الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 651الرجوع إلى "الرسالة"

Share

ردنا على الوجه الأول

يقول الأستاذ الحقوقي   (إن القضية مدسوسة في ثنايا قضايا  التشريع وهي عنه جد بعيدة) ، ويكتفي بهذا النفي والإنكار ، فلا يقيم دليلا عقلياً ولا نقلياً على ما يقول، ولا يذكر مرجعاً  علمياً واحداً يوافقه على هذا الزعم، فهو في إنكاره هذا لا يجري  على الأسلوب العلمي، ولا على مقتضى قوانين البحث والمناظرة

، أما نحن فنسوق له هاهنا حديثاً صحيحاً مروياً في أكثر أمهات  كتب الحديث، هو الذي اعتمدنا عليه في تلخيص القضية التي  قال عنها إنها مدسوسة، والقصة التي جحد صحتها. جاء في الجزء  السابع من كتاب نيل الأوطار للإمام الشوكاني ص ٢٠:  باب القصاص في كسر السن، عن أنس أن الربيّع عمته كسرت  ثنية جارية، فطلبوا إليها العفو فأبوا، فعرضوا الأرش،  فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبوا إلا القصاص ، فأمر رسول الله بالقصاص، فقال أنس بن النضر يا رسول الله:  أتكسر ثنية الربيّع، لا والذي بعثك بالحق لا تُكْسَرُ ثنيتها ، فقال رسول الله: يا أنس، كتاب الله القصاص. فرضي القوم فعفوا.  فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم  على الله لأبره، رواه البخاري والخمسة إلا الترمذي)، هذا  الحديث الذي رواه البخاري، وذكر في كثير من كتب  الحديث الصحيحة - هو الذي أستندنا إليه في ذكر قضية الربيع ؛ فإذا أصرّ الأستاذ الحقوقي على أنها مدسوسة بعد هذا البيان  فليتبع في نفيها الطريقة العلمية والتدليل المقبول - إن استطاع  - بأن يوجه إلى الحديث الذي رواها نقداً داخلياً موجهاً إلى متنه ، أو نقداً خارجياً موجهاً إلى رواته، أو يذكر لنا على الأقل رأياً،  ولو لرجل واحد من أهل التعديل والتجريح يطعن في صحته.

ردنا على الوجه الثاني

 هنا كان عجبنا أشد، فإن الذي يعرض لتقرير قاعدة شرعية  ليرتب عليها أحكاماً - ينبغي أن يتثبت ويتحرى، ويرجع إلى  كتب الفقه الإسلامي، وهي كثيرة في مختلف المذاهب.

يقول الأستاذ: إن القصاص - كما هو معلوم - من  حقوق الله وليس من حقوق العبد، وحينئذ فليس لرسول الله  صلى الله عليه وسلم أن يضعه، كما أن رضا المعتدي عليه بالأرش  أو الدية لا يسقط القصاص عن الجاني. شُدهت لهذه القاعدة، ولما ترتب عليها من النتيجتين، وغلب

 على ظني أن الأستاذ الحقوقي يقرر القاعدة التي بني عليها القانون الجنائي  الفرنسي. وبعض القوانين الغربية. وأو أنه متأثر بها، فأراد أن  يطبقها على ما قررته الشريعة الإسلامية، فنأى عن الحقيقة،  وأخطأه التوفيق:

فإننا إذا رجعنا إلى كتب الفقه الإسلامي، وإلى القرآن الحكيم  الذي هو الأصل الأول لتلك الشريعة، وإلى الأحاديث الصحيحة  - أتضح لنا ثبوت هاتين الحقيقتين

الحقيقة الأولى - أن القصاص من الحقوق التي غلب فيها  حق العبد - كما صرح بذلك علماء الحنفية، وليس كما قال الأستاذ  الحقوقي إنه   (ليس من حقوق العبد)  - جاء في الجزء الرابع  من حاشية العلامة ابن عابدين المسماة رد المحتار على الدر المختار في  فقه الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان ص ٣٢٨ من كتاب القضاء    (أن المحكوم به أربعة أقسام: حق الله المحض، كحد الزنى  أو الخمر، وحق العبد المحض هو ظاهر، وما فيه الحقان وغلب  فيه حق الله تعالى، كحد القذف أو السرقة، أو غلب فيه حق  العبد كالقصاص، والتعزيز) ، نقل ذلك ابن عابدين عن الرسالة  المشهورة في فقه الحنفية المسماة الفواكه البدرية لبدر الدين محمد  الشهير بابن الغرس

