(تتمة)
وكان معاوية معروفا بالمغالاة فى التوسل بهذه المكائد فى سبيل الانتصار، فاذا أردنا أن نعرف سبب نجاح مكيدة المصاحف فلا بد لنا من أن نفترض أن صفوف على لم تكن خالية من عيون معاوية، وليس التدليل على ذلك ببعيد المنال. فقد ارتفع فى أثناء القتال صوت بعد صوت يحاول إحداث الفشل فى صفوف المقاتلين. غير أن الظروف لم تكن قد تهيأت لذلك بعد. فقد قام شيخ من شيوخ الأزد فى أثناء المعركة فجعل يرثى قبيلته وينعى من مات منها فى سبيل نصرة على وجعل يقول: "والله ما هي إلا أيدينا نقطعها بأيدينا وما هي إلا أجنحتنا نجذها بأسيافنا. . . الخ" غير أن صيحته اضمحلت فى حماسة إخوانه وماتت فى جلبة المعركة. وكان رئيس ربيعة متهما بالميل إلى معاوية، وقد حدث فى أثناء القتال أن انهزم بعض الضعفاء من ربيعة مع ثبات أهل الرايات والشجعان. وقد انصرف ذلك الرئيس منهزما عندما شهد فرار أول المنهزمين، فلما رأى ثبات سائر أصحابه عاد واعتذر عن هربه قائلا انه كان لا يريد إلا إرجاع المنهزمين.
فلا بد لنا من أن نفرض وجود هذه التيارات الخفية التى كانت تعمل فى جيش على حتى تستقيم الصورة وتصبح ملائمة لطبيعة الأمور. وكان على لا يحفل بالبحث عن مثل هذه الدسائس. بل لقد كان إذا عرفها ورأى عند صاحبها شبهة البراءة لم يمد اليه يدا بسوء. وكان على من الشجاعة والاستهانة بالموت فى المحل المعروف، وكانت شجاعته هذه تجعله يرتفع عن أن يعبأ بكشف هذه المكائد أو مقابلتها بمثلها. فقد كان رجل كفاح صريح.
على أن هذه التيارات الخفية لم تكن بأدعى إلى فشل على من اضطراب الأهواء بين أصحابه، اذ قد كانت الأهواء تعصف ببعض قلوب من معه، وكان مسلكه الحر لا يكبح هذه الأهواء بل كان يكتفى بأن يشير إلى المبدأ السامى الذى يسعى إليه، ويحض الناس على التمسك به، ويكلهم بعد ذلك إلى نفوسهم ومقدار ما فيها من الإيمان والحرص على الحق. فكان بعض قواده يتنافسون فيما بينهم فلا يعبأ بأن يلتفت إلى تلك المنافسة، بل يحاول أن يصرف حماستهم إلى مقصدهم الاسمى. وإنا ضاربون هنا مثلا بصاحبين من أصحابه كان بينهم تنافس خفى أدى إلى نتائج جليلة فى وقعة
صفين , ونعنى بهذين الأشعث بن قيس والاشتر النخعى وهو مالك بن الحرث
وكان الأشعث بن قيس كما تقدم حاكما على أذربيجان فى مدة خلافة عثمان، فلما قتل عثمان وتولى علي لم يخرج عليه، بل بقى على عمله وأخذ البيعة له، واما الأشتر فقد كان من أهل العراق وكان رئيسا له شهامة وفيه صرامة، وقد غضب على حكام العراق فى أيام عثمان وثار بهم حتى كان يمنعهم من الاستقرار والحكم، ثم سار إلى المدينة مع جماعة من أصحابه فكان من رؤساء الثوار الذين حاصروا عثمان بالمدينة.ولما قتل عثمان كان هو متكلم القوم والساعى فى اختيار الخليفة الجديد حتى اختير علي، فكان من أكبر قواده، وكان الأشتر من أصلب قواد على عودا وأحصفهم رأيا ولعله كان من أكبرهم إخلاصا فى رغبة الإصلاح العام والعدل فى حكومة الدولة العربية.
غير أنه كان صارما لا يقبل هوادة، ولا يدارى فى رأيه. وكان يأخذ على علي أنه قدم الأشعث بن قيس وجعله من قواده. لأنه كان من أكبر رءوس الثوار على عثمان فلا يثق فيمن سبقت لهم ولاية الحكم فى أيام عثمان.
