منهجه وتأثيره
يشبه منهج (كونفيشيوس) منهج (سقراط) كثيراً، إذ هو يحاول أن يرشد تلاميذه إلى الحقيقة، ولكن لا عن طريق التقليد والتحفيظ، بل عن طريق البحث الشخصي الذي يتدرج من المحسات إلى المعقولات، ويصعد من الماديات إلى المعنويات؛ فتارة يلمح إلى البرهان الحق تلميحاً خفياً، وأخرى يشير إلى تناقض الباطل إشارة غامضة ثم يقود التلاميذ في طريق المحاورة قيادة منطقية محكمة إلى أن يعثروا على الحق بأنفسهم أو يهدموا الباطل بمجهوداتهم الشخصية المراقبة بإرشاد الأستاذ. وفي هذا يقول: (أنا لا أعلِّم من لا يشتهي أن يفهم، ولا أساعد على الكلام من لا يحاول أن يوضّح أفكاره (1) )
ومن منهجه أيضاً أنه كان يضع أمام تلاميذه مُثُلاً حية من أخلاق الحكماء والملوك السابقين أو من المأثورات الدينية العالية أو القصائد الشعرية المفعمة بالفضيلة أو الحوادث التاريخية التي تصلح لأن تتخذ نماذج للسمو والنبل، وكان يسلك هذا المنهج في تعليم تلاميذه الفلسفة والأدب والفن والأخلاق
ويروي المؤرخون أن تلاميذ هذا الحكيم الذين استفادوا من منهجه بلغ عددهم في حياته ثلاثة آلاف تلميذ، وأن عدداً كبيراً من بين هؤلاء التلاميذ شغلوا في الدولة مناصب هامة وأنهم كانوا العنصر الأساسي للعلماء والأدباء الذين حكموا الصين أكثر من ألفي سنة، لأن (كونفيشيوس) قد أحسن تأديبهم فلم يخلق فيهم الميل إلى الانزواء واليأس، وإنما بث في نفوسهم روح الإصلاح والانتصار والسيادة، ولهذا لم تكن حلقات دروسه مقصورة على التلاميذ، بل كانت تضم بينها عدداً ضخما من كبار النبلاء والأرستوقراطيين الذين وجدوا فيه أكبر محقق لعظمة الصين المنشودة فدفعتهم وطنيتهم إلى الاغتراف من نمير علمه الصافي وإلى محاكاة أخلاقه السامية النبيلة وفي الحق أن كونفيشيوس يجب أن يعد في طليعة أفذاذ الرجال الذين خلقوا المدنية الصينية، بل المدنية العالمية؛ إذ هو
الذي أنشأ السياسة الصينية القيمة، وهو الذي وضع قواعد أخلاق الأسرة على الأسس الفلسفية المحترمة، وهو الذي قسم الفلسفة العملية إلى فروعها الثلاثة: الأخلاق الشخصية، وتدبير المنزل، وسياسة الدولة أو المدينة الفاضلة؛ فسبق بذلك أرسطو وأفلاطون كما سنشير إليه حين نعرض لأخلاقه النظرية. وليس هذا فحسب، بل هو الذي رفع علم التاريخ في الصين إلى مصاف العلوم الأخرى عند الأمم الراقية، وهو أول من أناروا سبيل علم المنطق للذين أتوا بعده فزادوا عليه ما جعله قميناً بالاحترام والإجلال غير أنه على الرغم من ذلك كله لم يصادف في حياته نجاحاً باهراً كما أسلفنا. والسبب في ذلك الإخفاق هو أخلاقه المتينة التي لم تسمح له أن يتملق أعظم الملوك والأمراء مرة واحدة في حياته، ولا أن يحني رأسه إلا للحق وحده، فضايقت هذه الأخلاق القويمة المبطلين من الطغاة والمتجبرين. وكانت نتيجة ذلك أن ربح فيلسوفنا الفضيلة وخسر الحياة المادية
على أن الشعب لم يلبث أن تنبه إلى حكمة (كونفيشيوس) الخالدة القائلة: (إن الجوهر الأساسي العملي للشعب يجب أن يكون هو الأخلاق، وإن سياسية الدولة لا تنجح نجاحاً حقيقياً إلا إذا أسست على الأخلاق) لما تنبه الشعب إلى هذه الحكمة وآمن بها وأخذ يطبقها تطبيقاً عملياً دقيقاً أخذت أحواله العامة تتحسن شيئاً فشيئاً حتى بلغت الأوج. والفضل في ذلك كله راجع إلى التماسك الأخلاقي الذي وضع هذا الحكيم بذوره في تعاليمه القيمة الجليلة (يتبع)