الحقيقة الثانية - أن حق العفو المسقط للقصاص - في  الحالات التي يجب فيها القصاص. سواء أكان ذلك في النفس  أم في الجراحات والأطراف - مقرر في الشريعة الإسلامية لمن  له حق القصاص سواء أكان بلا مقابل، أم مقابل الدية  أو الأرش، هذا الحق ثابت بالكتاب الكريم، وبالحديث  الصحيح، كما أنه منصوص عليه صراحة في كتب فقهاء الإسلام: (١)  قال تعالى في سورة البقرة:   (يا أيها الذين آمنوا  كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر، والعبد بالعبد،  والأنثى بالأنثى، فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء  إليه بإحسان، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة) ، فحق العفو عن  القصاص ثابت بقوله جل شأنه:   (فمن عفى له من أخيه شئ  فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان)  قال جار الله الزمخشري في  كتابه الكشاف عند تفسير هذه الآية (هذه توصية للمعفو عنه  والعافي جميعا، يعني فليتبع الولي القاتل بالمعروف بالا يعنف

 به ولا يطاله إلا مطالبة جميلة، وليؤد إليه القاتل بدل الدم أداء  بإحسان بالا يمطله ولا يبخسه،   (ذلك)  الحكم المذكور من  العفو والدية   (تخفيف من ربكم ورحمة)  لأن أهل التوراة كتب  عليهم القصاص البتة حرم العفو وأخذ الدية، وعلى أهل الإنجيل  العفو، وخيرت هذه الأمة   (يقصد الأمة الإسلامية)  بين  الثلاث: القصاص والدية والعفو توسعة عليهم وتيسيرا) ١هـ،  ومثل ذلك في سائر كتب التفسير

 (ب)  ورد في الجزء الثاني عشر من فتح الباري بشرح  صحيح البخاري ص ١٧٥ عن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل  القصاص، ولم تكن فيهم الدية، فقال الله لهذه الأمة: كتب  عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر الآية، فمن عفى له من أخيه  شئ، قال ابن عباس: فالعفو أن يقبل الدية في العمد، قال فاتباع  بالمعروف أن يطلب بمعروف ويؤدي بإحسان. وورد الجزء  السابع من نيل الأوطار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:    (من قتل له قتيل فهو بين النظرين: إما أن يفتدي وإما أن  يقتل)  رواه الجماعة، لكن لفظ الترمذي: إما يعفو وإما أن  يقتل) ١هـ.

وعن أبي شريح الخزاعي قال: سمعت رسول الله صلى الله  عليه وسلم يقول: من أصيب بدم أن خبل، والخيل الجراح؛ فهو  بالخيار بين إحدى ثلاث: إما أن يقتص، أو يأخذ العقل،  أو يعفو، فان أراد فخذوا على يديه) رواه أحمد وأبو داود  وابن ماجه.

(ج)  أما النصوص الفقهية التي وردت في كتب الشريعة  الإسلامية في هذا الشأن فإنها تجل عن الحصر، منها ما جاء في  الدر المختار ورد المحتار في كتاب الجنايات، عند ذكر الفروق  بين القصاص والحد:   (يصح عفو القصاص لا الحد)  وجاء في  موضع آخر في مبحث الجنايات:   (ويسقط القود بموت

القاتل لفوات المحل، وبعفو الأولياء، وبصلحهم على مال  ولو قليلا،. . . إلى آخره) .

وجاء في بداية المجتهد لأبن رشد القرطبي في كتاب  القصاص: قال مالك لا يجب للولي إلا أن يقتص أو يعفو عن غير  دية إلا أن يرضى بإعطاء الدية القاتل، وهي رواية ابن القاسم عنه.  وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود وأكثر فقهاء المدينة من  أصحاب مالك وغيره: ولي الدم بالخيار إن شاء اقتص، وإن شاء  أخذ الدية رضي القاتل أو لم يرض، وروى ذلك أشهب عن مالك  إلا أن المشهور عنه هي الرواية الأولى).

أفبعد هذه النصوص الصريحة في أن القصاص يغلب فيه حق  العبد، وأنه يسقط عن الجاني - العفو أو أخذ الدية - يصح  أن يقال إن القصاص ليس من حقوق العبد، وأنه ليس لرسول  الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بسقوطه إذا اختار أولياء الدم  أو المجني عليه أخذ الدية أو العفو؟!! وهل يجوز أن يقال: إن  رضا المعتدي عليه بالأرش أو الدية لا يسقط القصاص عن الجاني  بعد ما سقناه من نصوص الكتاب والأحاديث، وآراء علماء  الفقه والتشريع الإسلامي؟!!

 لقد كنا ننتظر حقا من الأستاذ الحقوقي - قبل أن  يعترض - أن يبحث الموضوع في مصادره الإسلامية، ومراجعه  الفقهية، وأن يعرف الفرق الذي لحظه فقهاء الإسلام بين القصاص  والقطع في السرقة، فإن الأول يغلب فيه حق العبد؛ أما الثاني  وهو وجوب قطع اليد في السرقة بعد ثبوتها، فإنه حق الله  تعالى، ولذا لا يملك المسروق منه العفو بعد وجوب القطع  ولا يورث عنه، كما أنه لا يملك الخصومة بدعوى الحد وإثباته  مجرد عن طلب المال.

 هذه كلمة توخيت فيها الاعتدال والنصفة في البحث، والأمانة  في النقل، لا أبتغي بها سوى إحقاق الحق، والله الهادي إلى  سواء السبيل.

اشترك في نشرتنا البريدية