محمود سامي البارودي هو إمام الشعراء المحدثين قاطبة، وباكورة الأعلام في دولة الشعر الحديث، وأول من نهض به وجارى في نظمه فحول الشعراء المتقدمين؛ فبعث النهضة
الشعرية من مرقدها بعد طول الخمود
كانت نشأته علمية حربية . مخرج من المدرسة الحربية وبدت عليه سليقته الشعرية وهو بعد فى عهد التلمذة . وانتظم بعد تخرجه في سلك المناسب المدنية ثم العسكرية وخاض غمار الحروب فى ثورة كريد سنة 1866 .وفى الحرب بين تركيا والروسيا سنة 1870، فصقلت المعارك مواهبه الشعرية
وكان من زعماء الثورة العرابية . وتولى رآسة وزارة الثورة سنة ١8٨٢ تم كانت الهزيمة .ونفى مع زملائه إلى جزيرة سيلان ( سرنديب ) وظل فى منفاه نيفا وسبعة عشر عاما . وأسبغ عليه النقي سمات التضحية والبطولة.
الحنين إلى الوطن
كانت حياة الزعماء فى منفاهم حياة ألم وحزن . إذ انقطعت صلتهم بالناس . وطال اغترابهم عن أرض الوطن , وبعدت الشقة بينهم وبين أهليهم ومواطنيهم . ولم يكترث لهم احد . ولم يعطف عليهم أحد ( والناس مع الغالب !) وجاءت قريحة البارودى بشعر مؤثر فى الحنين إلى الوطن. والحزن على فراقه , مما يعد آية فى البلاغة . وبلغت سليقته الشعرية في منفاه ذروة العظمة والجلال
قال يصف الرحيل عن أرض الوطن :
محا البين ما أبقت عيون المها مني
فشبت ولم أقض اللبانة من سنى
عناء وبأس واشتياق وغربة
إلا شد ما القاه فى الدهر من غبن
إلى أن قال :
ولما وقفنا للوداع وأسبلت مدامعنا فوق الترائب كالمزن
أهبت بصبرى أن يعود فبرنى وناديت حلمى أن يثوب فلم يغن
وما هى إلا خطوة ثم أقلعت بنا عن شطوط الحى أجنحة السفن
فكم مهجة من زفرة الشوق فى لظى
وكم مقلة من غزوة الدمع فى دجن
وماكنت جربت النوى قبل هذه
فلما دهتنى أكدت أقضى من الحزن
ولكننى راجعت حلمى وردنى
إلى الحزم رأى لا يحوم على أفن
ولولا بنيات وشيب عواطل
لما قرعت نفسى على فائت سوى
الصبر على الشدائد
وتجلت فى منفاه صفاته العالية من الشمم وعلو النفس واحتمل آلام النفي بشجاعة وإباء . وصبر وإيمان . وله فى ذلك شعر يفيض بهذه المعاني السامية
قال وهو فى سرنديب ( سيلان ):
لم اقترف زلة تقضى على بما
أصبحت فيه فماذا الويلوالحرب
فهل دفاعا عن دينى وعن وطنى
ذنب أدان به ظلما واغترب ؟
فلا يظن بى الحساد مقدمة
فأننى صابر فى الله محتسب
أثريت مجدا فلم أعبأ بما سليت
أيدى الحوادث منى فهو مكتسب
لا يخفض البؤس نفسا وهى عالية
ولا يشيد بذكر الخامل النشب (1)
وقال مشيرا إلى مصادرة أملاكه :
يا ناصر الحق على الباطل خذ لى بحقى من يدي ماطلى
أخرجنى عما حوته يدى من كسبى الحر بلا ناطل (2)
من غير ذنب سوى منطق ذى رونق كالصارم القاطل(3)
فإن أكن جردت من ثروتى ففضل ربى حلية العاطل
وقال من قصيدة أخرى فى مقاومة الظلم والصمود أمام المحن والخطوب :
إذا المرء لم يدفع يد الجود أن سطت عليه ولا يأسف إذا ضاع مجده
ومن ذل خوف الموت كانت حياته أضر عليه من حمام يؤده
وأقتل داء رؤية العين ظالما يسئ ويتلى فى المحافل حمده
علام يعيش المرء فى الدهر خاملا أيفرح فى الدنيا بيوم بعده ؟
