامعتها الذئعة البيت فى التاريخ ؛ وعلى جاوة حجر منهما
هيكل الإله يوسيدون Poseidon (1)
" كانت المكتبة والجامعة تقمان أمام البحر السياحى, فاذا انتفض الفجر, وبسط أجنحته الريداه على صفاح الماء , وانعكست زوقة السماء على البحر , فكأنه لاسماء ولا ماء , وانبسط أمامها كالهاجع الو سنان, رأى الراؤون فى بكور الصباح , فتية الجامعة وأخبارها الأعلام, بغدون ويروحون , أو جالسين متأملين, كأنما يترقبون يزوغ الشمس , ليعنوا لها بالقدايسة والابتهال. وكان إذا تحدرت وآذنت بالغيب, وهدرت أمواج البحر وتزاحرت, واصطبغت حمرة الشفق بالموج المتوائب المتكسر تلألأت ألوانه القزحية, وتعالى رشاش الماء , وتسابقت الأمواج وتدلسرت مزمجرة نحو الشاطئ, أو إذا سكن آذيه المنتقلع ، وامتد رائقا ، هادئا ، أملس كالمرآة المجلوة ، لمح اللامحون علماء الجامعة ، وسدنة المكتبة وحواريهم الأفهام ، يسيرون الهوينا على الرمل ، يروحون عن أنفسهم عناء الدرس ، أو التفوا جماعات جماعات يتناقشون ، أو بقرأون ، أو يصغون لمرتل من الشعراء " .
فوق من أنجبتهم من العلماء والأحبار والأدباء ، طائفة من الشعراء ، أنشدوا وملأوا سمع الدنيا وقتذاك بالسحر الحلال ، وبقيت ذكراهم تتردد على الآيام فى جلال وإعجاب وتقدير ، للدارس المتعمق ، والباحث المنفهم والولمق المستبتل
وكانت أول مجموعة المكتبة قد قصد بها أن تكون مكتبة خاصة للعائلة المالكة ، فأفرد لها جناح خاص بالبلاط . وتركت مزارا يغشاها كل مثقف من رواد العلم وحكماء الإسكندرية . فلها زادت أسفارها بنيت خلف جزيرة
أنتيرودس , على القرب من الميناء وعلى شاطئ البحر, وكانت مدرسة الاسكندرية أو جامعتها ملاصقة لها . وكانت أبنيتها الرئيسية غير مستودعات الكتب , صالة متسعة يجلس فيها الزوار المطلمون, ثم صالة أخرى يجوراها حيث يستطيع المتحدثون أن يتناقشوا فى الفلسفة والأدب والعلوم. ثم صالة ثالثة أعدت لتناول الطعام. فالعلماء والشعراء فى خدمة البلاط, أغدق عليهم من نائلة ما لم يدع لهم مجال التفكير فى كذا الحياة , واكتساب الرزق , حتى يبحثوا , ويبحثوا , وتستفيد الدولة منهم. وقد كان شعار بطليموس الاول :" إن مهمة الشعر والفلسفة , أن يكونا فى خدمة الدولة ، لتقوية مرافقها ، وروحها المعنوية , فيهما وحدهما تذكرو العقول ، ويصح الادراك ، ولا يخطئ الفهم السليم . وبهما وحدهما ، يستطيع رجال الإدارة والسياسة أن يصدروا فى أعمالهم عن تصرف لا يعوزه السداد ، ولا يتجافى عن طرائق الصواب والحق " .
واشترت مؤلفات العلماء المشهورين ، وصدر مرسوم بتقتيش السفن القادمة لأخذ ما فيها من كتب وأسفار ، ومنع السفن الراحلة من أخذ الكتب إلى الخارج . وراح البطالسة الأولون يستقدمون العلماء من بلاد اليونان وروما ومن الشرقين الأدنى والأقصى . ورغبوهم بالعطاء الجزل
والأرزاق السخية. فلما مشى الزمن بالبطالة , خلف الأولين خلف , عصفت بأعطافهم نشوة الملك, والتهالك على النعيم , وألهتهم عن افتقاء تقاليد أسلافهم الأمجاد, حياة الصراع الدائمة على الملك والسلطان. وصلقوا بين هذا وذاك على المصريين , واعتبروا أنفسهم مقدرنيين أو هيلين . أما المصريون فكانوا لديهم رعايا قيدهم الاستعمار والفتح بقيوده ، فما لهم بهم من شأن ، وحسبهم فى مجال التفاخر أن يشبهوا على العالمين مكتبة الإسكندرية وجامعتها ، وعلمانها وفلاسفنها وشعرائها ، الذين جلبوهم من كل صوب ، وحسبهم أن يهتف المتملقون لهم ، بأنهم حماة العلم وأنصار العرفان .
والهندسة ، وهيروفيلوس Heropltios ، الطبيب والعالم اللغوى ، وأول من شرح الحسم البشرى ، وأول من اقترح تشبيد مدرسة الطب فى الاسكندرية ، وفيها تقدمت دراسات التشريح ، ومعرفة وظائف الأعضاء ، وما تؤديه فى الجسم من خدمات.
