المديح
هناك نوعان من الشعر قيل كلاهما في مناسبته، أحدهما يموت بموت المناسبة، التي قيل فيها، والآخر يخلد ويخلد معه هذه المناسبة، ومن النوع الأول شعر المديح، فشعر المديح عند القاضي الفاضل أقل شعره كمية وقيمة، ومنه قوله يمدح صلاح الدين:
جهادك حكم الله ليس بمهدود ... وعزمك أمر الله ليس بمردود
سفينة نوح ما ركبت وعسكر ... كطوفانه والشام بالفتح قد نودي
كأنّا ببحر الكفر قد غيض ماؤه ... إذا ما استوت سفن لها القدس كالجودي
إذا سد باب الآذى فالجود نافذ ... ويا رب مفتوح كآخر مسدود
وقوله يمدحه أيضاً:
صحا الدهر لكن بعد ما طال سكره ... وما كان إلا من دم البغي خمره أقمت عليه الحد بالحد ضارباً ... بسيف إذا ما أهتز قد بان سكره فمن كان ذا هم فقد زال همُّهُ ... ومن كان نذر فقد حل نذره فيا ملكا لا يملك الخطب صبره ... كما أنه لا يجهل الدهر شكره يجور على الهامات عادل سيفه ... ويجري على أهل الأوامر أمره لقد قمت في نصر النبي وآله ... مقاماً على الرحمن قد حق أجره سرى ملك الإفرنج ينصر جمعهم ... فما ضرهم في نصرة الحق كفره وما هي إلا آية نبوية ... أقامت لهم بالنفع من خيف ضره وعادتهم من قبل آية جدهم ... فينصرهم من لا يؤمل نصره
وقال من موشح في مدح الفضل بن يحيى بن خالد:
دع اللوم يا عاذلي ... فما أنت بالعادل
ولا تكثرن الكلام ... وأقصر فهذا الملام
على الصب مثل الكلام ... ولو قمت في كل عام
تلوم إلى القابل ... فما أنت بالقابل
وليست هذه النماذج في مستوى شعره الآخر على ما أعتقد، وفيها تكلف ظاهر - وأكبر ما يلفت النظر في شعر المديح عند القاضي الفاضل أنه لا يبدأه - إلا في القليل النادر - غزلاً كما كانت عادة أسلافه، كما أنه لا ينزل به إلى المستوى الذي نزل إليه كثير من الشعر الأقدمين. وأقصى ما وصل إليه مديحه قوله:
لقد سالمتنا صروف الزمان ... وما برحت قبلها عائدة
وأمطرت نوء الندى دائماً ... فهزت به أرضنا الهامدة
وأسهرت عينك للمكرمات ... فأقررت أعيننا الهاجدة
وأطفت حرارة آمالنا ... مغانمُ إحسانك الباردة
وقوله:
وتلقى خطوب الدهر إن جد جدّها ... بعزم مجد في عزيمة هازل
بفخر يرد النجم ليس بصاعد ... وجود يرد القطر ليس بنازل
سماك فخار لا يسمى بأعزل ... ولا لله ليس تُراع بعازل
أقول إذا ما جاء هل من مفاخر ... كقولي إذا ما جدّ هل من منازل
وكم لك من يوم أغر محجل ... ترد به قسرا نوازي النوازل
وكذلك قوله في مدح شجاع وزير الخلافة من قصيدة طويلة:
أما ومنك على أعدائك الطلب ... فأن أعدى عدو عندنا الهرب
أنت الحياة التي ما بعدها رغب ... أو الحمام الذي ما قبله رهب
فليس يعصمهم في الفلك ما ركبوا ... وليس ينجيهم في الأرض ما ضربوا
وقوله في مدحه أيضاً:
لك المجد تردى عن عداه علاه ... فأي رجاء قد عداه نداهُ
إذا شئت يوماً أن تراه فإنما ... ترى ما ترى في النجم دون مداهُ
وجودك سحب والسحائب أرضها ... فهذي البرايا لو علمت تراهُ