عفاء على الدنيا إذا المرء لم يعش بها بطلا يحمى الحقيقة شده
ومن قوله فى الحنين إلى الوطن والصبر على الشدائد :
فيا دموع القطر سيلى دما ويا بنات الأيك نوحى معى
وأنت يا نسمة ( وادى ) العضا مرى برياك على مربعى
وأنت يا عصفورة المنحنى بالله غنى طربا واسجعى
وأنت يا عين إذا لم تفى بذمة الدمع فلا تهجعى
أبيت أرعى النجم فى صدفة ضل بها الصبح فلم يطلع
فهل إلى الأشواق من غاية أم هل إلي الأوطان من مرجع
لا تأس يا قلب على ما مضى لا بد للمحنة من مقطع
يتمنى أن يرى مصر
وقال فى منفاه يتمنى أن يرى مصر :
يا حبذا جرعة من ماء محنية وضجعة فوق برد العمل بالقاع
ونسمة كشيم الخلد قد حملت ويا الأزاهر من ميث وأجراع (4)
يا هل أرانى بذاك الحى مجتمعا
بأهل ودى من قوى وأشياعى ؟
وقال فى هذا المعنى :
ابيت حزينا فى ( سرنديب ) ساهرا
طوال الليالي والخليون هجد
إذا خطرت من نحو ( حلوان ) نسمة
ونزت بين قلبى شعلة تتوقد
شباب وأخوان رزئت ودادهم
وكل امرئ فى الدهر يشقى ويسعد
وقال أيضا فى منفاه :
وردوا على الصبا من عصرى الخالى وهل يعود سواد اللمة البالى؟
ماض من العيش مالاحت مخايله فى صفحة الفكر إلا هاج بليالى
أدهى الضرائب غدر قبله ثقة وأقبح الظلم صد بعد إقبال
لاعيب فى سوى حرية ملكت اعنتى عن قبول الذل بالمال
قلبى سليم ونفسي حرة ويدى مأمونة ولسانى غير ختال
بلوت دهرى فمااحمدت سيرته فى سابق من لياليه ولاتالى
حلبت شطريه من يسر ومعصرة وذقت طعميه من خصب وإمحال
لم يبق لي أرب فى الدهر أطلبه ألا سحابة حر صادق الخال
وأين أدرك ما أبغيه من وطر والصدق فى الدهر أعيا كا محتال
لا فى ( سرنديب ) لى إلف أجاذيه فضل الحديث ولا خل فيرعى لى
أييت منفردا في رأس شاهقة مثل القطاعى فوق المربأ العالى
إذا تلفت لم أبصر سوى صور فى الذهن يرسمها نقاش آمالى
علام اجزع والأيام تشهد لى بصدق ما كان من وسمى وأغفالى
راجعت فهرس آثارى فما لمحت بصيرتى فيه ما يزرى بأعمال
فكيف ينكر قوى فضل بادرتى وقد سرت حكمي فيهم وأمثالى
أنا ابن قولي وحسبى فى الفخار به وإن غدوت كريم العم والخال
ولي من الشعر آيات مفصلة تلوح فى وجنة الأيام كالخال
ينسى لها الفاقد المحزون لوعته ويهتدى بسناها كل قوال
فانظر لقولى نجد نفسى مصورة وفى صفحتيه فيقول خط تمثالى
ولاتغرنك فى الدنيا مشاكلة بين الأنام فليس النبع كالضال
إن ابن آدم لولا عقله شبح مركب من عظام ذات أوصال
ومن قصيدة له يتشوق إلى مصر
خليلي هذا الشوق لا شك قاتلى فميلا إلى ( المقياس ) وإن خفتما فقدى
ففي ذلك ( الوادى ) الذى أنبت الهوى شفائى من سقمى وبرئى من وجدى
وقال فى هذا المعنى :
طال شوقى إلى الديار ولكن أين من ( مصر ) من أقام (بكندي )(١)
حبذا ( النيل ) حين يجرى فييدى رونق السيف واهتزاز الفرند
تتثنى الغصن فى حافتيه كالعذارى يسحبن وشى الفرند
قلدتها بد الغمام عقودا هى ابهى من كل عقد وبند
كيف لا تهتف الحمام عليه وهى تسقى يه سلامة قند
كلما صورته نفسى لعينى قدح الشوق فى الفؤاد بزند
وإلى العدد القادم حيث اتم الحديث عن البارودى وشعره الوطنى
