اثر المرأة في نشأة الظرف
ج - على مستوى الذوق الادبى
- 4 - الذوق الادبي حاسة معقدة التركيب مزيج من فطنة ورقة شعور وطلاقة خيال واستعداد فذ للتأثر والانفعال ازاء مختلف مظاهر الحسن وصوره .
وهو فى شكله الناضج المكتمل لا يقنع بمجرد الاستحسان والتلذذ بالأثر الجميل ، فعملية التذوق الفني فهم دقيق لخصائص الاثر ومعايشة حميمة له تفاعلا معه وتجاوبا حتى كأن الاثر الفني ينبع أصلا من ذات المتذوق التحاما به واتحادا.. تناسبا وانسجاما ، وكأنه لسان حاله صدقا وأمانة . . شفافية وافصاحا .
ثم هو محاولة جادة لتحليل حالة الانفعال الفنى أو الطرب وتفكيكها بغية الوصول الى البواعث والجذور ، أى المبررات " الموضوعية " للتجربة الفنية فيتضح بذلك للمتذوق - بعد عملية الاختبار هذه لصدق تجربته وأصالتها - أن احساسه لم يكن خاطرا ذاتيا محضا مغرقا فى النسبية أقرب الى ضبابية الوهم منه الى الادراك النير البصير ، وان هناك لا محالة قاسما مشتركا أدنى يمكن أن تلتقى عنده النخبة من أهل الذوق وعشاق الفن
وتأتى أخيرا مرحلة التعبير والتقييم وهى منازل ودرجات على قدر حظ المتذوق من الوعى لتجربته الفنية والنفاذ الى صميمها ، غوصا وسبرا لاغوارها .. تفسيرا لها وتعليلا .
وبديهى أن مثل هذا الذوق المكتمل ، ومن أخص خصائصه النقد الذاتى ، لا يتوفر الا فى بيئة وافرة الحظ من الفنون والعلوم قد بلغت درجة عالية من الثقافة .
كان ذوق المرأة الحجازية حسا جماليا أصيلا أذكته هذه البيئة الجديدة المترفة اللاهية وصقلته الرواية والاتصال الوثيق بالشعراء والمغنين بحيث أصبح الشعر (والفن عامة) حاجة من حاجات النفس الجوهرية لارتباطه بأهم ما يشغل بالها ويقع فى الصميم من حياتها الخاصة أعني شؤون الحب والغزل ، " والنسيب " كما قال ابن قتيبة فى مقدمة كتابه الشعر والشعراء : " قريب من النفوس لائط بالقلوب لما قد جعل الله فى تركيب العباد من محبة الغزل والف النساء ، فليس يكاد يخلو أحد من أن يكون متعلقا منه بسبب ، وضاربا فيه بسهم حلال أو حرام . " (1)
كان الشعر الغزلي قريبا شديد القرب من نفس المرأة الحجازية قد تغلغل في كيانها حتى لم تعد تملك نفسها عن الالتذاد بالشعر الجيد الرفيع ، يستخفها الانفعال والطرب له فاذا هي ، رغم الموانع والضغوط الاجتماعية ، تفتتن بصاحب الشعر وتسعى جاهدة فى لقائه والتنعم بحديثه وفنه ، لا تصدها عن ذلك حتى حرمة الحج ولا قداسة المكان بل تجد فى الموسم فرصة سانحة لاشباع غريزتها وارضاء هواها .
يقول صاحب الاغاني : " حجت بنت لمحمد بن الاشعث ... وكانت معها أمها ، وقد سمعت بعمر بن ابي ربيعة ، فأرسلت اليه فجاءها ، فاستنشدته فأنشدها :
تشط غدا دار جيراننا وللدار بعد غد أبعد
قال : وقد كانت لما جاءها ارسلت بينها وبينه سترا رقيقا ، تراه من ورائه ولا يراها ، فجعل يحدثها حتى استنشدته ، فأنشدها هذه القصيدة ، فاستخفها الشعر فرفعت السجف ، فرأى وجها حسنا فى جسم ناحل ، فخطبها وأرسل الى أمها بخمسمائة دينار ، فأبت وحجبته ، وقالت للرسول تعود الينا . فكأن الفتاة غمها ذلك فقالت لها أمها : قد قتلك الوجد به فتزوجيه ، قالت : لا والله لا يتحدث أهل العراق خلفي أني جئت ابن أبى ربيعة أخطبه ، ولكن ان أتاني الى العراق تزوجته . .،، ( 2 )
فالشعر ، كما رأينا ، قد يوجه حياة المرأة ويتحكم فيها تحكما قاهرا لا يدفع ، كما انه قد يتوقف عليه أحيانا مصير الحياة العاطفية للمرأة اذ هي تجد فيه جوابا لتساؤلها وحيرتها .. صورة لموقف حبيبها منها ومقياسا لمنزلتها عنده ، تصغى الى الشعر فتستشف منه دقائق احساس صديقها وحقيقة حاله .
