- 4 - (*) * تبليغ الرسالة : ان الفرد الممتاز يؤمن برسالة هيأته لها الحياة ، عليه أن يقوم بتبليغها الى المجتمع الانسانى الذى يعيش فيه ورسالته تشبه الى حد بعيد رسالة النبى المرسل وقد استنبط الشابي هذه الفكرة من تعمقه فى وظيفة الاديب والشاعر والمفكر في المجتمع وفي تفهم القرآن الكريم . وقد آمن الادباء العرب - قديما- بهذه الفكرة ولكنهم لم يعبروا عنها تعبيرا صريحا وقد بلورها شعراء الغرب وأدباؤه . ولا شك في أن الشابى قد استفاد ايضا من هذا المصدر الغربى وسعى في حياته وادبه الى تجسيم هذه الفكرة وجعلها واقعا ملموسا .
لقد كان يعتقد أنه انسان مهيأ ليقوم بهذه الوظيفة فقد بعث برسالة الى صديقه محمد الحليوى عبر له فيها عن هذه الوظيفة وخوفه من الموت قبل تحقيق تلك الرسالة وتبليغها : " انه لا يحزننى شىء فى هذه الدنيا أكثر مما يحزننى التفكير فى اننى أموت قبل أن أؤدى رسالة الدنيا التى أحس أننى لم أخلق لغيرها فى هذا العالم " (68)
وبناء على هذا الشعور بقداسة هذه الرسالة فان الشاعر اصبح يؤمن بضرورة تبليغها وضرورة تخطى العقبات لان الرسالة تحمل فى طياتها ثورة على واقع اعتقد الناس انه لن يتغير ولا يمكن تغييره لانه قدر مفروض وقضاء محتوم ليس للانسان رفضه ولا حتى محاولة تغييره وتطويره . واختلاف النظرة بين الفرد الممتاز وبين الجماعة يؤدى وجوبا الى الخلاف لان الجماعة تجسم " أشباح الموت وغيلان الماضي السارية فى اعماق الوادى وفي شعاب الجبل "
وأصواتها تمثل " صرخات اليأس وأصوات الابالسة " (69) هذه الجماعة ترفض السير وترضى بالقعود لانها لا تعرف غير القعود ، والانسان ابن عوائده.
وهذا الموقف السلبى الذى تمثله الجماعة يقابله موقف رفض وارادة ذلك ان الفرد الممتاز مطالب بطبيعته ووظيفته ان يكون قائدا وان يكون ساعيا مريدا وقد آمن أبو القاسم بهذه الوظيفة وعبر عنها بصراحة قائلا : " ان هاته الثورة التى تعصف من جوانب صدرى لا تهدأ ضجتها ولا يسكت هديرها ولا يخمد طغيانها العارم المريد ... " وهذا الموقف الثائر الرافض للسكون والسلبية يدفع بالفرد الممتاز الى أخذ فأس التحطيم والتهديم لاعادة بناء المجتمع وتشييده:
أيها الشعب ليتني كنت حطابا فأهوى على الجذوع بفأسي (70)
ويمكن ان نؤكد أن الفرد الممتاز لا يؤمن بالفشل البتة حتى وان وجد رفضا من الجماعة . انه فى تلك الحالة يتوجه برسالته الى الطبيعة (71) لان الطبيعة حية تدرك معنى الحياة وذلك شأن الفرد الممتاز :
فهو فى مذهب الحياة نبى وهو فى شعبه مصاب بمس (72)
* تحقيق القدر : اما الغاية الثانية التى على الفرد الممتاز أن يحققها هي أن يحقق قدره وان يكون خليفة الله فى الارض ولن يتسنى له ذلك الا اذا سعى الى اخراج ذلك القدر من حيز القدرة الى حيز الفعل . ولا شك في أن القدر فى تفكير الشابى هو قدر اسلامي لا يناقض الشريعة ولا يخرج عنها (73) لان الحرية التي منحها
الله تعالى للانسان هى حرية تمكنه من ممارسة ارادته وقدرته فى حدود امكانياته البشرية :
خلقت طليقا كطيف النسيم وحرا كنور الضحى في سماه
كذا صاغك الله يا ابن الوجود وألقتك في الكون هذى الحياه (74)
هذه الحرية التى صاغ الله عليها عبده تحتم عليه وجوبا أن يتصرف فيها وان يجسمها فى هذه الحياة وتجسيمها يمكنه من أن يكون مستحقا للقب خليفة الله فى الارض.
