اقتراح بإنشاء (مجمع فكري) بمناسبة إنشاء وزارة الإرشاد
لعل أمة من الأمم سواء في التاريخ القديم أو الحديث لم تكن أحوج من مصر في يومها الحاضر إلى التوجيه والإرشاد القوميين - وليس ازدياد حاجتها لذلك نتيجة عيب أو نقص . ولكن كثرة ما توارثته من عناصر الحضارة واختلافها الشديد مع كثرتها في الوسائل والغايات؛ ولأنها وهي وسط بين أمم مختلفة المذاهب متباينة المشارب قد تشبعت فيها وجوه الرأي في حديثها مع تهيئتها بحكم اختلاف الوراثات لهذا التشعب واستعدادها لمرونتها إلى الأخذ من كل شيء بطرف
في مصر لا يزال أثر من وجوه النظر التركية إلى جانب آثار عميقة من التقاليد العربية وأخرى من العادات الفرعونية. وهي في اليوم الحاضر ملتقى ثقافات غربية متنوعة العناصر، وأخرى شرقية مختلفة الأصول. وبعض هذا وذاك قد تلقته من الآباء والأمهات والمصلحين، والبعض مدسوس عليها من المستعمرين والغاصبين والحكام الطاغين
وفي مصر دوامة من آراء وأحاسيس ومشاعر، ولقد بذلت في العصور الأخيرة محاولات تلقائية لا نقول من الزعماء ولكن دفع إليها الزعماء من إحساس باطن في الأمة إلى وجوب توحيد الهدف وتوحيد الوسائل إليه. ولقد استجاب إلى هذا الإحساس من أصاخوا إلى صوته في الضمائر أو سمعوه من أعالي المنابر أو من آثار الأقلام والمحابر. ولكن الاستجابة لم تكن شاملة ولا كاملة لانتشار الأمية ولأن الزعماء كانوا أحرص على الظهور بشخصياتهم منهم على بث المبادئ في البيئة
صيحة النهضة الحاضرة بالاتحاد والنظام والعمل إنما بدأت بما يجب البدء به نتيجة إحساس عميق بالافتقار إليه. وما احتاجت مصر إلى هذه الصرخة المدوية إلا لتعدد آثار الثقافات. واختلاف ألوان الحضارت، وإن شئنا الإنصاف فلتعدد ألوان الطامع واختلاف آثار المظالم أيضا
أدبنا العربي تراث عظيم الضخامة ولئن لم يرتو منه الكل بسبب انتشار الأمية فلقد تأثر به الكل كما تتأثر الأرض بالمياه
الجوفية. وفيه من المتناقضات لطول عهده ولأنه وإن كان أدب لغة واحدة فهو جماع آداب لأمم مختلفة في عصور متباينة تحت ظروف لا تكاد تتشابه. ولم ينقد هذا الأدب الطويل العريض نقدا مميزا
وأدب الأمم الأخرى المعاصرة نشأ في عهد أقرب وفي بيئات أكثر اندماجاً وظروف اكثر تشابها فلم تحتج كحاجتنا إلى التوجيه والإرشاد
ابتعدت الأمم الأخرى في عصورها القريبة عن محنة الاستعمار وتعدد المستعمرين واختلاف آثارهم - كل ذلك كون لكل دولة شخصية اكثر تماسكاً وأكبر استقلالاً. وتلك مزية فيهم والمزية كما يقولون لا تقتضي الأفضلية؛ ففينا مقابل هذه مزايا من عمق الأيمان. ومن الصبر والاطمئنان. ومن المرونة والاستعداد للتطور. ولكننا بما لنا وعلينا في حاجة أكبر إلى إلغاء أهداف وإلغاء وسائل. والتخلي عن آراء وهجر عادات ومحاربة تقاليد .والاندماج بعد ذلك في موكب واحد نحو هدف واحد
ذلك كان إحساس الأمة التي عبرت عنه بصيحتها في فجر نهضتها إذ تهتف قلوبها على ألسنة قادتها بالاتحاد والنظام والعمل
ولقد كان إنشاء وزارة جديدة للدعوة والإرشاد وسيلة لتحقيق هذا الاتحاد، لكنه ليس بمأمون مع ذلك أن تتشعب وتتفرع وتنداح وتنساح فكرة تبدو اليوم موحدة وتجري عليها سنة الخلق من توالد وتكاثر
وليست الوزارات بالعمل الذي ينشأ من أجل ليلة وضحاها، وإنما هي للغد البعيد وما يليه. وضمانا للتوحيد في كل ما تقدم مما اختلف على طول العصور يجمل أن توضح البرامج الواسعة النطاق - ما كان منها صالحا للتنفيذ اليوم وما كان منها منظما للآمال والغايات البعيدة
وسبيل ذلك التأليف بين رجال الفكر الدارسين ورجال الفن الحساسين. ونحسب هذا لا يكفل إلا بإنشاء الأكاديمية المصرية التي طال انتظارها (مجمع فكري) .
ومجمع اللغة العربية والمجمع العلمي لم يكونا إلا خطوتين في سبيل هذه الغاية. ووزارة الإرشاد خطوة ثالثة. وإنما ينظم هذه الخطوات مجمع من رجال الفكر يكون كل رجاله من المؤلفين والدارسين فهؤلاء أكفل لحياة الوزارة الجديدة من مديرين ووكلاء وموظفين. إن يكونوا اليوم بحكم جدة النهضة من لامس
أغراضها فإنهم في الغد لن يكونوا كسائر الموظفين
نحن ندعو إلى مجمع من مجامع الخالدين ليكون على رأس المصالح التي ضمتها الوزارة الجديدة
الإسكندرية