جاء فى الاغاني : " أن الحارث بن عبد الله بن عياش بن ابى ربيعة قدم للحج ، فأتاه ابن أبى عتيق فسلم عليه وأنا معه ، فلما قضى سلامه ومساءلته عن حجه وسفره قال له : كيف تركت أبا الخطاب عمر بن أبى ربيعة ؟ قال : تركته في بلهنية من العيش ؛ قال : واني ذلك ؟ قال : حجت رملة بنت عبد الله بن خلف الخزاعية فقال فيها :
اصبح القلب في الحبال رهينا مقصدا يوم فارق الظاعنينا
قلت : من أنتم فصدت وقالت أميد سؤالك العالمينا
نحن من ساكنى العراق وكنا قبله قاطنين مكة حينا
قد صدقناك اذ سألت فمن أنســ ــت عسى أن يجر شأن شؤونا
قال فبلغ ذلك الثريا ، بلغتها اياه أم نوفل - وكانت غضبي عليه ، وقد كان انتشر خبره عن الثريا حتى بلغها من جهة أم نوفل - وانشدتها قوله :
أصبح القلب في الحبال رهينا مقصدا يوم فارق الظاعنينا
فقالت (أى الثريا) : انه لوقاح صنع بلسانه ، ولئن سلمت له لاردن من شاوه ، ولاثنين من عنانه ، ولا عرفنه نفسه . فلما بلغت الى قوله :
قلت : من أنتم فصدت وقالت أمبد سؤالك العالمينا
فقالت : انه لسأال ملح ولقد أجابته ان وفت . فلما بلغت الى قوله :
نحن من ساكنى العراق وكنا قبله قاطنين مكة حينا
قالت : غمزته الجهمة ، فلما بلغت الى قوله : قد صدقناك اذ سألت فمن أنت عسى أن يجر شأن شؤونا .
قالت : رمته الورهاء بآخر ما عندها فى مقام واحد . وهجرت عمر ،،(3)
والجدير بالملاحظة بروز ظاهرة المراسلة الشعرية ، فلقد كانت بعض القصائد رسائل غرامية تستمال بها القلوب النافرة ، أو تكون شفيعا لدى النفوس الناقمة الغضبى ، فترضى بعد سخط وتدنو بعد الهجر والجفاء ، وقد غلبتها روعة الشعر وسحر البيان
كان عمر بن ابي ربيعة يهوى كلثم بنت سعد المخزومية ، فأرسل اليها رسولا فضربتها وحلقتها وأحلفتها أن لا تعاود . ثم أعادها ثانية ، ففعلت بها مثل ذلك ، فتحاماها رسله . فابتاع أمة سوداء لطيفة رقيقة ، وأتى بها منزله فأحسن اليها وكساها وآنسها ؛ وعرفها خبره وقال لها : ان أوصلت لى رقعة الى كلثم فقرأتها فأنت حرة ولك معيشتك ما بقيت ... فأخذتها ومضت الى باب كلثم فاستأذنت ... وأعطتها الكتاب فاذا أوله :
من عاشق صب يسر الهوى قد شفه الوجد الى كلثم
رأتك عينى فدعانى الهوى اليك للحين ولم أعلم
قال : فلما قرأت الشعر قالت لها : انه خداع ملق ، وليس لما شكاه أصل . . " (4)
كان الشعر بالنسبة الى المرأة الحجازية مادة الانس والسرور ، كان تعبيرا عن أشواقها وأراحها ، وكان فوق ذلك قوتا لروحها.. سندا ترجع
اليه فى تصرفاتها وتواجه به مصاعبها ومشكلاتها ، تتمثل به عند الحاجة الملحة والموقف الحرج فتستبين حقيقة حالها وتنفس عن كربها الى حين(5) أو هي تستعيد ثقتها بنفسها وقد أفادت منه (أعني الشعر) ثباتا ومنعة في سلوكها وسدادا فى وجهتها .
