من١ - ٨ نوفمبر ١٩٥١:
شهدت هذه الفترة عدة حوادث هامة: ففيها واصل الإنجليز عدوانهم على العزل من المصريين وزادوا فاعتدوا بالقبض والاعتقال على ضباط البوليس المصرى بمنطقة القنال، وكذلك اعتدوا على رجال التعليم العائدين إلى أعمالهم بمنطقة القناة، فاعتقلوا بعض الأساتذة دون مبرر ثم أفرجوا عنهم والقوهم فى الصحراء ليلا!! وكذلك تكون المدنية ويكون احترام الإنجليز للحرية!!
وفيها أيضاً اعتدى الإنجليز على رجال القضاء المصرى الكرام وهم فى طريقهم إلى عملهم بمنطقة القناة والعريش!! ثم عمدوا إلى تسخير العمال بالقوة. وبدأت كتائب التحرير المصرى نشاطها وعمدت (الفرق الخفية) إلى تجريد الجند البريطانيين من سلاحهم وهو عمل يدل على شجاعة المصرى التى لا تحتاج إلى دليل، ودب الذعر فى صفوف الإنجليز إذ بلغت حوادث خطف الأسلحة نحو ٢٠ حادثة واتهموا رجال البوليس المصرى بالتقصير فى منع هذه الحوادث، وهدد القائد العام للقوات البريطانية الجنرال أرسكين بإعلان الأحكام العرفية فى منطقة القنال وتعيين حاكم عسكرى لها. وهكذا وقف الرجل المسلح، يخشى عدوان الرجل الأعزل إن الحق هو الذى أعطى الأعزل قوته، وهو الذى نزع من الرجل المسلح سطوته وهيبته. إن الحق منتصر، وإن مصر لا تطلب إلا حريتها ووحدة الوادى، وهى بالغة إن شاء الله ما تصبو إليه
وتشرشل أيضا:
فى ٢٥ أكتوبر ١٩٥١ أجريت الانتخابات البريطانية وفاز حزب المحافظين وتولى رئيسه ونستَون تشرشل الحكم. ولم تكن مصر تهتم كبيرا بنتائج الانتخابات لأنها تعرف أن الإنجليز هم الإنجليز، سواء كان تشرشل يرأس حكومتهم أم كان
أتلى؛ فالسياسة البريطانية لا تتغير بتغير الوزراء، وإنجلترا هى العدو الأول لمصر لأنها تحتل أراضيها بالقوة، وتمنع وحدة الوادى وتقف سدا حائلا بين سكان الشمال وسكان الجنوب، ألا ساء ما تفعل!
وفى ٦ نوفمبر بدأ مجلس العموم الجديد جلساته وألقى خطاب العرش الذى جاء فيه: (إن حكومتى تعد ما عمدت إليه الحكومة المصرية من إلغاء معاهدة التحالف المبرمة فى عام١٩٣٦ واتفاقيتى الحكم الثنائى فى السودان المعقودين ١٨٩٩ أمرا غير مشروع ولا يجيزه القانون) ولسنا ندرى أى قانون أباح لإنجليز أن تحتل مصر؛ وأن تفصم الوحدة الطبيعية بيد مصر والسودان، وأن تحكم السودان على رغم إرادة أهله
وألمح إلى أن بريطانيا إذا دعا الأمر إلى ذلك للبقاء فى منطقة القنال، وأشار إلى أنها (ستحفظ بموقفها فى منطقة قناة السويس طبقا لنصوص معاهدة ١٩٣٦ وتؤمن سلامة هذا الطريق الدولى دون أن تستخدم القوة أكثر من اللازم.) وبهذا يهدد تشرشل باستخدام القوة ضد مصر لأنها تطلب حريتها وإنهاء احتلال أراضيها، ولسنا ندرى هل غاب عن تشرشل الماكر العجوز أن مصر قد فكرت قبل إلغاء المعاهدة وقدرت أنها مقبلة على فترة من فترات الجهاد الشاق والنضال العنيف!! وأنها ستتعرض لتهديد إنجلترا وربما لتهديد أمريكا وفرنسا أيضا!! وهل يعتقد تشرشل أن الإنجليز سيخرجون من مصر دون نضال ودون تضحية!! ليعلم تشرشل أن مصر قد فكرت وقدرت وأنها قد آثرت الجهاد والنضال فى سبيل الحرية على الحياة والعبودية.. فليهدد كما يشاء فمصر قد وقفت صفا واحدا تدافع عن حريتها ووحدتها.. ولن يرهبها تهديده أو يخيفها وعيده
هيئة الأمم ومؤتمر السلام:
وفى ٦ نوفمبر اجتمع أعضاء مجلس السلام فى جميع أنحاء العالم فى فينا عاصمة النمسا، وألقى كامل البنداوى باشا خطابا مستفيضا عن مصر وعن موقفها من الدول الاستعمارية استهله بقوله (إن مصر قد بدأت مرحلة جديدة فى تاريخها.. ذلك أنها فرغت من عهد التوقيع والإمضاء وبدأت القتال والكفاح. إن
الشعب الآن يريق دمه فى سبيل الحرية غير متردد ولا هياب، كل ذلك من أجل الحرية ومن أجل السلام العالمى.)