وهذه الحرية تحتم على الفرد الممتاز ايضا أن يرفض جميع أنواع القيود اجتماعية كانت او سياسية . وعليه ان يتصرف فى تلك الحرية بادراك وتحمل مسؤولية وبدون ذلك لا يمكن للفرد الممتاز أن يكون متقبلا وسلبيا ومنضويا بل عليه أن يكون رافضا وايجابيا ومستقبليا :
سأعيش رغم الداء والاعداء كالنسر فوق القمة الشماء (75)
وبما أن الفرد الممتاز قد جسم فعلا هذه الارادة - أو هو يحاول ويسعى الى تجسيمها ، فانه يكون بذلك قد جسم قدره لان الحياة لا تناقض هذا القانون بل هى تعلنه وتلعن من لا يؤمن به ومن لا يعمل على تطبيقه وقد عبرت الارض عن هذه الحقيقة :
وقالت لى الارض ، لما سألت : أيا أم هل تكرهين البشر ؟ :
أبارك فى الناس أهل الطموح ومن يستلذ ركوب الخطر (76)
ومن خلال هذا الموقف النابع من الطبيعة والحياة ازاء الفرد الممتاز فاننا نرى ان القدر فى نظر الشاعر لا يعدو أن يكون جوهر الانسان وكنهه فهو الطموح وهو لهيب الحياة :
وأعلن في الكون أن الطموح لهيب الحياة وروح الظفر ( 77 ) لقد استطاع أبو القاسم بفكره المتيقظ وبعد نظره أن يذكر المسلمين عموما والعرب خصوصا أن وظيفته فى الكون هي وظيفة حضارية انسانية فهو يدعوه ان يعى دوره ويفهم مكانته من الكون فهو رغم المصاعب عليه أن بسعى ليجسم ارادته ويحقق قدره وان يسود هذا العالم ، الا ان هذا التفكير الحر والتعبير عنه بأسلوب صريح وفتى جعل الشاعر يواجه اعراضا جماعيا ، اعراض عقلية متحجرة لا تميز بين قدر الله وهو قدر مطلق وبين قدر الانسان - أو قدرة الانسان - وهو قدر محدود يناسب طبيعة الانسان
* بلوغ الكمال: ان الفرد الممتاز فرد مدرك لمصيره ولذا وجب عليه أن يواجه حدود الممكن فيه وحدود المحدود وحدود المستحيل ، وعليه أن يرفض تلك المركبات التى نشد الانسان الى الحيوانية وتجعله عبد غرائزه وأسير شهواته ، وعليه أن يسعى لينمى حواسه ومداركه وعقله . وهذا المجهود الذي يبذله الفرد الممتاز هو الذي يبعده - شيئا فشيئا - عن المستوى الحيوانى السطحي ليتسلق سلم الانسانية الصعب . وواجب على الفرد الممتاز أن يسعى لتحقيق صفة الكمال . وهذا السعى يحتم عليه أن يواصل طريقه - رغم ما يعترضه فى تلك الطريق من صعاب وأشواك وعراقيل . لان شرف هذا الفرد لا يقاس بمدى ما يقطعه من هذه الطريق الطويلة بل بقدر تمرسه بتلك الصعاب وصبره عليها بل بكثرة محاولاته واصراره عليها . وكلما كانت الطريق مزروعة عراقيل واشواكا وكلما كان هذا الفرد ملحاحا كان شرفه . فواجب عليه اذن أن يكسب من عثرات الطريق قوى لا تهد بدأب الصعود . . فالانسان الحقيقى الذى يجسمه الفرد الممتاز انسان مجد مجاهد مؤمن ساع سعيا متواصلا فاعل فعلا خلاقا . . . وهو بذلك يندرج في بلوغ رتبة الكمال لاننا :
خلقنا لنبلغ شأو الكمال ونصبح أهلا لمجد الخلود ( 78 )
ان الانسان هو المخلوق الوحيد الذي فرض عليه أن يسعى . ورغ ذلك فكم هم قليلون الساعون نحو ذلك الافق البعيد المتباعد ، واذا صادف أن يبلغ الفرد الممتاز الى هذه الرتبة ألا يجعل ذلك الحصول على الرتبة فردا غربيا
