وفي كتابه (آراء في التقويم الحقيقي للقوات الحية)حيث أراد أن يوفق في الفلسفة الطبيعية بين لبينيز وديكارت يقول: (قد أتمثل أن هنالك لحظات لا يقنع الإنسان فيها أن يعتمد على قوته، أن هذا الاعتماد ليولد فينا جهوداً متواصلة ويمنحها سبيلاً يفيدها في سعيها نحو الحقيقة، وجميل بنا أن ننخدع ألف مرة، لأن الضال المنخدع ليعمل على خدعة العلم أكثر ممن لا يسلك ألا السبيل المطروقة. . . أنني هنالك سأطأ. . . ولقد سلكت السبيل التي أردت أن أتبعها. . . سأسلكها ولم يقف سيري أحد)
أن هذه الثقة المطلقة بالنفس بدأ يظهر فضل إنتاجها في فلسفة (كانت) لأنها فرضت عليه أن يخط سبيلاً جديدة، ويطلع على الناس بمدرسة للفلسفة جديدة، وهل كان العصاميون ألا أبناء اعتمادهم على نفسهم؟ وقد ظهر أول إنتاجه في كتابه (تاريخ الطبيعة العالمي، ومنهج السماء العام وتجربة على الأصل الميكانيكي للعالم حسب قوانين نيوتن)، فكتابه هذا هو تجربة ميكانيكية سماوية مؤسسة على علم الطبيعة. فالعالم نيوتن لم يسن إلا قانون الحركات السماوية. وعندما أتى على درس أصل هذه الحركات ناط الأصل بالإرادة الإلهية التي يعن لها كل شيء، ولكن (كانت) أدرك أن القانون الذي أفاد في تعين مذهب الوجود، ينبغي له أن يحلل مركباته، وأن القوات التي تحفظ الوجود ينبغي ألا تختلف عن القوات التي أبدعت الوجود. وأخيراً يفترض في بيان أصل الوجود أن مادة ( Hamogene ) متشابهة مؤلفة من أجزاء متشابهة تقودها حركة دائرة، وهي تتشكل وتتنوع بحسب ما يحتوي باطنها من قوة وفاعلية، ثم يصف الخلاء (أو الفراغ) ، وقد استحال جواً غائماً، وشموساً وسيارات وأقماراً، ولكنه في الحقيقة لم يزد شيئاً، إلا أنه سار بالمسألة التي وقف نيوتن عليها، وهذه المسألة المبهمة هي عديمة الحل في ذاتها، إذا ليست الحياة إلا العمل الدائم نقبله على وضعه؛ وفصول أخرى جاءت في الكتاب تغمرها أنفاس شعرية تبدي لنا (كانت) في عهد كان لا يفر من عاطفته، وقد تراه في بعض صفحاته يسوق إليك نظريات قد أستغلها (لابلاس) نفسه بعد خمسين عاماً.
كانت العلوم الطبيعية هي شغل (كانت) في جميع أدوار حياته،
وهذه العلوم هي التي فتحت لنفسه أفقاً جديداً تركها لا يقنعها مدى الأفق الضيق الذي تخلقه المدرسة، حتى إذا مرت عليه أعوام عاد إليه حنينه إلى الفلسفة المقصودة بذاتها، فحارب المذاهب الهندسية التي تعنى بالبراهين المنطقية ولا تعنى بالبراهين العملية، وقد وضع كتاباً خاصاً ناضل به أصحاب العلم النظري
يستشهد (كانت) بكلمة لأرسطو (ترانا حين نكون شيوخاً نعيش سواء في هذا العالم نفسه، ولكننا عندما نسترسل في الأحلام والأوهام كل منا له عالمه. . . ثم يقول: (وحين يبني الناس دعائم الوجود كل بحسب رغبته، فليأذنوا لنا بأن نقول: أن هؤلاء الناس يحلمون! ولكن هل يدفعنا هذا إلى القول: أن كل علم نظري فاسد؟ لا. لأن العلم النظري قد يسد حاجة من حاجات عقلنا، ولكنه لم يكن ناجحاً مفيداً إلا إذا كان موثقاً بحبال معرفتنا. ويقول كانت: أن العلم النظري له عملان: يجيبنا في الأول على أسئلة كثيرة يخلقها العقل الطامح إلى كشف أسرار الوجود، وهاهنا يكثر انخداعنا بنتائج تأتينا على غير ما نتوقع؛ وفي العمل الثاني يبين لنا ماهية المسألة التي نعالجها وموضوعها من حدود إدراكاتنا، وإمكان اتصالها أو استحالته بتجاربنا ومعارفنا. وعلى هذا نرى العلم النظري إنما هو معرفة لحدود العقل البشري، وهو كل البيت الصغير ترى حدوده دائماً كثيرة، وإنما ينبغي لهذا العلم أن يكون أكثر شغفاً بالمعرفة، وأشد صيانة لما يملكه، لأن ذلك أجدى عليه من إنتصارات جديدة يركض ورائها ركضاً أعمى لا يغنيه شيئاً
هذا هو رأي كانت في العلم النظري، وهذا الرأي نفسه هو الذي خلق كتابه (نقد العقل الخالص) هذا الكتاب الذي أظهر مزية (كانت) وعلو كعبه في الفلسفة، وكان له التأثير العميق في فلسفة أوربا الحديثة.
تصويب وقع فى مقال ( لويدجى ييراندلو ) المنشور في العدد الماضى خطآن مطبعيان نرجو اصلاحهما فى آخر صفحة :١٩٨٩ يريد تغتيراندلو , والصواب : يرى . وفى صفحة 1992 سطر١٥:( اكتشاف ) حقيقة كانت مجهولة عن طريق الحركة , والصواب : وليس عن طريق الحركة

