الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 45الرجوع إلى "الرسالة"

6 - بديع الزمان الهمذانى

Share

ويلحق بالديوان شعره فى الرسائل والمقامات وذلك فى معظمه  قطع قصيرة جيدة

ثم شعر البديع عامة سهل جيد المعانى منقح الألفاظ يتجلى  فيه تهذيب الكتاب، اذا استثنينا الشعر المرتجل وشعر الألغاز  ونحوه مما لا يقام له فى الأدب وزن، ولكنه لا يبلغ الدرجة العليا  الا قليلا.

وبديع الزمان عند نفسه وعند الناس كاتب يقول الشعر، ولكنه  يرى أن البليغ من أجاد الصناعتين: يقول فى المقامة الجاحظية:  "أن الجاحظ فى أحد شقى البلاغة يقطف. وفي الآخر يقف. والبليغ  من لم يقصر نظمه عن نثره، ولم يذر كلامه بشعره، فهل تروون  للجاحظ شعرا رائعا؟

نثر الهمذانى

فى القرن الرابع الهجرى بلغت الكتابة العربية درجة من الصناعة  والتأنق لم تخل بسلامتها ولم تذهب بمعانيها. تولاها كتاب قادرون  صرفوها فى أغراض شتى، واختاروا من الألفاظ والأساليب الجميل  المحلى، دون إغرب ولا اخلال بالمعانى. وتناولت الكتابة كثيرا  من فنون الشعر، كالمدح والهجاء والغزل والوصف: إلى ما كان لها  قبلا من الموضوعات، فاتسع المجال لذوي الفكر الثاقب والقلب  الشعار، لم يقيدهم فى النثر ما قيد الشعراء من الأوزان والقوافى  والاصطلاحات. وكان كثير من الكتاب يلتزم السجع، ومنهم  من يكتفى بالازدواج، وقليل منهم يرسل الكلام إرسالا. وفى هذا  العصر نبغ أئمة الكتابة كابن العميد والصاحب والصابى والمهلبى  وقابوس، والخوارزمى، وبديع الزمان. ولم يكن بديع الزمان  كمعظم هؤلاء وزيرا أو ذا منصب، فلم تستغرق كتابته أمور الدولة  وكثرت رسائله الموضوعات الخاصة والعامة. واستبانت نواح  من عصره فى السياسة والأخلاق، والآداب وغيرها

وله فى الكتاب أصحاب المناصب رسالة إلى أبي نصر المرزبان  يقول فيها: كنت أطال الله بقاء سيدى ومولاى فى قديم الزمان

اتمنى للكتاب الخير، وأسأل الله أن يدر عليهم اخلاف الرزق،  ويمد لهم أكناف العيش، ويوطئهم أعراف لمجد، ويؤتيهم أصناف  الفضل، ويركبهم أكتاف العز، وقصار اى أن أرغب إلى الله تعالى  فى ألا ينيلهم فوق الكفاية، ولا يمد لهم فى حبل الرعاية، فشد ما يطغون  للنعمة ينالونها، والدرجة يعلونها، وسرع ما ينظرون من عال، بما  ينظمون من حال، ويجمعون من مال، وتنسيهم أيام اللدونة،  أوقات الخشونة، وأزمان العذوبة، ساعات الصعوبة، وللكتاب  مزية فى هذا الباب، فبينما هم فى العطلة إخوان، كما انتظم السمط،  وفي العزلة أعوان، كما انفرج المشط، حتى لحظهم الجد لحظة حمقاء  بمنشور عمالة، أو صك جعالة، فيعود عامر ودهم خرابا، وينقلب  شراب عهدهم سرابا، فما علت أمورهم، حتى اسبلت ستورهم،  ولا غلت قدورهم، الا خلت بدورهم الخ(1)

ويجمع نثر بديع الزمان الرسائل والمقامات:  

١ - الرسائل

لبديع الزمان ثلاث وثلاثون ومائتا رسالة تناول فيها  أغراضا كثيرة.