وأختم مختاراته في المديح بقصيدته الجميلة التي قالها في العزيز مستعطفاً ومادحاً ومصوراً ومعاتباً:
هذا الذي كنت به أُوعدُ ... أنجز وعد الأمس هو للغدُ
فالغد قد أعجلني حثه ... عن أن أقول اليوم لا تبعدوا
مالك إلا اليوم في شدتي ... أنت صديق وأنت أنت العدو
فليت لا كان لساني لمن ... ليس له في كشف خطب يدُ
بدا به البخل فألحاظه ... عطشى وفي ريقه الموردُ
تستشهد الأغصان في أنها ... كعطفه اللدن وما أشهدُ
والناس حساد على وصله ... وما ألوم الناس أن يحسدوا
إن شبهوه صنما فأنههم ... فأنهم في الحب قد ألحدوا
وذلك الجمر على خده ... يقبسك النور ولا يوقدُ
كأنما قام بمحرابه ... من صدغه ذو خشية يسجدُ
يدعو لأيام العزيز التي ... بالعدل في أحكامها تخلدُ
فكل أرض بالندى جنة ... وكل دار للدعا مسجدُ
يا نعمة الله التي فضلها ... يجحد إيمان الذي يجحدُ
تستنفذُ الآمال معروفه ... وهو على المعهود لا ينفذُ
لله باب منك في أرضه ... ما دونه ملجا ولا مقصدُ
ويستوي مورد معروفه ... مسود هذا الخلق والسيدُ
عبدهم حر بإعتاقه ... وحرهم بالجود مستعبدُ
كلهم أسرى ندى سرهم إنهم في كفه أعبدُ
الزهد
وشعره في الزهد وبكاء الزمان، والحنين إلى الأوطان كثير وأكثره في بكاء الشباب وذم المشيب وهو يقول من قصيدة:
فالعمر كالكأس والأيام تمزجه ... والشيب فيه قذى في موضع الحبب
ويخاطب الشباب بقوله منها:
نار وإن لم يكن كالنار محرقة ... فإن في الشعر منها آية اللهبِ
ولي صباه وأبقى شهب ليلته ... والصبح ليس بمأمون على الشهب
يا ليلة ما أظن الصبح يذكرها ... شيبت رأسي ورأس الفجر لم يشبِ
وخيمة العمر إن شد الصباح لها ... عموده كان حبل الشمس كالطنب
ونحن نأمل أسباب الحياة بما ... مثلته وأراه أضعف السببِ
وحجة العمر أكدار فأن غلطت ... بالصفو دنياك فاعدده من النغبِ
يحبك الناس إن أمسكت عن طلب ... والله يمقت إن أمسكت عن طلبِ
إن كان رزق بماء الوجه محتلباً ... فرزق ربك يأتي غير محتلبِ
ويقول في الشيب أيضاً:
ما مع الشيب حديث في غزل ... قد شغلنا منه بالضيف نزلْ
لست ممن ينزل الضيفُ به ... فيراه الضيف عنه في شغلْ
وكذلك يقول:
بلغت أول عمري أرْزل العمر ... فلم يزدني أشتعال الشيب في الشعر
والشيب والشعر كانا ساكني خلدي ... وإنما انتقلا منه إلى نظري
أما خديعة أحلام أغر بها ... في يقظتي فكر جاءت على فكر
كان الحمام أمام الصفو أرفق بي ... من الحياة التي أفضت إلى الكدر
علا البياض قتور كان أوله ... هذا البياض الذي يعلو على الشعر
فلليل ليل شباب المر إن سلكت ... فيه المنيةُ لم يسلك بمعتكر
عمر الفتى ليلة والموت صبحتها ... والشيب بين الدجى والصبح كالسحر
متفرقات له
وللقاضي الفاضل شعر غير قليل في الرثاء والهجاء والوصف والحكم وغير ذلك فهو يرثى العزيز فيقول مخاطباً قصره:
لئن صرت فوق الأرض أرضاً فربما ... عهدناك من جوف السماء لنا سما
حكيت لنا بالأمس عنهم حقيقة ... فأصبحت أنت اليوم ظناً مرجماً
