الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1021الرجوع إلى "الرسالة"

Share

شكل الدولة في الدستور الجديد

تناظر فى هذا الموضوع أربعة من أقطاب الفكر يوم الثلاثاء الأسبق بالجامعة الشعبية , واحتشد لسماعهم بضعة الآف من الناس كانوا يشتركون فى المناظرة بقلوبهم  وعواطفهم , إذ الموضوع موضوعهم , ثم هو موضوع الساعة ! وقد انعقد إجماعهم - أو كاد - على الموافقة على الرأي القائل بان تكون الدولة جمهورية , ولهذا فقد كان صاحب الرأى الذى يرى أن تكون الدولة ملكية مضيفا حرجا , قالجمهور يعارضه فى كل قول , ويثور عليه فى كل رأى , وهو لا يتزحزح عن موقفه حتى انتهى كلامه وهو يصيح فى الحاضرين ( لكم دينكم ولى دين)

وكان الوقت المقسوم لكل من الأربعة المتناظرين نصف ساعة , فالتزموه ولم يعده واحد منهم , وعقب عليهم الدكتور منصور فهمى - ولم يكن له وقت مقسوم- فاستغرق فى تعقيبه ساعة ؛ وشارك الكثيرون فى مناقشة الموضوع , واشتد بالجمهور الحماس , وانهالت الأسئلة من كل صوب على المتناظرين , ولم تنته المناظرة إلا بعد اربع ساعات وكان المحدود لها ساعة ونصف ساعة فقط ! وكان مدير ها على الوجه الآتى :

نهض الأستاذ محمد علي علوبة فقال : لأول مرة نستطيع أن نجتمع لنناقش مثل هذا الموضوع الخطير الذي لم نكن نستطيع أن نمسه - ولو من بعيد - وفى العهود الماضية , ودلكم هو شعار عهدنا الحاضر , الدولة دولة الجميع , والوطن وطن الجميع , ليس لواحد فيه أكثر مما لأخيه , فلكل أن يبدى رأيه فى نظامه ودستوره وقوانينه التى سيؤخذ با جميع المواطنين على السواء

ولو ذكرتم التاريخ القديم للانسانية لوجدتم أن نظم الحكم فيها كانت نظماً أو توقراطية مسرفة , حيث كان يحكم الشعب فرد واحد لارأي إلا رأيه ولا هوى إلا هواه والشعب قطيع لا يملك من آمر نفسه شيئا !

واستمرت الشعوب على هذه الحال أزمانا طويلة , ثم بدأ الوعى يتسرب إليها رويدا رويدا , واخذت تنفض عن عيونها غبار هذا السبات الطويل , واشتد بها الوعي والإدراك , فطالبت بأن يكون إليها حكم نفسها , وأن تكون - دون سواها - مصدر كل السلطات

وصوت الشعوب قوى غلاب , لا تثبت أمامه قوة فرد وإن يكن من الجبابرة المردة , فتحقق لها ما طلبت , وصارت الأمم فى كل بقاع الأرض - إلا النادر القليل - مصدرا لكل أنواع السلطات فى أرضها , وصاحبة الكلمة العليا فى تصريف أمور بلادها , ونشأت هذه الكلمة السحرية , وسرت فى العالم , وأعنى بها كلمة ( الديمقراطية ) ونتج عنها نظام ( الملكية الديمقراطية ) ونظام ( الجمهورية الديمقراطية ) وكلا النظامين ... كما يبدو من اسمهما ... مقرون بصفة الديمقراطية ومقيد مها , لتضمن الشعوب بذلك أن تظل صاحبة السلطان

ولو رجعنا - فى مصر - إلى المائة سنة التي مضت فماذا نحن واجدون ؟

نجد أن الحكم كان عندنا إما أوتوقراطيا سافرا أو أوتوقراطيا يسنده شىء اسمه الدستور ! نجد أن " عرابى " يطلب إلى " توفيق " - فى تواضع - العدل ويطلب إليه البرلمان , فيجبه هذا الحاكم لمطلق بقرلته المشهورة : " كيف تجرؤ على هذا وأنتم عبيد إحساناتنا ؟". ونجد أن الجيش يطلب إلى " إسماعيل " ألا يستأثر الجنود الأجانب بالمناصب الكبيرة في جيش اليلاد و أن يشترك معهم الجنود المصريون فيها , فيأبي عليهم إسماعيل ذلك ؛ بل وينزل بهؤلاء المطالبين العقاب الأليم . ونجد هذه

الوحشية التي كانوا يسمونها ( الالتزامات ) ومعناها أن تباع القرى برمتها إلى ( ملتزم ) نظير مبلغ معين , ثم إذا بهذا ( الملتزم ) يلهب ظهور أهل القرية بالكرباج ليجمعوا له المال الذى يدفع منه نصيب الحاكم فى هذا " الالتزام ". هذه نماذج مما نجده في حكم الفرد منذ مائة سنة ، أما عهد فاروق فأرانى في غير حاجة إلى بسط القول فيه وهو مازال مائلا لأعينكم , ومن عجب أنه كانت تسنده طول مدة حكمه برلمانات لا أدري أهي حقاً برلمانات أم شركات ؟

