مدخل : مقدمات وحدود :
هذا البحث لا يهدف الى دراسة حركة بعينها من حركات الاصلاح .. وانما كان سبيله انه نظر فى جملة هذه الحركات وحاول ان يدرك منحاها الرئيسى وان يتبين اتجاهاتها ، وان يتساءل عما خلفت فى حياة الجماعة العربية والاسلامية فى القرن الماضى .
ان مادته تتعلق بالحاضر ، ولكن منطلقه يبدأ من الماضي .. من هذا التساؤل الذى يلح علينا جميعا كلما نظرنا فى هذا الواقع الذي نحياه ، وهو : لماذا لم تحقق هذه الحركات الاصلاحية الكثيرة غاياتها فى مجتمعاتنا .. على حين حققت النهضات فى بعض البلاد الاسيوية والاوربية غاياتها فى مدى زمنى هو دون هذا المدى الزمنى الذي شغلته حركاتنا .
واذا كانت اليابان استطاعت فى نحو من نصف قرن ان ترتفع من امة زاحفة على الثرى الى أن تطأ الثريا ، كما نقول ، وان تمتلك اسباب تشارك فى النهضة العلمية والصناعية وان تنتقل من التخلف الى التقدم ، وان تغادر الشعوب التى حولها الى الشعوب التى فوقها وان تشق مدارها فى فلك هذه الشعوب .. فلماذا لم يتحقق لنا مثل هذا التقدم على طول المدى الزمنى الذى شغلته النهضات ، وعلى تنوع هذه النهضات ، وعلى انتشارها بين شعوبئا المختلفة من اقصى البلاد العربية والاسلامية الى اقصاها .
ان هذا الانطلاق من ملاحظة الماضى انما هو فى حقيقته توجه نحو المستقبل وكما يقف الافراد على محطات الزمن يتساءلون ، يحاسبون انفسهم
او بحاسبون غيرهم وينظرون فى عوائقهم وعلائقهم ، على حد تعبير المتصوفة ، نقف نحن كذلك فى السنوات الاولى لاستهلال هذا القرن نتساءل ونحاسب ذواتنا ونرسل انظارنا النقدية هنا وهناك نفلسف علة التخلف وأسبابها ما كان أوليا من هذه الاسباب وما كان من الاسباب الثوانى .. ما كان اصلا فى العلة وما كان فرعا .
(( ان الاعتبار )) هو الهدف من تحرك الموضوع فى هذا الاتجاه واستخلاص النتائج هو الذي يهمنا (( لا نريد من ذلك لا لوما ولا عتابا .. لا نريد ان نصدر احكاما لا بالتبرئة ولا بالتجريم .. اننا نريد الفائدة التى نستعين بها على متابعة الطريق فحسب .. نريد ان نعرف اذا كانت خطانا على الطريق الاصلية ام هى خارج حدود هذه الاصالة .
ولذلك لن يكون في كل ما نتحدث به او نذكر اى مظهر من مظاهر الحكم واذا بدا شئ من ذلك خلال الموضوع فهو انما يتسرب عرضا ، وغرضه التنبيه والتبيين وليس غرضه التفريع والتشهير ... ان هؤلاء الذين تقدمونا جزء من ماضينا .. فاذا اخطأوا او اصابوا فانما كان ذلك بحكم البيئة التى من حولهم او الظروف التى كانت تحتاطهم او الوضع الملجئ الذي كانوا يضطرون اليه نتيجة عوامل خارجة عن ارادة الافراد احيانا او عن ارادة الجماعات .