والرجل دراك حساس، إذا سلط فكره إلى موضوع أضاءت  له جوانبه كلها، ثم وضحت أمامه طرائق البيان، فهو مبين عن كل  معنى بطرق مختلفة من التصوير والتمثيل، يسايره القارى فيها. وهو  معجب متعجب. انظر قوله فى بعض السلاطين(2) : "قد علم الشيخ أن  ذلك السلطان سماء اذا تغيم لم يرج صحوه، وبحر اذا تغير لم يشرب صفوه،  وملك اذا سخط لم ينتظر عفوه، فليس بين رضاه والسخط عرجة،  كما ليس بين عضبه والسيف فرجة، وليس بين من وراء سخطه مجاز،  كما ليس بين الحياة والموت معه حجاز، فهو سيد يغضبه الجرم الخفى،  ولا يرضيه العذر الجلى، وتكفيه الجناية وهى ارجاف، ثم  لا تشفيه العقوبة وهى اجحاف، حتى إنه ليرى الذنب وهو أضيق  من ظل الرمح، ويعمى عن العذر وهو أبين من عمود الصبح، وهو  ذو اذنين يسمع بهذه القول وهو بهتان، ويحجب بهذه العذر  وهو برهان، وذو يدين يبسط احداهما الى السفك والسفح، ويقبض  الاخرى عن العفو والصفح، وذو عينين يفتح احداهما الى الجرم،  ويغمض الاخرى عن الحلم، فمزجه بين القد والقطع، وجده بين

السيف والنطع، ومراده بين الظهور والكمون، وأمره بين الكاف  والنون، ثم لا يعرف من العقاب، غير ضرب الرقاب، ولا يهتدى  من التأنيب، الا لإزالة النعم، ولا يعلم من التأديب، غير اراقة  الدم، ولا يحتمل الهنة على حجم الذرة، ودقة الشعرة، ولا يحلم  عن الهفوة، كوزن الهبوة، ولا يغضى عن السقطة، كجرم النقطة، ثم  أن النعم بين لفظه وقلمه، والأرض تحت يده وقدمه، لا يلقاه الولى  الا بفمه، ولا العدو الا بدمه، والأرواح بين حبسه وإطلاقه، كما  الأجسام بين حله ووثاقه، ونظرت فاذا أنا بين جودين: إما أن اجود  ببأسى، وإما أجود برأسى، وبين ركوبين: إما المفازة، وإما  الجنازة، وبين طريقين: إما الغربة، وإما التربة، وبين فراقين: إما أن  أفارق أرضى، أو أفارق عرضى، وبين راحلتين: إما ظهور الجمال،  أو أعناق الرجال، فاخترت السماح بالوطن، على السماح بالبدن،  وأنشدت؛

إذا لم يكن الا الأسنة مركبا    فلا رأى للمضطر الا ركوبها

ويقول فى رسالة كتبها الى القاضى ابى القاسم يذم أحد القضاة (1)  "فولى المظالم وهو لا يعلم أسرارها، وحمل الأمانة وهو لا يعرف  مقدارها، والأمانة عند الفاسق، خفيفة المحمل على العاتق، تشفق  منها الجبال، وتحملها الجهال، وقعد مقعد رسول الله صلى الله عليه  وسلم بين كتاب الله يتلى، وحديث رسوله يروى، وبين البينة  والدعوى، فقبحه الله من حاكم لا شاهد أعدل عنده من السلة والجام،  يدلى بهما إلى الحكام، ولا مزكى أصدق لديه من الصفر، ترقص  على الظفر، ولا وثيقة أحب اليه من غمزات الخصوم، على الكيس  المختوم، ولا وكيل أوقع بوفاقه من خبيثة الذيل، وحمال الليل،  ولا كفيل أعز عليه من المنديل والطبق، فى وقتى الغسق والفلق،  ولا حكومة ابغض اليه من حكومة المجلس، ولا خصومة أوحش  لديه من خصومة المفلس، ثم الويل للفقير اذا ظلم، فما يغنيه موقف  الحكم، الا بالقتل من الظلم، ولا يجيره مجلس القضاء، الا بالنار  من الرمضاء، وأقسم لو أن اليتيم وقع فى أنياب الاسود، بل  الحيات السود، لكانت سلامته منهما أحسن من سلامته اذا وقع  بين غيابات هذا القاضى وأقاربه، وما ظن القاضى بقوم يحملون  الامانة على متونهن ويأكلون النار فى بطونهم، حتى تغلظ قصراتهم  من مال اليتامى، وتسمن أكفالهم من مال الايامى، وما ظنك  بدار عمارتها خراب الدور، وعطلة القدور، وخلاء البيوت، من