وقال: (إن هذه الحوادث الدامية التى تجرى فى مصر ستكون نقطة تحول فى التاريخ) واختتم الخطاب قائلا: (سيكون لهذا الصراع ضد الإنجليز والانتصار عليهم نتائج بعيدة المدى)
وقد خطبت السيدة سيزا نبراوى فى المؤتمر. ونددت بالأعمال الوحشية التى تقوم بها بريطانيا فى مصر.. وتحدثت عن أعمال البطولة التى يقوم بها عمال الموانئ الذين أضربوا عن التعاون مع الإنجليز وأعلنت أن وجود القوات البريطانية ضد إرادة الشعب المصرى يهدد السلام العالمى
وتحدث مندوب الاتحاد السوفييتى فطالب بضرورة تأييد مصر واتخاذ قرارات إيجابية لشد أزر الشعب المصرى فى كفاحه ضد الاستعمار، وأن الاتحاد السوفييتى يؤيد مصر تمام التأييد فى كفاحها ضد الغاصب وصراعها من أجل الحرية
وفى ٧ نوفمبر أصدر المؤتمر قرارا يدعو بريطانيا إلى سحب قواتها من مصر والسودان فورا لكى يتسنى تقرير مصيرهما بحرية تامة، وقرر إيفاد وفد لهيئة الأمم المتحدة لمطالبتها بتوحيد الاهتمام إلى ما يتعرض له المسلم من تهديد بسبب وجود قوات أجنبية فى مصر والسودان
وفى باريس اجتمعت الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة فى6 نوفمبر وحضر الاجتماع وفد مصر برياسة الوطنى العظيم الدكتور محمد صلاح الدين باشا، وكذلك حضر الوفد البريطانى برياسة المستر إيدن وزير خارجية بريطانيا، وبدأ صلاح الدين نشاطه فأرسل إلى السكرتير العام للأمم المتحدة مذكرة ندد فيها بالأعمال الوحشية التي تقوم بها القوات البريطانية في مصر، وأعلن ثقته من أن الضمير العالمى وشعوب الأمم المتحدة ستقف إلى جانب مصر وشعبها فيى كفاحها فى سبيل الحق والحرية، وفى سبيل السلام العالمى. وهكذا بدأ النضال بين مصر وبريطانيا فى أروقة هيئة الأمم
لا مناقشة:
لجأت بريطانيا إلى التهديد باستخدام العنف والقسوة إذا لم يكف زعماء مصر عن نشاطاتهم، وفى ٦ مارس سنة ١٩١٩ استدعى قائد القوات البريطانية زعماء الوفد وأعضاءه وأنذرهم (أن أى عمل منكم يرمى إلى عرقلة سير الإدارة يجعلكم عرضة إلى المعاملة الشديدة بمقتضى الأحكام العرفية)
لقد دار بخلد الإنجليز ١٩١٩ كما يدور بخلدهم الآن أن التهديد باستخدام القوة كفيل بالقضاء على الروح الوطنية فى وادى النيل، وكفيل بإيقاع الرعب فى قلوب المصريين مما يقضى على حركتهم وآمالهم، ولكن خاب أملهم، ففى ١٩١٩ واجهوا شعبا يقف صفا واحدا خلف زعمائه، فلما هددوا سعدا وزملاءه لم يجبن سعد ولم يجبن زملاءه وقابلوا الإنذار بعدم الاكتراث، ولم يعبئوا به بل زادوا تمسكا بمطالب الأمة، لقد كان القائد العام البريطانى مسنودا بالحراب والمدافع البرطانية، وأما سعد ورفاقه فقد كانت تحرسه قلوب شعب مصر الأعزل، ولكنه شعب مؤمن بحقه وعدالة قضيته
لم يعبأ سعد بالإنذار البريطانى ومضى فى طريقه قدما، ففى نفس اليوم أبرق إلى رئيس الحكومة البريطانية يقول: (تعلمون ضرورة أن وزارة رشدى باشا لما علقت سحب استقالتها على سفر الوفد قبلت استقالتها نهائيا. وليس لذلك معنى إلا الحيلولة بيننا وبين عرض قضيتنا على مؤتمر السلام. وقد نتج فعلا من هذه السياسة أن أعظم رجال مصر... قد بدءوا يرفضون بتاتا تأليف وزارة تعارض مشيئة الأمة التى هى مجمعة على طلب الاستقلال...