فلما كانت موقعة صفين تقدم الأشعث فى يوم القتال على الماء فأبلى أحسن البلاء حتى تصايح الجنود أن الأشعث هو صاحب الفخر فى ذلك اليوم، وكان المنتظر بعد ذلك أن نراه فى طليعة القوم فى كل المواطن. غير أنا لا نكاد نسمع له بعد ذلك ذكرا فى مدة القتال العظيم بين الجيشين وقد دام اكثر من عشرة أيام، فى حين أنا نجد بطل القتال هو الأشتر مالك بن الحرث، نراه فى يمين القتال وقلبه، وأنى سار نجد النصر والحماسة.
أكان هذا عفوا غير مقصود؟ إذن فاسمع ذلك الانفجار الذى حدث بين الأشتر والأشعث لتعلم مقدار ما كان فى أعماق نفسيهما من الحقد والكراهة. لما رفعت المصاحف وطلب معاوية التحكيم انقسم الرأي فى جيش علي. ولسنا بسبيل عرض هذا المنظر وانما نقصد أن نقول أن الأشعث بن قيس كان من أول القواد الذين رضوا بالتحكيم وإيقاف الحرب، وسعى فى ذلك سعيا كثيرا الى حين كان الأشتر قد قرب بجنوده من قلب جيش معاوية حتى أصبح على وشك الوصول الى شخصه، وحتى فكر معاوية فى الانهزام والهرب، وقد اضطر علي عندما رأى انقسام أصحابه وفشلهم الى أن يرسل الى الأشتر يأمره بإيقاف القتال والانصراف عن العدو، وقد ابى الأشتر وتردد ثم اضطر إلى الطاعة وهو كاره ساخط، فلما عاد الأشتر الى علي ورأى ما رأى من سعي الأشعث فى تضييع النصر من يده ثارت حفيظته وكان بينه وبين الأشعث منظر عاصف. قال
الاشتر "أو لستم قد رأيتم الظفر لو لم تجمعوا على الجور؟" فقال الأشعث حانقا "إنك والله ما رأيت ظفرا ولا جورا" ثم تدارك الأمر بعد ذلك وعلم أنه قد أنكر أمرا عرفه الجميع. فخاطب الأشتر موادعا. قال "هلم إلينا فانه لا رغبة بك عنا" فقال الأشتر غاضبا "بلى والله لرغبة بى عنك فى الدنيا للدنيا والآخرة للاخرة. ولقد سفك الله عز وجل بسيفى هذا دماء رجال ما أنت عندى خير منهم ولا أحرم دما" فسكت الأشعث "وكأنما قصع على أنفه الحمم" غير إنه استمر على سعيه فى إيقاف القتال حتى تم الأمر وأعلن للجند، وكان الأشعث هو الذى سار فى إعلانه. ثم أن الأشعث كان له صولة أخرى عند كتابة الصحيفة التي كتب فيها التعهد، والتى ذكر فيها اسم الحكمين، وموقفه ذلك يدل على ما كان فى قلبه من الحقد والحفيظة على على والأشتر. أراد على أن يختار عبد الله ابن عباس ليكون الحكم المختار من جانب علي فثار الأشعث ومعه جماعة فقالوا لا نرضى بغير أبي موسى الأشعري وهو رجل غير موال لعلى، وليس من الذين نهضوا معه إلى حرب معاوية. فراجعهم علي فى ذلك وقال إذا لم ترضوا بابن عباس فأنى اختار الأشتر. فثار الأشعث عند ذلك ثورة عظيمة وقال "وهل سعر الأرض غير الأشتر؟ وهل نحن إلا فى حكم الأشتر؟" قال على مراجعا: "وما حكمه؟" قال: "أن يضرب بعضنا بعضا بالسيوف حتى يكون ما أردت وما أراد" لم تكن هذه لغة الأشعث يوم القتال على الماء. فما أشد ما حقد على علي والأشتر فى أثناء الاقامة عند صفين. أليست الحرب جهد المستميت؟ وهل يستميت مثل الأشعث إذا كان قلبه مليئا بمثل هذا الغيظ؟
لا نستطيع أن نقول أن الأشعث قد باع نفسه لمعاوية على احداث ما كان، ولكنا لا نستطيع ألا أن نلمح ما تولد فى قلبه من الحقد والكراهية، فأما حقده فعلى ذلك المنافس الناجح وهو الاشتر، أما الكراهية فكانت للخليفة الذى لم يتح له فرصة التصدر والرياسة بعد أن اطمع فى ذلك منذ يوم القتال على الماء.
لقد كانت صفين مسرحا لعوامل خفية. وأهواء قوية، لم تذهب هذه العوامل وتلك الأهواء سدى، بل قد عصفت بحزب على فى اشد المواقف وأحرجها