الكسوة والقوت، وما قولك فى رجل يعادى الله فى الفلس، ويبيع  الدين بالثمن البخس، وفى حاكم يبرز فى ظاهر أهل السمت،  وباطن أصحاب السبت، فعله الظلم البحت، وأكله الحرام السحت،  وما رأيك فى سوس لا يقع الا فى صوف الأيتام، وجراد لا يسقط  الا على الزرع الحرام، ولص لا ينقب الا خزانة الاوقاف، وكردى  لا يغير الا على الضعاف، وذئب لا يفترس عباد الله لا بين الركوع  والسجود، ومحارب لا ينهب مال الله الا بين العهود والشهود؟  وما زلت ابغض حال القضاة طبعا وجبلة، حتى أبغضتهم دينا وملة"  وكتب فى كتاب لم يعجبه انشاؤه وخطه: "الكتاب وصل،  حجم هائل، ليس وراءه طائل، وخط مجنون، لا يدرى ألف فيه  من نون، وسطور، فيها شطور، دبيب السرطان، على الحيطان،  ولفظ أخلاط، لا يدركه استنباط، ولا يفسره بقراط، هذيان  المحموم، وهوس الملوم، وسوداء المهموم، وقرأت شطر كتاب  لم أدر والله عماذا يعبر، عن أمور سقيمة، أو عن أحوال مستقيمة،  لا جرم انى ظننت خيره، ولم أبعد غيره، وجوزت السلامة، ولم  آمن ضدها، وذهبت مع الظن الجميل اتفاقا، ثم رجعت القهقرى  إشفاقا، فسألت الله لك المزيد إن كان سلامة والسلام" (2)

وكتب الى أحد أصدقائه يطلب بقرة :

"وقد احتيج فى الدار إلى بقرة يحلب درها، فلتكن صغوفا تجمع  بين قعبين فى حلبه، كما تنظم بين دلوين فى شربه، وليملأ العين  وصفها، كما يملأ اليد خلفها، وليزن مشيها سعة الذرع، كما يزين  درها سعة الضرع، ولتكن عوان السن، بين البكر والمسن،  ولتكن طرح الفحل، رموح الرحل، وليصف لونها صفاء  لبنها، وليكن ثمنها كفاء سمنها، ولتكن رخصة اللحم، جمة الشحم،  كثيرة الطعم، سريعة الهضم، صافية كالجون، فاقعة اللون، واسعة  البطن، وطية الظهر، ممتلئة الصهوة، فسيحة اللهوة، لا تضيق بطنها عن  العلف، فيؤديها إلى التلف، ترد الهول ولا تخافه، وتشرب الرنق ولا  تعافه، واجهد أن تكون كبيرة الخلق، لتكون فى العين أهيب، ضيقة  الحلق، ليكون صوتها فى الأذن أطيب، واحذر أن تكون نطوحا  أو سلوحا، واياك أن تبعثها ملوحا أو رشوحا، ولتكن مطاوعة  عند الحلب لا تمنع نفسها، ولا تكثر لحسها، وداهية فى الرعى،  لأقرب سعى، حمقاء على الحوض كالنعجة، لا تأمن من البعجة، ألوفة  للراعى الذى يرعاها، مجيبة لصوته اذا دعاها، مهتدية الى المنزل

بغير هاد، ذاهبة الى المرعى بغير قياد، ولا أظنك تجدها اللهم  الا أن يمسخ القاضى بقرة، وهو على رأى التناسخ جائز، فاجهد  جهدك، وأبذل ما عندك. "

وهو أكتب ما يكون حين يعظ أو يهجو أو يسخر. وللفكاهة  فى بيانه مجال واسع (1) به يقول رسالة شفاعة: "مثلى أيد  الله القاضى مثل رجل من أصحاب الجراب والمحراب، تقدم الى  القصاب، يسأله فلذة كبد، فسد باليسرى فاه، وأوجع بالاخرى  قفاه. فلما رجع الى مسكنه كتب اليه توقيعا، يطلب حملا رضيعا،  كذلك أنا وردت فلا اكرام بألمام، ولا صلة بسلام، ولا تعهد  بغلام، فلما وجدته لا يبالى، بسبالى، كاتبته اشفع لسواى، وهو  موصل رقعتى هذه، وله خصم بينهما قصة لا أسأله فى البين،  الا إصلاح الجانبين، والسلام"