إن السلطة العسكرية أنذرتنا اليوم نضع الحماية موضع البحث وتعرقل تأليف الوزارة الجديدة وتوعدتنا بأشد العقاب العسكرى، على أنها لا تجهل أننا نطلب الاستقلال التام ونرى الحماية غير مشروعة كما تعلم بالضرورة أننا قد أخذنا لى عاتقنا واجبا وطنيا لا نتأخر عن أدائه بالطرق المشروعة مهما كلفنا ذلك. وحسبنا أن نذكر لكم هذا التصرف الجائر الذى يجر سخط
العالم المتمدن حتى تفكروا فى حل هذه الأزمة بسفر الوفد فيرتاح بال الشعب
القبض على زعماء الوفد:
اتخذت السلطة من رفع الوفد هذه الشكوى إلى رئيس الحكومة البريطانية مبررا لتنفيذ ما هددت به، ففى يوم ٨ مارس قبضت على رئيس الوفد سعد زغلول وعلى ثلاثة من كبار صحبه وهم محمد محمود وحمد الباسل وإسماعيل صدقى واعتقلتهم فى ثكنة قصر النيل ثم نقلوا تحت الحراسة إلى بور سعيد ومنها أبحروا إلى مالطة حيث وضعوا قيد الاعتقال
اعتقد رجال الشرطة العسكرية أنهم بهذا العمل قد قضوا على الحركة الوطنية فى مصر وأنهم قد استراحوا وأمنوا واطمأنوا، ولكن خاب ظنهم فإن هذا النبأ قد سرى فى مصر كما تسرى النار فى الهشيم وكان بمثابة شرارة ألقيت على مستودع من البارود مما أدى إلى حدوث انفجار عظيم
بدء الثورة:
نهض المصريون جميعا على بكرة أبيهم دفعة واحدة وفى يوم واحد لإعلان سخطهم وغضبهم على هذا العدوان الغاشم، وكانت للمصريين فى احتقار الموت الذى كان يتحداهم فى ثورتهم من أفواه مدافع العدو وبنادقه روعة وجلال
وأما رجال الوفد فقد بادروا فى نفس اليوم إلى إرسال برقية احتجاج على اعتقال الزعماء إلى المستر لويد جورج رئيس الوزارة البريطانية، وأعلنوا أنهم سيستمرون على الدفاع بكل الطرق المشروعة عن قضية البلاد العادلة
وكذلك أرسلوا برقيات احتجاج إلى معتمدى الدول الأجنبية
وفى ٩ مارس وجه على شعراوى باشا بصفته وكيل الوفد كتابا إلى عظمة السلطان يشكو فيه من تصرف السلطة العسكرية مع رجال الوفد جاء فيه:
(.. استدعتنا السلطة العسكرية فى ٦ مارس.. وأنذرتنا بالعقاب العسكرى الشديد إن أتينا عملا يرمى إلى تعطيل سير
الوزارة ثم منعتنا من مناقشتها فى هذا البلاغ. لم تصب السلطة فى رأيها فإن هذه الحماية باطلة ولكل إنسان الحق المطلق فى أن يضعها تحت البحث والمناقشة القانونية..
لم يقف الأمر عند هذا الإنذار بل قبضت السلطة أمس على رئيسنا سعد زغلول باشا وزملائنا محمد محمود باشا وحمد الباسل باشا وإسماعيل صدقى باشا وزجوهم فى قصر النيل ثم سيق بهم إلى بور سعيد فإلى حيث لا نعلم. وذنبنا فى ذلك أننا نطلب حريتنا السياسية طبقا للمبادئ الشريفة التى اتخذت قاعدة للسياسة المالية الجديدة... وبينا أننا لم نتعد حدود القانون، فلم نهج فى البلاد طائرا ولم نحرك ساكنا بل قبلنا توكيل الشعب إيانا أن نصدع بأمره ونسعى لتحقيق مشيئته...
على هذه الاعتبارات يصعب علينا يا مولاى أن نفهم مبررا لهذه الخطة القاسية التى جرت عليها السياسة الإنجليزية..
إليكم يا صاحب العظمة وأنتم تتبوءون أكبر مقام فى مصر وعليكم أكبر مسئولية فيها. نرفع باسم الأمة أمر هذا التصرف القاسى؛ فإن شعبكم الآن يحق له أن يعتبر هذه الطريقة باردة تخيفه على مستقبله كما يحق له أن يكرر الضراعة لديكم العلية أن تقفوا فى صفه مدافعين عن قضيته العادلة)
قويسنا