يقول أبو الفرج : " قدمت امرأة مكة ، وكانت من أجمل النساء ، فبينا عمر بن أبى ربيعة يطوف اذ نظر اليها فوقعت فى قلبه ، فدنا منها فكلمها فلم تلتفت اليه . فلما كان فى الليلة الثانية جعل يطلبها حتى أصابها فقالت : اليك عني يا هذا ، فانك فى حرم الله وفي أيام عظيمة الحرمة ! فألح عليها يكلمها حتى خافت أن يشهر بها . فلما كان فى الليلة الاخرى قالت لاخيها : اخرج معى يا أخي ، فأرنى المناسك فانى لست أعرفها ، فأقبلت وهو معها فلما رآها عمر اراد أن يعرض لها ، فنظر الى اخيها معها فعدل عنها ، فتمثلت المرأة بقول جرير :
تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقى صولة المستأسد الضارى " (6)
وقد يبلغ تمكن المرأة من الشعر حذقا لروايته ويصل بمغزاه مبلغا فاذا هي تحسن الاستشهاد به فى موضعه الانسب وتستخدمه اداة للتعبير تلمح به عن مقاصدها الخفية فى لباقة وكياسة ، لا تثنيها عن ذلك هيبة صاحب المجلس وحرمته ولو كان خليفة .
جاء فى الاغاني : قال أبو سعيد مولى فائد ... قال : فمات عنها (أى الثريا) سهيل أو طلقها ، فخرجت الى الوليد بن عبد الملك - وهو خليفة بدمشق - فى دين عليها ، فبينا هى عند أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان ، اذ دخل عليها الوليد فقال : من هذه ؟ فقالت : الثريا ، جاءتني أطلب اليك فى قضاء دين عليها وحوائج لها ؛ فأقبل عليها الوليد فقال : أتروين من شعر عمر بن أبى ربيعة شيئا ؟ قالت : نعم ، أما انه يرحمه الله كان عفيفا ، عفيف الشعر ، أروى قوله :
ما على الرسم بالبليين لو بيــــ ــــن رجع السلام أولو أجابا
فالى قصر ذى العشيرة فالطـــــ ــــائف أمسى من الانيس يبابا
اذ فؤادى يهوى الربابا وانى الد هر حتى الممات أنسي الرباب
وبما قد أرى به حي صدق ظاهرى العيش نعمة وشبابا
وحسانا جواريا خفرات حافظات عند الهوى الاحسابا
لا يكثرن فى الحديث ولا يتــــ ــــبعن يبغين بالبهام الظرايا
فقضى حوائجها وانصرفت بما أرادت . فلما خلا الوليد بأم البنين قال لها : لله در الثريا ! أتدرين ما أرادت بانشادها ما أنشدتني من شعر عمر ؟ قالت : لا : قال : انى لما عرضت لها به عرضت لى بأن أمي أعرابية . . " (7)
ولعل مما زاد المرأة (والناس عامة) اهتماما بالشعر الغزلي وكلفا به ، فتهالك عليه فى شغف واندفاع تيسر السبيل اليه فلم يعد الناس يقتصرون فى تحصيله على مجرد الحفظ والرواية ، وانما أصبح بوسعهم مدارسة الشعر واستيعابه بفضل الكتابة ، فازداد الشعر بذلك سيرورة وذيوعا وتضاعف تأثيره وسلطانه على النفوس .
