أرى الدنيا لمن هي في يديه ... عذاباً كلما كبرت عليه
تهين المكرمين لها بصُغر ... وتكرم كل من هانت عليه
إذا استغنيت عن شيء فدعه ... وخذ ما أنت محتاج إليه
فتبسم المهدي وقال لأبي العتاهية: أحسنت، فقام أبو العتاهية ثم قال: والله يا أمير المؤمنين ما رأيت أحدا أشد إكراما للدنيا، ولا أصون لها، ولا أشح عليها، من هذا الذي جر برجله الساعة ؛ ولقد دخلت إلى أمي المؤمنين، ودخل هو، وهو أعز الناس، فما برحت حتى رأيته أذل الناس، ولو رضى من الدنيا بما يكفيه لاستوت أحواله ولم تتفاوت. فتبسم المهدي ودعا بأبي عبيد الله فرضى عنه، فكان أبو عبيد الله يشكر ذلك لأبي العتاهية.
فإذا قيل لنا كيف صار الفتى بائع الجرار إلى هذه المنزلة من علو النفس، بحيث يسمو ذلك السمو على وزير المهدي، إذا بدا للناظر غريبا أن ينقلب هذا الشاعر الماجن ذلك الانقلاب الذي يتنافى مع ماضيه كل المنافاة، فإن هذا لا يجعلنا نتعجل درس هذا الشاعر العظيم، ولا بد أن ننتظر ذلك الإرهاص إلى غايته، ونمضي في درسه مرحلة مرحلة.