من خصائصه السعى . فان كمل توقف السعى ! واذا كمل الا يجعله ذلك متصفا بصفة ليست له وهي صفة الكمال الذي يحتم عدم التحول وعدم الصيرورة واذن يحتم الخلود ؟ وهل يخلد الانسان فى الدنيا ومن طبيعته أنه يتحول ويصير ؟
ان الشابي عندما يصل الى هذا الحد من التفكير يصبح فردا اشكاليا فتضيع عنه السبل وتختلط عليه الانهج . لان الاتصاف بصفات الله تعالى تخرج الفرد الممتاز عن نطاق البشرية المحدود . لكنه سرعان ما ينتبه الى الامر فيتساءل :
ولكن اذا ما لبسنا الخلود ونلنا كمال النفوس البعيد
فهل لا نمل دوام البقاء وهل لا نود كمالا جديد ( 79 )
ان الفرد الممتاز فرد يحمل في ذاته خصائص الانسان العادى الا انه أشد منه ادراكا لواقعه وأشد وعيا لكينونته ومصيره ، ولكن هذه الافضلية لا تمكنه من التخلص من بشريته وتعويضها بالالوهية . وأبو القاسم يؤمن بوجود فاصل قاطع بين البشرية والالوهية ، وهذا يعود الى معتقده الاسلامي الذي يرفض التلبس بصفات الالوهية المطلقة رفضا قطعيا ، فتصرف الفرد الممتاز لا يمكن أن يكون خارج دائرته البشرية مهما كانت الظروف ومهما كان الطموح ومهما كانت الارادة والاندفاع . فنفس الفرد الممتاز اذن هى نفس غير عادية لكنها ليست نفسا لا محدودة بل عليها أن تعرف حدودها مسبقا عليها أن تعرف الميز بين الممكن والمحدود والمستحيل بل عليها أن تكون نفسا لا تسعى الى ما وراء الحدود حتى لا ينقلب سعيها وفعلها الى شقاء :
اذا لم يزل شوقها في الخلود فذاك لعمري شقاء الجدود ( 80 )
ولا يعنى أبو القاسم بذلك الاعراض نهائيا عن الشوق والمستحيل انما يعنى أن نعرف حدود بشريتنا حتى لا نتشبه بالله تعالى . وبذلك يكون الفرد الممتاز صاحب طبيعة غايتها " أن يكمل ويتكامل ويستكمل فصار كل شئ يطلبه ويتوقاه سببا الى كماله المعد له وغايته القصوى " ( 81 ) .
فغاية الجهد المبذول هي تحقيق المحاولة وفضل الفرد الممتاز هو ذلك السعى وبذلك يكون هذا الفرد صاحب ارادة الممكن لا ارادة المستحيل . وهذه الرؤية الشابية رؤية تتنزل في محيط اسلامي.
الخاتمة :
اننا حاولنا فى ما تقدم أن نبين جانبا لم يكشف عنه في شعر الشابي بينما اعتنى بأمور أخرى وجوانب معهودة واننا بهذه المحاولة نريد أن نوضح ان ادب الارادة قد دخل الى الادب العربى المعاصر عن طريق أبي القاسم وانه هو الذي مهد الى ظهور " الادب المريد من مؤلفات المسعدى " ( 82 ) وبذلك نستطيع ان نقر نشأة مدرسة تونسية لهذا النوع من الادب ، وبذلك نتمكن من الرد على الدكتور طه حسين الذى يرى فى كتاب " السد " ( 83 ) لمحمود المسعدى عملا مقلدا لسيزيف الباركامو ( 84 )
ان العمل الذى قدمه الشابى الى الادب العربي المعاصر يستحق كل تقدير لانه عمل أصيل جذوره التربة التونسية وجذعه الثقافة العربية الاسلامية وفروعه الانسانية ( 85 ) وهو بهذه المعاناة يكون قد شارك زعماء الفكر فى البلاد العربية الاسلامية فى الدعوة الى الجهاد والاجتهاد وتحقيق ارادة الانسان خليفة الله فى أرضه.