ولاننا لا نستقبل القرن الخامس عشر فرادى وانما نستقبله ونحن نؤلف هذه الجماعة الانسانية العربية المسلمة ، بكل عواطفنا وآلامنا ، بكل آمالنا وتطلعاتنا ، نشتكى جميعا مما كان نزل بنا ، وترف اعيننا لاستقبال السنوات التى نتخلص بها من عقابيل هذا الذى نزل بنا .. لاننا نلقى القرن الجديد جماعة يشترك ما بينها فى العواطف والبواعث ، وتعانى من ذات الادوار والعلل ويكاد يشترك ما بينها فى المصير .. بل ان وحدة المصير فى عالم ضمرت ابعاده وتقاصرت حدوده ، وانقسم هذا الانقسام الشنيع الى عالم المتقدمين وعالم المتخلفين - وحدة المصير هذه اضحت واقعا يسمو فوق كل واقع ويعلو على كل الفروق والخلافات ، ويقتضى من اصحابه موقفا واحدا ونظرية موحدة وسيرة - (( استراتيجية )) واحدة فيما يستقبلون من عهود .
وعلى ذلك كان الباحث لا ينظر الى بلد بعينه ولا الى حركة بذاتها انه واحد من هذه الملايين الكثيرة العربية المسلمة التى تواجه مع بداية هذا القرن مواقف
المسؤولية ومواقف الاحساس بها والتنبيه لها وحساب الذات على اساس منها انه احد هذه الملايين التى تشعر بالظلم الحضارى والتمايز البشرى والفرق الكبير بين بني الانسان ، ويصعقه ان يرى هذه الفروق التى تتعاظم وتتضخم يوما بعد يوم دون ان ينفع منها اصلاح او نهضة ، على شدة ما يعاني اصحاب هذه النهضات ودعاة هذه الاصلاحات من محاولات لتحقيق الخير .
وكذلك يلتقى الماضى والحاضر والوصف والدراسة ، والعرض والتساؤل على صياغة هذا الموضوع : فكره وروحه ، ملاحظاته واسلوبه .. فى محاولة تبدأ من حساب الذات وتريد ان تنتهى الى استشفاف الطريق .
وليس استشفاف طريق جماعة كبرى كالجماعة العربية والاسلامية بالامر السهل ، ولا يقوم لكاتب بمهمة التنظير لذلك فالامر فوق ان يفكر فيه أو بدعيه وانما هى نقاط على الطريق يتلمس اضاءتها ، حتى اذا تتابعت الجهود على مثل هذه الاضاءة امكن ان يترسم من ذلك نهج واضح .
القسم الاول : ملامح هذه الحركات الاصلاحية :
وحين يمر الانسان بهذه الحركات الاصلاحية حتى ينفذ الى تعاليمها وآرائها وحين يتعرف الى دعاتها واصحابها ، وحين يقرأ لهم ما كتبوه أو ينظر فى الذى فعلوه فان الذى ينتهى اليه او يستقر عنده انما هو هذه الجملة من الملاحظات . وستثير هذه الملاحظات التى تنبت من واقع هذه الحركات سلسلة من الملاحظات الاخرى حول ما ناخذه وما ندع ، وما نفيد منه او نعرض عنه .
1 - أبرز هذه الملاحظات التى تطفو على السطح عند القراءة والتتبع ان هذه الحركات الاصلاحية شملت العالم العربى الاسلامى كله .. فقل ان نجد قطرا من اقطار هذا العالم الا وقد نبتت فيه حركة اصلاحية او ظهر فيه مصلح كبير او داخلته عوامل من القلق ادت الى ان تمتلئ اذهان الناس فيه بالصورة الامثل وتلتهب عواطفهم بتحرك اقوى بغية مغادرة الواقع ونشدان ما هو افضل منه .
فمن اقصى الشرق الى اقصى الغرب كانت هذه الحركات .. لم تكن فى قلب هذا العالم العربي الاسلامى فحسب (( محمد بن عبد الوهاب فى الجزيرة ،
وانما كانت كذلك فى اطرافه وحدوده .. كانت فى تونس (( خير الدين التونسى ، محمد بيرم )) وكانت فى ليبيا (( الحركة السنوسية )) كانت فى مصر (( الافغاني ومحمد عبده )) وكانت فى الهند (( احمد خان )) كانت فى سورية وكانت فى دار الخلافة ، كانت فى ايران (( ناصر الدين شاه )) وكانت فى جنوب شرقى آسيا ، وكانت فى بلاد الافغان (( الامير عبد الرحمن )) كما كانت فى جزيرة العرب .. فى كل مكان من هذا الشرق العربى المسلم كانت هذه الحركات تظهر وتنمو ، وتمتد عدواها وآراؤها لتوجد جوا من التنبه ، ولتولد حركات اخرى مماثلة او مشابهة ، تبعا للظروف التى تحيط بها والبيئات التى من حولها .