وقد فكر بطليموس الثالث ، أى قبل مجىء يونيوس قيصر بمائتى سنة فى إصلاح التقويم الزمنى ، فقام بهذا العمل إيرانوستينس Eratostheres أستاذ الرياضيات والجغرافيا والسكوزيقونيا ( نظرية الخلق والتكوين ) . وقد
حدد إيراثوستينس حجم الأرض ورسم لها خريطة بخطوط الطول والعرض ، حسب ما وصل إليه فهمهم للجنافيا فى ذلك الحين .
بقيت جامعة الاسكندرية ومكتبها تزيد فى أسفارها, ويكثر طلابهها , ويتوافد عليها العلماء من شتى بقاع الأرض, ويتغنى شعراؤها بالطريف الممتع, حتى جاء بوليوس قيصر إلى مصر , فلما اختلفت كيلو بطرا وأخوها على العرش , وناصرها عليه, وقامت الحرب بين الفريقين, أراد المصريون أن يستولوا على الميناء , وعلى جزيرة فاروس, حتى يقطعوا خط الرجمة بحرا على قيصر وجنوده.وفى الميناء ما يقرب من مائة بارجة حرية, وفقت موقف الحياد حتى ينجلى ذلك الصراع بين المتخاصمين, وخشى قيصر أن يأخدها المصريون أو أن تنضم إلى الفريق الثانى, فديرها حيلة ما كرة أحرق بها بعض قطع الأسطول أو كله ، وتطاولت السنة اللهب ، وهبت الرياح ، وسارت باليران من البحر .. نحو المدينة ، فأحرقت كثيرا من الأبنية وهدمتها ، وابتلمت الغيران فيما ابتلعت جامعة الإسكندرية ومكتبتها
كان احتراق المكتبة والجامعة كارثة عظمى , تألم لها المصريون أكثر من ألمهم لأسطولهم القوى, فقد كانتا محل عناية البطالمة , ومن التف حولهم من العلماء. وقد زعموا أن النيران فى هيوبها وتطاولها, أخذت تبلع المكتبة, وتهدر مزمجرة يتطاير شروها , وتمتد ألسننتها, ويتصاعد دخانها, وكأنما يعلو فى لظاها المتأجج خلاصة ما وصلت إليه العقل البشرى من ثقافة وعرفان , وقد أثمن ما انتهى إليه العقل البشرى من ثقافة وعرفان ، وقد سجلوا أمتع ما حدث فى تلك الساعة الرهيبة من حوار شائق محتدم بين توليوس قيصر ، وبين نيودوتس القائد والعالم البطليموسى ، الذى كان يفاوض قيصر فى ذلك الحين ، وجند الفريقين يتنازل لان ؛ فلما رأى المصريون
ما حل بمكتبتهم انصرفوا عن القتال إلى إطفاء الحريق, والفائدان المتحدان, يتناقشان فى عتب تارة, وفى استعطاف أخرى, فكلاهما قائد ينلفح عن غاية , وكلامها عالم وأدبب يتأتى عليه أن تلهم النار تلك الذخائر العقلية النادرة, ولكن قيصر لن يتردد فى أن يترك العقل وما أنتج, يذهب طعمة للنيران فى سبيل امتلاك الموقف ، أو فى سبيل تنفيذ خطة حربية ، أو إحراز نصر ، أو تحقيق مجد . تدمرت المكتبة والجامعة ، ولكن قيصر قد فاز وانتصر ، ومنذ ذلك اليوم تحطم الوكن الذى كان مسرب الشعراء ، والمغنى الذى كان مراح الفلاسفة والعلماء .
إن جامعة الاسكندرية لم تستطع فى أوج مجدها أن تبدع شيئا جديدا تضيفه إلى الفلسفة اليونانية , وإن أضافت الشئ الكثير فى العلوم والرياضيات والطب , ولم تستطع أيضا أن تنافس مدارس أثينا أو رودس فى علوم الخطابة والبلاغة, ولكنها جاوزتهما فى فنون الشعر الغنائى وحسن السبك, وطلاوة الأساليب , وابتكار المعانى, والأخيلة الجميلة.ومما ساعد على الركود فى بعض المناحى, أن الحياة فى مصر بعد بطليموس الثالث لم تكن مسافهة على الابداع والخلق والابتكار , فقد ذهبت بذهاب البطالة الأوائل فكرة تشجيع العلوم والآداب, وحرية البحث وخرجت فكرة جلب العلماء, ورعاية جامعة الاسكندرية عن الغرض الأساسى منها , إلى تقليد متيع , وعرف موروث. وساعدت التقليات السياسية, والاختلافات الدائمة, واستبداد الملوك, على قتل حرية الفكر, وعدم ترك العلماء والفلاسفة أحرارا فيما يبحثون ويفكرون. فقد " كانوا طغاة فى حكمهم, مستبدين فىسياستهم , لم يدعوا مجالا للتفكير الحر الطليق ، حتى يستطيع العلماء أن يدعوا كما أبدع أسلافهم فى أتينا ، أو فى ظلال البطالسة الأوائل وقد كانوا يخشون أن حرية البحث قد تدعو إلى الخروج على الأوضاع المرسومة ، فيما يتصل بالإدارة والحكم ، أو فيما تواطأ عليه الناس من استسلام ورضى وخنوع ،
مما قد يؤدى إلى تبليل الأفكار ، واضطراب الرعية
ولكن برغم ذلك كله. فقد كان الشعراء أسعد حالا, وأمد طلا . وكانت للشعر دولة ، وللشعراء مكانة . فقد مضت شعبة هوميروس فى الجامعة ، تدرسه والشعراء المسرحيين فى شغف وتعمق وتجويد . وكان الشعراء فوق ذلك هم المتقدمين فى الحفلات والولائم الرسمية فى البلاط ، ينشدون الشعر ، وينالون الجوائز الحسان .