يقول ابو الفرج : " ... حدثتني ظبية - مولاة فاطمة بنت عمر بن مصعب - قالت : مررت بجدك عبد الله بن مصعب ، وأنا داخلة منزله وهو بفنائه ، ومعنى دفتر فقال : ما هذا معك ؟ ودعانى فجئته وقلت : شعر عمر بن ابي ربيعة ؛ فقال : ويحك ! أتدخلين على النساء يشعر عمر بن ابي ربيعة ؟ ان لشعره لموقعا من القلوب ومدخلا لطيفا ، لو كان شعر يسحر لكان هو ، فارجعي به ، قالت : ففعلت " (8)
ويستفاد مما تقدم ذكره من عوامل ساعدت على نشأة الذوق الادبي عند المرأة : من حس جمالي فطرى ، ونشأة مترفة ، وتحصيل للثقافة الشعرية (9)
( والاخبارية ايضا ) عن طريق الرواية والاتصال بالشعراء والمغنيين ، ومن اهتمام بالغ بالشعر (10) وكلف شديد به ، وأخيرا من مداخلة الشعر لحياة المرأة الخاصة الى حد الالتصاق بها والهيمنة عليها ... يستخلص من كل هذا أهلية النساء الحجازيات الاديبات للنظر فى الشعر عن بصيرة وتفهم ، وقدرتهن على المشاركة بجدارة فيما يدور من حوار أو نقاش حول شعر الشعراء للموازنة والمفاضلة بينهم لا سيما وقد كان بين هذه النخبة من يقرض الشعر ويجيده على أنـهن قلة أفراد معدودون ( مثلا سلامة وحبابة ...) (11)
على أننا لم نجد بين أولائك الاديبات الحجازيات من عبرت عن ذوقها بأحكام أو ملاحظات سوى سكينة بنت الحسين وقد روى لنا كتاب الاغاني أخبار مواجهتها للشعراء " بالنقد " والتجريح وانتصابها حكما بينهم يرجعون اليه لبصرها بالشعر .
ويمتاز تقييمها للشعر بكونها تصدر فى حكمها عن معيار ذوقي (12) مستلهم من تصور خاص للنفس البشرية ولطبيعة تجربة الحب ، لا على وجه الاطلاق والعموم ، وانما حسب خبرتها الشخصية فى محيطها الاجتماعى وحدود عصرها .
وبعبارة أخرى فهى تستوحى أحكامها بالرجوع الى نموذج الانسان العربى كما يتجلى فى عصرها .. الانسان العربى السوى التام بما ينبغي له من رجولة وأخلاق وأدب وذوق ، وقد توسط بين غلظة البداوة وجفائها وميوعة بعض الحضر وتخنثهم .
لهذا نراها قد عابت - استنادا الى هذا المنطلق الاجتماعى الانسانى معا - على بعض الشعراء الغزلين فقدان الجرأة والاندفاع فى شعره الغزلي لغلبة الحياء والتحفظ عليه مما أورث أشعاره فى بعض الاحيان ضعفا وفتورا .
"... اجتمع فى ضيافة سكينة بنت الحسين ( عليه السلام ) جرير والفرزدق وكثير وجميل ونصيب ... فمكثوا أياما ، ثم أذنت لهم فدخلوا عليها ، فقعدت حيث تراهم ولا يرونها وتسمع كلامهم . ثم أخرجت وصيفة لها وضيئة قد روت الاشعار والاحاديث فقالت : أيكم الفرزدق ؟ فقال لها : ها أنا ذا ؟ قالت : أنت القائل : ... قال : نعم . ثم دخلت على مولاتها وخرجت فقالت : أيكم جرير ؟ قال : ها أنا ذا . فقالت : أنت القائل :
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا حين الزيارة فارجعي بسلام
تجرى السواك على أغر كأنه برد تحدر من متون غمام
لو كان عهدك كالذى حدثتنا لوصلت ذاك وكان غير لمام
انى أواصل من أردت وصاله بحبال لا صلف ولا لوام
قال : نعم . قالت : أولا أخذت بيدها ، وقلت لها ما يقال لمثلها ، أنت عفيف وفيك ضعف .. " (13)
وقد تطغي رقة الاحساس على بعض الغزلين ويبلغ الضعف فى نفوسهم مبلغا يؤول بهم الى الانحراف عن سنن الرجولة الحق فتنقلب عاطفتهم الى حب ضارع ذليل أقرب الى الاستخذاء والعبودية . يقول صاحب الاغاني :
".. اجتمع بالمدينة راوية جرير وراوية كثير وراوية نصيب وراوية الاحوص ، فافتخر كل رجل منهم بصاحبه وقال : صاحب أشعر . فحكموا سكينة بنت الحسين بن علي ( عليهما السلام ) لما يعرفونه من عقلها وبصرها
بالشعر ، فخرجوا يتهادون حتى استأذنوا عليها ، فأذنت لهم فذكروا لها الذي كان من أمرهم ،.... ثم قالت لراوية الاحوص : أليس صاحبك الذى يقول :
يقر بعينى ما يقر بعينها وأحسن شىء ما به العين قرت
فليس شىء اقر لعينها من النكاح أفيحب صاحبك أن ، ... ثم قالت لراوية نصيب :
أليس صاحبك : الذي يقول :
أهيم بدعد ما حييت فان امت فوا حزنا من ذا يهيم بها بعدى ؟!