عزيز علينا أن نراك على البلى ... تراباً نهي المشغوف أن يتتيما
تصدى له من لا يراقب حرمة ... ومن ليس يرعى للمكارم محرماً
وما ساءني أن ترحل الدار بعدهم ... إذا ذهب الحامي فلا بقي الحمى
وقال هاجياً مازحاً:
ولقد رأيت وما سمعت بمثله ... للبين بينهم غراباً أعصما
وجه عليه من القباحة مسحة ... ظلم اليسار وقد رآه فأظلما
وعليه وجه قد أجيبت دعوة ... فيه من الداعي عليه فأرغما
لو أنه ذنب لكان كبيرة ... أو أنه طود لكان مقطما
لو شئت أن أرقى لنيل قرونه ... لجعلت ذاك الكتف تحتي سلماً
وقال في كتم السر:
السر مالُ أو دم ... في سحره لا في يديه
إن كان يكتم سره ... كان الخيار به إليه
أو كان يفشي شره ... كان الخيار به عليه
وقال من قصيدة:
وإن امرأ أنفاسه نحو قبره ... خطاه لمحثوث المسير ولا يدري
وقال أيضاً:
يا خائباً بالمعاصي ... كفيت عقبى الخلو
لئن أمنت الأعادي ... فالنفس أدنى عدو
وقال في كتاب:
كتاب صحبت الأنس حين قرأته ... كصحبة ما فيه من اللفظ للمعنى
هو الجوهر الأعلى وما قد رأيته ... من الجوهر الأعلى هو العرض الأدنى
وقال:
لا يعجز الله هارب هرباً ... سحابة مدرك إذا طلبا
أين يفر المغرور من أجل ... ومن بلاء كلاهما كتبا
إذا رأى الشمس حوله اشتبكت ... قال أداة تفيدني الغلبا
وهي بمنصوبها له شرك ... وهو على نفسه به نصبا
يا موقد البغي إن موقده ... لناره يصطلي بها حطبا
عمائم للسنان تلبسها الرم ... ح وترخى لها الدما عذبا
وتسبح العدا بها قضبا ... تخر يوم الوغى له القضبا
وله أيضاً:
سرت فكأن الليل قبل خدها ... فأبقي به قطفاً وأسند عقربا
فما استغربت في موطن الحب غربتي ... فهذا الدجى في صبحها قد تغربا
وقال يخاطب الليل:
فيا ليل ما افترق العاشقان ... إذا كنت بينهما حاضراً
فقد جاءني هاجري أصلا ... فلا يرجعن وأصلي هاجرا
وسرّبه غلتي واردا ... ولا تفجعني به صادرا
ودعني أطارحه شكوى الفراق ... واحفظ عهود الهوى ظاهرا
لعلك تعرف سر الغرام ... فتصبح للمبتلى عاذرا
وتعشق بدرك عشقي البدور ... وترجع مثلي بهم حائرا
فلا تبعث العجز قبل اللقاء ... ولا تتبع الأول الآخرا
فكم في حواشيك من طائر ... يقص به قلبي الطائرا
ويكسر صبحك لي عينه ... فيا ليل دمت له كاسرا
هذه نماذج عرضتها من شعر القاضي الفاضل وهي ليست أحسن ما في ديوانه، ولكنها هي التي تعطي الأديب صورة صحيحة عنه، وأردت بعرضها التنويه به كشاعر لا يزال ديوانه مخطوطاً، موجهاً نظر الأدباء والباحثين إلى الكنز الثمين الدفين في دار الكتب المصرية وغيرها - الذي إن كنا لا نستطيع نشره الآن، فإننا لا شك نستطيع الإشادة به على صفحات (الرسالة) التي تغار على نشر التراث العربي القيم، تاركا البحث والتحليل في شعره وأدب غيره من الأدباء والمغمورين إلى الباحثين والأدباء.
أما ديوان القاضي الفاضل فمخطوط بمكتبة معهد دمياط، وأخذت له صورة فوتوغرافية محفوظة في دار الكتب المصرية تحت رقم ٤٨٥٩ أدب.