أريد أن يستقر فى أذهاننا جميعا أن صلاحنا لا يكون بصلاح فرد وإنما يكون بصلاح المجموع , وأن يستقر فى أذهاننا أننا كنا دائما فى خلال هذه السنوات المائة شركاء فى المسؤولية , وأن هذه السنين كانت وبالا مستمرا وفساداً. دائما لهذه الأمة . إن الدين الإسلامى يا حضرات السادة - لايعرف الملكية , ويكفى دليلا على ذلك أن محمدا سيد الخلق لم يعين أحدا بعده ، وأن خلافة أبي بكر بعده إنما كانت بالبيعة وهى انتخاب , وكذلك كانت خلافة عمر وعثمان إلى أن صار ملكا عضوضا فضاعت هيبة المسلمين .. إن الدين الإسلامى يقرر أن الأمر شورى بين الناس ولذلك لا أستطيع أن أٌنصح إلا بالجمهورية

ثم أعقبه الدكتور وحيد رأفت فقال :- أعلم - قبل أن أتكلم - أن موقفى بينكم حرج شديد الحروجة ! لأنى سأنفرد برأى لا يقرنى عليه أحد من زملائي , وما أحسب أحدا منكم سيقرنى كذلك ! فكلمة " الملكية " مقرونة فى أذهانكم باسم " فاروق " وبئس القرين ! ولكن أرجو أن تعلموا أننا لانضع دستورا لليوم فقط ولكننا نضعه للأجيال القادمة أيضا : وليس كل الملوك فاروقا ، وفى الملوك - كما فى الناس جميعا - الصالح والطالح , وقد بقى النظام الملكي حتى اليوم فى بلاد عريقة كإنجلترا وسويسرا والنرويج , رغم أن الإنجليز شنقوا من ملوكهم واحدا وطردوا آخر ! وليس النظام الجمهورى

- كما يتصور البعض - ضمانا قاطعا من الظلم والطغيان ، فقد أدى فى أمريكا مثلا للدكتاتورية دائما ! إن حول رئيس الجمهورية الأمريكية وزراء ولكن لارأى لهم ولا وزن  لكلامهم ورأيه هو الأعلى دائما . وإن إلى جانب رئيس جمهورية فرنسا رئيس وزارة هو بمثابة دكتاتور فعلى للبلاد ، وإن الجمهورية فى فرنسا هي سبب الاضطرابات والقلاقل والهزات المالية التي تنتابها دائما . إنني لا أشير بغير النظام الملكى على ألا يكون فاسدا مفسدا كالذى رأيناه , فكيف نضمن ذلك ؟ إنكم مسئولون إلى حد كبير عن هذا الفساد الذى استشرى فى بلادكم , وكيفما تكونوا يول عليكم , وقد أعطيتم الملكية درسا قاسيا لن تنساه قرنا - على الأقل - من الزمان , ولن تكون الملكية طاغية فى مصر بعد اليوم

وأعقبه الدكتور مصطفى الحفناوى فقال:- من حق الشعوب - يا سادة - أن تختار لون الحكم لنفسها بنفسها مستندة فى ذلك على حقها فى الحرية والاستقلال وهو حق لا يسقط بالتقادم ولا يجوز أن يباشر بالإنابة , فما النظام الذى يختاره الشعب ؟ سواء عندنا أن يسمى رئيس الدولة ملكا أو رئيس جمهورية , ولكن يجب أن يكون الحكم ترجمة لشعور الأمة وضمانا لتوزيع العدل بين آحادها

ونحن لانستطيع أن نستند فى اختيار لون الحكم على سوابق الدول الأخرى , فالدساتير كالنبات ينمو هنا ويذبل هناك , وإذا أردنا الإبقاء على الملكية فمن يكون الملك ؟ أنبقى على هذه السلالة العلوية وإن الصالح لا يخرج من صلب الفاسد أبدا ؟ أنقدم التاج لهذه الأسرة ونكرر تجربة ذقنا منها الامرين مائة وخمسين عاما ؟ إن الأمر يجب أن ينتهي إلى الأمة فتنتخب هى رئيسها وتعزله إذا رأت منه اعوجاجا ، فيكون أمرها إليها لا إليه . ولذلك فلا أوصى بغير الجمهورية

