الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "الفكر"

المثقف التونسي والمرحلة الراهنة

Share

يحتل المثقفون في مسيرة تقدم الشعوب ، مكانة بارزة وذلك بتوجيهها الوجهة الصحيحة وازاحة أشباح المخاطر والحواجز من أمامها ؛ فالمثقف بجانب الباحث المختص والعامل بالساعد والفكر ، يطفو على سطح الشواغل والمخططات ليقوم انجازات الحاضر ويتوقع متطلبات المستقبل ؛ وهو بهذا العمل غير مميز عن الآخرين بل ان جهده يتدخل فى هذه المرحلة ليدعم جهود الآخرين أو ليناقضها معللا مواقفه ومدافعا عنها .

ولقد انجب المجتمع التونسى ، قديمة وحديثه ، ثلة من المثقفين الذين تجاوزوا اطار شغلهم ومصالحهم ليصدحوا بآرائهم ويصوغوا مواقف دون خجل أو تردد ، ومن أولئك ابن خلدون الذي قضى حياته ينتقل من بلد الى آخر فرارا من السلطة وبحثا عن القرار ؛ واثناء هذا الرحيل المضنى وضع مؤلفه " كتاب العبر " الذي اتى تصورا موضوعيا لاوضاع الماضى وتوقعا لعلامات المستقبل ؛ وظل هذا المجهود الفكرى مرجعا للاهتداء بالتاريخ والسنن المحرك له ؛ وكذلك كان شأن ابن أبى الضياف الذي لم يمنعه وضعه فى الحاشية وقربه من السلطة من ان يقترح نمطا سياسيا لنظام المجتمع اعصر من اساليب الحكم الفردى للبايات ، وكان ايضا داعية الى قيم حضارية جديدة قائمة على العمران والعدل ظل من ينطق بها فى عصور عديدة عرضة للاضطهاد والردع ؛ ومن اولئك ايضا خير الدين التونسي الذي انتدبته سلطة الحكم في القرن التاسع عشر ولكن بعد ان تحقق لا الوعى بالحضارة الغربية عمل على ارساء المؤسسات التربوية والعلمية الحديثة فانجبت خيرة ابناء تونس الذين جاهدوا فى تحريرها من الاستعمار ودعا خبر الدين فى " كتاب اقوم المسالك " الى الاخذ بقواعد الحكم الشورى وأسباب التقدم ، ولا ننسى كذلك النقابى " محمد على الحامي" الذي انطلق من وعيه الفطرى بفظاعة الاستغلال لتركيز وعيه على اساس مطمح جماعي تحمل من أجله الويلات واجبر على التوجه الى المنفى حيث مات مخلصا لمبادئه ؛ وسيشكل الطاهر الحداد نموذجا راقيا فى خدمة

اوضاع المجتمع التونسي والتنبيه الى سلبياته واقتراح حلول عملية ظلت اصداؤها قائمة منيعة الى أيامنا هذه وقد عانى الاضطهاد الفكرى والمضايقات الى ازمات متاثرا بذلك . . وتطول القائمة فى ذكر المثقفين التونسيين الذين ناضلوا من اجل ارساء قيم جديدة وفضحوا الاوضاع المتعفنة .

وفى المجتمع التونسى الحالى مثقفون أيضا وهم اصناف فمنهم المثقف الذي يعلن لك انهزامه أمام حركية المجتمع لان لا امكان ولا دور له فى ذلك ، ويخفى فى هروبه وراء بعده على السلطة أو فداحة هفوات الآخرين وتواطؤ المجتمع معها وينسحب من امامك ضاربا عرض الحائط بكل محاولات الجدال والتوضيح ، فقد طلق هذا الصنف الحياة وركن الى الامر الواقع كما يتصوره ، ومنهم المثقف الذى يهب عكس ذلك رأسما اطارا قاتما للماضى والحاضر والمستقبل . مستعملا في ذلك مصطلحاته وأساليبه المنهجية والبلاغية ، واذا ما حدثته عن التطبيق قال لك: إنه بامكان الخروج من الحاضر الى ما بعده بقرار واحد أو بتصور معين وهذا النمط لا يعتقد فى ان التاريخ حلقات متماسكة بل التاريخ قفزات متقطعة الواقع وهذا النموذج يتبرأ منه المسالم للحياة والراغب فيها حتى آباء اليسار فقد ارفضوا عنه ولقبوه بانه اخطر من اقصى اليمين المتصلب ؛ وقد تدل التجارب فى ممارساته انه لا يقدر على تحقيق القليل النادر مما يروم تحقيقه وبجانب هؤلاء يوجد " المثقف الهامشى " الذي يختلف عن الانهزامى فى اقباله بعض الاقبال على العمل ولكنه لا يتجاوز مدار الحلقة للدخول الى الجوهر والزحام ؛ وهو يكتفى بارتجال التعاليق فى ركن مقهى ، وقد يتأثر ذوو النوايا الصادقة بتصوراته ويتحمسون لها بين هذه النماذج من المثقفين تصغر منزلة " المثقف المسؤول " الذي نتطلب منه الاوضاع الالمام بكل الجوانب ، من سلبيات وايجابيات والخروج بالتصور الملائم لكل مرحلة مع عدم تنازل عن المبدأ وتقدير شروط وحدود الجدل من احترام للطرف المقابل وصيانة المصلحة العامة مهما كانت خطورة المسألة . والواقع ان هذا النموذج يقل مثله فى المرحلة الراهنة فى بلادنا بل فى العالم العربى ، ذلك ان الاصلاح بالكلمة امام المثاليين والقفزويين يعتبر اجراما يتطلب التنديد به واضطهاده .