فما رأى له همة الا فيمن يتعشقها بعده ، قبحه الله وقبح شعره ، ألا قال :
أهيم بدعد ما حييت فان أمت فلا صلحت دعد لذى خلة بعدى " (14)
ويتصل بهذا التصور لنفسية المحب كما ينبغى أن تكون فتوة وكياسة نظرتها الى الحب ، فالحب الحق عندها جد اعظم الجد وأخطره لما يتصف به من قوة وعمق وهيمنة على الكيان أجمع ، وتوق ظامئي الى الكمال فاذا هو مغامرة مأسوية .. تجربة روحية فيها شىء من قداسة الدين وعظمته وجلاله ، ولا يخفى ما فى هذه النظرة المثالية من مغالاة وشذوذ ، فمثل هذه الصورة من الحب لا تتحقق الا نادرا وقلما تتجسد طبقا لخيال الشعراء ، على أن الشاعر الحق هو من يضفى على الواقع .. واقع الحب والوجود جمالا ( وهنا جوهر الشعر وسحره ) يسمو بهما فوق حقيقتهما الواقعة ، وهو ما يفهم ضمنيا ويستشف من خطاب سكينة لجميل بثينة وتعليقا على شعره .
" .. وخرجت ( الوصيفة ) فقالت : يا جميل ، مولاتى تقرئك السلام ، وتقول لك : والله مازلت مشتاقة لرؤيتك منذ سمعت قولك :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادى القرى انى اذا لسعيد
لكل حديث بينهن بشاشة وكل قتيل عندهن شهيد
جعلت حديثنا بشاشة وقتلانا شهداء ... " (15)
ويتجاوز تقييمها أحيانا الاستحسان النظرى المجمل فيتناول النص بالتعديل والتصويب فتوفق توفيقا يتمثل فى حسن اختيارها للكلمة الانسب والاقوى دلالة وايحاء مما يدل على رقة احساسها وسلامة ذوقها .
" ...ثم قالت لراوية الاحوص : أليس صاحبك الذى يقول
من عاشقين تراسلا وتواعدا ليلا إذا نجم الثريا حلقا
باتا بأنعم ليلة وألذها حتى إذا وضح الصباح تفرقا
قال : نعم . قالت : قبحه الله وقبح شعره ، ألا قال : تعانقا " (16) على أن هذه النظرات والملاحظات محدودة القيمة منقوصة الجدوى لانها جاءت في اطار غير محكم وبنيت على غير أساس ، فلقد أصدرت سكينة احكامها التى قضت بها بين الشعراء ، فزكت هذا وغضت من شأن ذاك ، بناء على أشعار من اختيارها هى وحدها ، ولا يخفى ما فى هذا من تعسف واستبداد وانسياق مع العاطفة واستسلام الى الآراء السابقة ، فالاختيار - أى اختيار - مهما يكن سليما موفقا لا يمكن ان يعطى صورة أمينة تامة من شعر الشاعر ، ومن العبث والمحال أن نحكم لشاعر أو عليه اعتمادا لبيت أو أبيات فتكون هذه النماذج المعدودة بمثابة المرجع الحاسم والمستند الاخير فى قضية الجودة والابداع (17) وثمة شىء آخر يؤكد طابع الاستبداد والتعصب والانسياق الجامح مع العاطفة فى " نقد " سكينة هو اقتصارها على الغزل لا تعدوه فى قضائها بين الشعراء ، فكأن الغزل هو الشعر كله ولا شعر سواه ، وفي هذا الموقف خطأ فى تصور الشعر وتحريف لحقيقته واستهانة بأغراض أخرى هى من صميم الشعر ، فلابد اذن ان ينظر فى فنون الشعر
جميعا بعين العدل والانصاف لا اعتبار الا لما هناك من جوهر الفن ومن شاعرية حق قد نجدها فى الرثاء كما نجدها فى الغزل ، وقد تتوفر فى الوصف مثلما تتوفر فى الهجاء .