وله من رسالة إلى فقيه نيسابور فى رجل اغتاب البديع، فرد  عليه الفقيه: "فان كان لا بد من انتقام واستيفاء، فأعيذك بالله ان  تجهل أن آذان الأنذال، فى القذال، وهى آذان لا تسمع الا من ألسنة  النعال الأدم، أو ترجمة أكف الخدم، وعلامة فهمها جحوظ العينين،  وخدر اليدين. فان تاب، والا كررت هذا العتاب. " (2)

وله الى قيس بن زهير(3) : "أعوز الصوف فبعثت اليك بفرو  فطفقت تلوم، وظلت تقعد فى العتاب وتقوم، وارانى ما بعدت  فى القياس، ولا خرجت عن متعارف الناس، فالصوف نفس  الفرو، الا أنه نسيج، والصوف نفس الفرو الا انه حيج، فكل  فرو صوف، وليس كل صوف فروا، فان أنصفت وجدت الفرو  فطرة، والصوف بدعة، وإن نظرت رأيت الفرو صوفا وزيادة،  فكان نعمى وسعادة، والفرو وبر فى الشتاء ونطع فى الصيف، فان  قرسك البرد فالبسه وأنت قيس، وان غشيك المطر فاقلبه  وأنت تيس" .

وبديع الزمان ليس متكلفا فى بيانه، لا يحس القارئ جهد فى  اختيار الألفاظ أو سياق الأساليب، ولكنه يلتزم السجع فى معظم  كتابته سنة كتاب عصره.

وقد عاب الجاحظ فى المقامة الجاحظية بقلة الصنعة فى كلامه بعد  أن عابه بأنه لا يحسن الشعر قال: "فهل ترون للجاحظ شعرا رائعا؟  قلنا لا. قال: فهلموا الى كلامه فهو بعيد الاشارات، قليل الاستعارات،

قريب العبارات. منقاد العريان الكلام يستعمله، نفور من معتاصه  يهمله، فهل سمعتم له لفظة مصنوعة، أو كلمة غير مسموعة؟ "  

ب - المقامات

يقول الهمذانى فى رسالة يعيب فيها شعر الخوارزمى: "وما  كنت لأكشف تلك الأسرار، وأهتك تلك الأستار، وأظهر منه  العار والعوار، (4) لولا ما بلغنا عنه من اعتراض علينا فيما أملينا، وتجهيز  قدح علينا فيما روينا، من مقامات الاسكندرى من قوله انا لا  نحسن سواها، وانا نقف عند منتهاها، ولو أنصف هذا الفاضل  لراض طبعه على خمس مقامات، أو عشر مفتريات، ثم عرضها  على الأسماع والضمائر، وأهداها الى الابصار والبصائر، فان كانت  تقبلها ولا تزجها، أو تأخذها ولا تمجها، كان يعترض علينا  بالقدح، وعلى املائنا بالجرح، أو يقصر سعيه، ويتداركه وهنه فيعلم أن من أملى من مقامات الكدية أربعمائة مقامة لا مناسبة  بين المقامتين، لا لفظا ولا معنى، وهو لا يقدر منها على عشر حقيق  بكشف عيوبه والسلام"

ومثل ذلك فى رسالة الى أبى المظفر بن أبى الحسن البغوى(5)  ويقول الثعالبى "فوافاها "يعنى نيسابور" سنة اثنتين  وثمانين وثلاثمائة ونشر بها بزه، وأظهر طرزه، وأملى أربعمائة  مقامه نحلها أبا الفتح الاسكندرى فى الكدية وغيرها"

وكذلك يقول الحصرى فى زهر الآداب أنها أربعمائة مقامة.  والذى بايدينا من هذه المقامات اثنتان وخمسون. فهل  ضاعت المقامات الا هذا المقدار؟ أرجح أنه أملى فى الكدية أربعين  وحرفت الكلمة الى اربعمائة، وتتتابع عليها النساخ. وذلك أنه  يبعد أن يضيع هذا العدد من المقامات على كلف الناس بها،  ولأنه فى رواية الحصرى عارض بالمقامات الأحاديث الاربعين  لابن دريد. ثم هو يقول إنه أملى هذه المقامات فى الكدية. ونحن  اذا عددنا المقامات التى فيها كدية صريحة وجدناها خمسا وثلاثين.  وجائز أن يكون البديع قد اعتبر خمسا أخرى من مقامات الكدية،  فان صح هذا فقد أملى أربعين فى نيسابور. ثم أملى الأخريات بعد  كالمقامات الست التى فيها مدح خلف بن احمد.

يتبع

اشترك في نشرتنا البريدية