ونهض على أثره الأستاذ إحسان عبد القدوس فتكلم فى بساطة وسهولة قائلا :-

تحكم مصر من عهد الفراعنة حكما ملكيا , فتأكد معنى هذا الحكم فى النفوس , وأصبح من الصعب إيجاد الحيال السياسي للتحرر من هذا المعنى . ومنذ عهد الفراعنة لم تحكم مصر بمصرى ومع ذلك فإن البعض يريد أن يفوت علينا هذه الفرصة الذهبية ويعيد إقامة ملوك ييدءون صالحين ثم ينتهون فاسدين ! وحجة هذا البعض أن الملكية نظام استقرار ؟ فأى استقرار هذا ؟ إنه الجمود و التحجر والوقوف عند مصلحة الملك . إنه استقرار للعرش ولذلك لا للشعب ولا لأبناء الشعب ..إن النظام الملكى هو سبب خلق نظام الطغيان فالملك يريد أن يكون إلى جانبه طبقة مثله يؤيد بها عرشه وينفذ بها رغباته ولن توجد هذه الطبقة إلا على أشلاء الطبقات الفقيرة البائسة . إنهم يسألون من يكون رئيسا للجمهورية ؟ كأن مصر قد عقمت عن أن يكون بها رجل يحل محل الطفل أحمد فؤاد ! لقد عملت استفتاء فى موضوع مناظرتنا الليلة ولاأذيع سرا إذا قلت إن الإجماع يكاد يكون منعقدا على تحبيذ الجمهورية فأنا لا أشير إلا بها جامعة الأمم العربية على ضوء فلسفة العهد الجديد واتجاهاته

فى السادسة من مساء الجمعة السابق اجتمع بقاعة يورث عدد من الناس لسماع محاضرة الدكتور محمد صلاح الدين وزير الخارجية الأسبق فى هذا الموضوع , وقد استغرق إلقاؤها ساعتين إلا قليلا كان المحاضر أثناءها يفيض بالحديث المدعم بالأرقام و الإحصاءات والتواريخ . كأنه يقرأ من كتاب مفتوح مع أن إلقاءه كان محض ارتجال ! ويمكن أن نلخص هذه المحاضرة القيمة فيما يأتى :-

لعل التعبير بجامعة " الأمم " العربية أولى من التعبير بجامعة " الدول" ,وأنتم تذكرون عصبة " الأمم " قديما وهيئة " الامم " المتحدة حديثا , وكلها هيئات قامت للدفاع عن الأمم وتنظيم العلاقات بين الشعوب . أما جامعة

" الدول " العربية فهى الهيئة التى أنشئت فى الشرق الأوسط من الدول السبع " مصر وسوريا ولبنان واليمن والعراق والأردن والمملكة العربية السعودية " للدفاع عن البلاد العربية جمعاء المشتركة منها فى الجامعة وغير المشتركة . وتم عقد ميثاقها - كما تعلمون - فى الإسكندرية سنة ١٩٤٥ بين تلك الأمم التى تربط بينها علاقات الجوار واللغة والدين والعادات والتقاليد وما إلى ذلك من علاقات تضرب فى بطون التاريخ إلى آماد سحيقة بعيدة . وقد وهم البعض أن هذه الجامعة إنما أريد بها أن تكون أداة ذلولا فى يد الإنجليز ينفذون بها مآربهم , ولكنها أثبتت أن هؤلاء جد واهمين ! فقد عملت جاهدة على استكمال السيادة لمن تنقصها السيادة من البلاد العربية , وحققت جاهدة كثيرا من الأغراض المشتركة بين البلاد العربية كالثقافة والسياسة والاجتماع والمواصلات والقوانين وسواها ، وذلك ليس من مآرب الإنجليز فى شىء ! ولكننا لسنا اليوم بصدد سرد أعمالها وجهودها فى الماضى فلذلك مقام آخر , وإنما نحن اليوم بصدد الحديث عنها الآن فى ظل هذا العهد الجديد .. كان الملك السابق يتدخل تدخلا سافرا فى أعمال الجامعة لمآرب يبغى تحقيقها لنفسه ، كان يبغى - كما كان أبوه يبقى من قبله - أن يكون خليفة المسلمين ! فكان يجمع الملوك وبوفد الوقود , يلقي بالتصريحات المملوءة بالحماس فى بعض القضايا العربية كما فعل مثلا فى قضية سوريا ولبنان ! ولكنه لم يكن ينظر فى ذلك جميعه إلا إلى شخعه . فلما عز عليه تحقيق مطالبه انقلب عدوا للجامعة وساءت العلاقات بينه وبين الكثير من الأسر الحاكمة فى البلاد العربية , وخفت صوت الحماس منه وكان قويا ! وبزوال فاروق زال هذا العصر الشخصى الذى كان يتدخل فى أعمال الجامعة , وصارت اجتماعاتها اجتماعات شعوب لا اجتماعات ملوك وأمراء كالتي كان يجمعها فاروق , وأسبغ العهد الحاضر ظلا وارفا من رعايته على الجامعة . وليس من عجب فى ذلك ،

فإن العهد الحاضر تربطه بالجامعة أسباب وأسباب , ( فلسطين ) هى أول حجر فى هذا العهد كما تعلمون وقائد الحركة قد حارب هناك وجرح , وقضية ( لأسلحه الفاسدة ) هى - كما تعلمون  أيضا - من الأسباب المباشرة لهذه الحركة ... لهذا كان طبيعيا أن نرى العهد الحاضر يحتضن الجامعة , و يحتضن قضايا الأمم العربية عامة فيهب هبة الليث الهصور لموقف ألمانيا من إسرائيل , ويأسو جراح المكلومين الشاردين فى غزة , فيسوق إليهم الغوث والعون فى " قطار الرحمة "!..

اشترك في نشرتنا البريدية