علامات المرحلة الراهنة

المرحلة الراهنة التى نقصدها هى المرحلة التى تلت احداثا اجتماعية

وسياسية خطيرة فى حياة مجتمعنا وامنه وانسجامه وقد ادى بعضها الى تغيير على رأس الحكومة وعلى مبادرتها باتخاذ مواقف عديدة ، ولعلنا يمكن ان نلخص ظواهر الحاضر فى المسائل التالية :

- قبول حل وضع التمثيل النقابى : وذلك بتشكيل هيئة نقابية عليا تمثل كل الاتجاهات المتبلورة فى النشاط النقابى ، ومن اهداف هذه الهيئة الاشراف على انتخابات نقابية ديمقراطية ينبثق عنها مكتب تنفيذ يسهر على تسيير العلاقة بين العمال والاعراف والهيئات المديرة للمؤسسات القومية وهذا الوضع ذو ابعاد كبرى لانه سيضع حدا لقطيعة او تكاد ما بين العمال وأصحاب وسائل الانتاج والصعوبات التى وجدتها الحكومة لايجاد حل مرضى للوضع ، ولكن العلامة الاساسية التى نأمل ان نتوفر فى المناخ النقابى القادم هو ان لا تسقط النقابات - فى احترام قاعدة الانتخاب الديمقراطى - تحت تأثيرات فئات ايديولوجية متطرفة همها الاساسى انشاء الكتل الحزبية والسياسية اكثر من مناصرة حقوق العمال . ان الهيكل النقابي السليم هو الذى يساير الظرف التاريخي الدقيق ويجنب مزالق المغامرين وعشاق الانتحار ارضاء لتصلب المواقف

- الطلبة والدعوة الى الحوار : ان الطلبة يمثلون جزءا من كيان الامة لا يستهان به وان كانت الحياة الطالبية - نفسانيا - فترة تعتبرها اسباب ومفاهيم للواقع معينة ، ومع ذلك فقد دعى الطلبة الى حوار لتنظيم حضورهم القومى ضمن منظمتهم الشرعية التى بتدعيمهم لها يمكن لهم ان بعبروا عن آرائهم وشواغلهم . وكل خروج عن هذا الاطار يعرض الطلبة الى متاهات غامضة المصير ذلك ان الوعى القومى قد لا يوافقهم على تصوراتهم ويعرضهم هذا الموقف كذلك الى ضرورة الوقوف عند عتبة المصلحة العامة فى الفترات الصعبة ويتحمل المجتمع تبعات الاجهاض

- اطلاق سراح المساجين السياسين والنقابين : انها بادرة تحققت بعد جهد واجهاد من انصار الحوار والديمقراطية . وهذه الحادثة من شأنها ان تثبت دعائم تقاليد المسؤولية السياسية سواء كان من جانب الحكومة او من جانب الوطنيين .

- الضغط على ارتفاع الاسعار : اثبتت الحكومة فى مناسبات انها بامكانها الضغط على ارتفاع الاسعار ويتم لها ذلك بسهولة وعوضت فراغ انسحاب بعض الانتاج بمستورد اجبر سماسرة الربح الاقصى على العودة الى السوق

والانسجام مع الوضع السائد ... وينتظر من الحكومة ان تعيد النظر فى تنظيم وساطات قطاعات الانتاج والتوزيع ، هذا الجدار الذي يحول دائما دون استمرار الانسجام ما بين الشعب والدولة... وينتظر منها كذلك ان تستمر على هذا العهد لتحمى القدرة الشرائية للمواطن

- حرية الصحافة : مثل هذه المبادرة خاصة صدور جريدة " المستقبل " لمجموع الديمقراطيين الاشتراكيين ... وما حرية الصحافة المسؤولة الا مبدأ اساسى لا بد من توفيره لمراقبة مسيرة المجتمع التى نعود الى كل التونسيين مهما كانت اتجاهاتهم

هذه ابرر علامات المرحلة الراهنة ولا يعنى ذلك ان الوضع لا يحتاج الى اصلاحات اخرى بل ان متطلبات التنمية الشاملة متعددة ومتنوعة .

العلامات المضادة

العلامات المضادة التى تروم ضرب المرحلة الراهنة متعددة.... مباشرة وغير مباشرة ابرز عناصرها اعداء التحول انفسهم اولئك الذي برغبون فى الابقاء على نفوذهم وسيطرتهم وهم يجهدون كل الجهد للاطاحة بالتحول الشمولى وهؤلاء يسعون الى مزيد ارتفاع الاسعار والمحافظة على مصالحهم ومن العلامات المضادة كذلك مخططات المثاليين والقفزويين الذين وراء التلويح برغبة انشاء عدالة اجتماعية اكثر انصافا وهى غاية نبيلة - لا يتوقعون متاهات نواياهم وما يمكن ان تؤدى اليه من اخطار .

ولا بد ان نشير ايضا الى الضغوط الخارجية ، تلك الضغوط التى نسعى الى التحالف وتوسيع الرقعة استعدادا للتطاحنات الايديلوجية والتوسع الترابى . . وهذا العنصر أخطر من كل العناصر الاخرى الا ان الحماية الاساسية منه هو الدعم الداخلى فى جميع المستويات واقامة الجبهة الوطنية التى تتحطم عند اقدامها نوايا اعداء الوطن .

لهذه الاسباب فان على المثقف التونسى ، فى كل المستويات والمواقع ، ان يتمسك بالمرحلة الراهنة ويسعى الى تخفيف حدة التآمر حولها تجنبا للتراجع الذي يحطم السبل المؤدية إلى الديمقراطية الحق . وان لا يسقط تحت الدعوات الهادفة الى ابقاء دار لقمان على حالها عوض الانفراج والتقدم خطوات نحو الغد الافضل

اشترك في نشرتنا البريدية