وساعد على ذلك أيضا, أن حوداث القرن الرابع قبل الميلاد قد عملت على انحطاط أثيبا , وعلى إضعاف شهرة الفن الإغريقى , وضاعت بها تلك الأسواق والمواسم الأدبية التى كان يرتل فيها شعر الملاحم والكوميديا والتراجيديا والقراءات المسرحية لتاريخ هيرودوتس ترتيلا. وطفت الأحداث أخرى , فأصبحت الحياة الاغربقية, والمدنية اليونانية بأسرها, فى فوراتها تارة , واستقرارها أخرى , وقلقها ثالثة , نهيا مقسما بين الملوك والقواد العسكريين, فلما تألق نجم المقدونى, واتسمت فتوحاته, انتقلت الحضارة اليونانية بعلومها وفنونها وتقاليدها , إلى حيث انهت خطوانه ، وخفقت بنوده ، وعسكرت جنوده ، وانتشرت ، فاستقرت فى الشرقين الأذنى والأقصى ، وتبنها مصر وسوريا ، وأخذت الأوتوفراطية محل الدغوفراطية والارستقراطية ، وأصبح الفن والآدت من سمات القلة المتازة ، وظهرت فى عالم الأدب بشائر البحث والاستقرار .
ولكن الأدب الخالص بين ذلك كله , وقد جافته تقاليده, وانتقل إلى أجواء جديدة , واحتضن أربابه الحكام المستبدون , لم يستطع أن يقرب من عوالمه التى كان محلقا فيها , ولا أن يبدو فى غلائله التى كان يتسح بها غلائل الابتكار والإبداع . فقد وجدت العبقرية الأغريقية الجديدة بعد المقدونى ، جديدا من المعانى تفصح عنها ، وجديدا من الأساليب تعبر بها . وتحولت الحضارة الأغريقية جميعها إلى الإسكندرية ، وتركزت فيها فى أخريات القرن الرابع قبل الميلاد
ففى الاسكندرية , وفى أروقة جامعتها ومكتبتها , وتحت كنف البطالسة الأول أخد الشعر يسمو فى أجواء جديدة , وأخذ بعض الموهوبيين من الشراء يتراسلون به فيما بينهم , ويعيشون ويعبتون من الحياة ولذائذها , فينشدون وينظمون , وانقطعوا إلى قداسة الفن والشعر , يعبدونه مخلصين له الولاء , فأقاض عليهم آلهنه بالبديع الطريف , وكفاهم الملوك مؤونة النضال فى سبيل القوت , فعاشوا للفن وللفن وحد , وكانوا بذلك أول من حقق المذهب الذى ظهر فى أوربا فى القرن التاسع عشر الداعى بأن يكون " الفن للفن " . غير أن فهم وشعرهم فى مجموعته كان أقل مرتبة وجودة من روائع الأدب اليونانى القديم ، وإن كان فى كثير من النواحى أرشق وأظرف ، ولكن إخلاصهم وصدق نفوسهم ، وانصرافهم إلى النظم والتجويد والتفكير ، ومقدرتهم على جميل الأداء وحسن
السبك ، واتباعهم للتقاليد الأدبية القديمة المألوفة ، واحتفاظهم روحها ، قد جعلتهم وجعلت للاسكندرية وشعرائها مكانة مر موقة فى عالم الشعر الاغريق بأسره ، وكانوا دعاة لسكثير من المذاهب الأدبية التى اخذ بها الأوربيون .
ثم أخذوا فى أخيلتهم المبتكرة يرودون حتى جوانب الخيال السحيق , الذى يدخل فى عوالم المجهول , وفى طباق المعانى الفريدة التى تخطر بالاخيلية المتعارفة المألوفة , ثم تناولوا عويصات العواطف المتشابكة ، ومعقدات الأحاسيس البشرية ، فجعلوا بذلك كله من شعر الإسكندرية ، فنا ومدرسة قائمين بذااتهما ، لهما معالهما وخصائصهما ، التى تميز بينها وبين شعراء الاغريق وأدبهم ، وزادوا بعد ذلك فقاق الغاية وأبدعوا أما إبداع .
فمن هم إذا أعلام أولئك الشعراء ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ .
( يتبع )