وهذا الموقف بالذات من سكينة بنت الحسين هو الذى دعاها الى تفضيل جرير على الفرزدق تفضيلا مطلقا باتا ، معتمدة فى ذلك الغزل وحده (ومن المعلوم المتعارف أن جرير أغزل عامة من الفرزدق ) ولم تترك للفرزدق المسكين حق الدفاع عن نفسه والانتصار لشعره ، تجبرا منها واستبدادا .
جاء فى الاغاني :".. أن الفرزدق خرج حاجا ، فلما قضى حجه خرج الى المدينة ، فدخل على سكينة بنت الحسين (عليه السلام) مسلما . فقالت له : يا فرزدق : من أشعر الناس ؟ قال : أنا . قالت : كذبت ، أشعر منك الذى يقول :
بنفسى من تجنبه عزيز على ومن زيارته لمام
ومن أمسى وأصبح لا أراه ويطرقني اذا هجع النيام
فقال : والله لئن أذنت لى لاسمعنك أحسن منه . قالت : لا أحب فاخرج عني . ثم عاد اليها من الغد فدخل عليها . فقالت : يا فرزدق ، من أشعر الناس ؟ قال : أنا . قالت : كذبت ، صاحبك أشعر منك حيث يقول :
لولا الحياء لهاجنى استعبار ولزرت قبرك والحبيب يزار
... فقال : والله لئن أذنت لى لاسمعنك أحسن منه ، فأمرت به فأخرج ثم عاد اليها فى اليوم الثالث ، وحولها مولدات كأنهن التماثيل . . فقالت :يا فرزدق ، من أشعر الناس ؟ فقال : أنا . فقالت : كذبت ، صاحبك أشعر منك حيث يقول :
ان العيون التى فى طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله أركانا
فقال : يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ان لى عليك حقا عظيما ، ضربت اليك من مكة ارادة السلام عليك ، فكان جزائى منك تكذيبى ومنعى من أن أسمعك ... " (18)
ومرد هذا الخلل فى التقييم الى النظرة الجزئية التى تعلق بالدقائق والتفاصيل وتكاد تلخص انتاج الشعراء تجريدا له وابهاما فى بعض المزايا والعيوب وتحصره فى جملة من النماذج الشعرية ، فتغفل بذلك خصوصية كل شاعر وهى صميم شاعريته وقوامها وعنوان طرافته وأصالته ، وهي السمة التى تجعل من شعره أثرا فريد نوعه لا يمكن بحال أن يحل محله أو يغنى عنه لون آخر من الشعر ، مهما تكن قيمته الفنية ، وذلك لما امتاز به من اسلوب وخيال ولون ومذاق وموسيقى وجو نابض حى يؤلف بينها جميعا روح يسرى فى تضاعيف أبياته نلمسه فى القصيد ، كما نلمسه فى البيت الواحد أو البيتين ، ونجد صدى منه فى الالفاظ فى جرس الحروف فى النغم والايقاع ولولا هذه السمة لانعدم معنى الشعر ولما كان هناك مبرر لوجوده .
وبديهى انه لا يهتدى الى الخصوصية الحق الا بفضل الاستقصاء فى البحث والشمول والتزام التجرد والموضوعية وتحرى النزاهة والانصاف ، وهي خلال لا يمكن أن تنشأ الا في بلد بلغ شوطا بعيدا فى طريق الحضارة ونشطت فيه الحركة الفكرية أيما نشاط واكتمل نضج الثقافة فيه ، وذاك شأن العراق فى عهد العباسيين .