2 - ثانى هذه الملاحظات ان هذه الحركات كانت كثيرة وكانت متنوعة .. كثرتها تتمثل فى اعداد كبيرة من المصلحين .. منهم من كان له منهجه فأبانه وتحدث عنه ، ومنهم من لم يثبت هذا المنهج فاكتفى بالعمل فى هذا النطاق او ذاك ...
وتنوعها يتمثل فى انها شملت اكثر جوانب الحياة العلمية والقضائية والسياسية والعسكرية لم تكن تغادر جانبا الا داخلته ، لا فرعا من فروع الحياة الا كان لها منه موقف .
3 - ثالث هذه الملاحظات تتعلق بنوعية هذه الحركات ، فقد تأرجحت بين ان تكون ثورات مسلحة ( الامير عبد القادر الجزائري - عبد الكريم الخطابى .. ) وبين ان تكون دعوات فكرية لم تمارس العمل المسلح وعلى ان البحث فى اصله لا يتناول هذه الثورات المسلحة الا انه من الممكن ان نلاحظ ان هذه وتلك من هذه الانواع كانت تتكامل فيما بينها او تتعاقب او يولد بعضها بعضا فالثورات المسلحة كانت احيانا نتيجة لعمل فكرى انتهى تخمره وتجمعه الى تغير نوعى فى طبيعته ، آل الى ثورة (( الثورة العرابية فى مصر )) ... والافكار الاصلاحية جاءت أحيانا نتيجة لبعض الثورات فى الاقطار التى ولدت فيها أو فى الاقطار التى جاورتها (( على باشا مبارك بعد الثورة العرابية )) .
4 - ولعل من هذه الملاحظات التى يحسن ان نشير اليها ان بعض هذه الحركات الاصلاحية قام بها سلاطين وامراء ( محمد على باشا - السلطان القانونى ) أو وزراء ( مدحت باشا فى تركيا - خير الدين باشا التونسى ،
تونس ) فى نطاق الدولة نفسها .. وبعضها مما قام به افراد من العلماء الافذاذ او المفكرين فى نطاق الجماعة ( الافغاني - محمد عبده ) .. أما والصورة الاخيرة التى تمثلت بها الحركات الاصلاحية فتعتبر فى الحركات الحزبية ( الحزب الوطنى فى مصر ) . وليست هذه الحركات الحزبية فى نطاق البحث
وليس عجبا ان تتكاثر هذه الحركات وان تتنوع فى صيغها واشكالها ومواطنها ومضامينها فى الوطن العربى والعالم الاسلامى .. ذلك اننا إذا تذكرنا ان اللقاء بين العرب والمسلمين وبين الحضارة الحديثة انما كان فى اطار الحركة الاستعمارية الاوربية التى ارادت ان تفيد من ضعف المسلمين السياسى وتمزقهم الاجتماعى وغفلتهم عن واقعهم .. وان هذه الحركة الاستعمارية كان لها هذان الاثران المتناقضان : كانت مثيرة من نحو وكانت مثبطة من نحو آخر كانت مخربة على نحو ما كان من لفتها الى الاعمار .. كانت مفتتة وان كان لها بعد حين اثارات وحدوية .. كان لها بعض منطقها الايجابي ولكن الاثار السلبية لهذا المنطق كانت فوق الاثار الايجابية اذ كان عملها فى تخريب الوحدة فوق عملها فى ايقاظ هذه الوحدات وكان تخريبها فوق ما كان من إعمارها ، وكان تثبيطها فوق الذى كان من اثاراتها .
لم يكن عجيبا اذن ان تنتشر هذه الحركات على طول الوطن العربى والبلاد الاسلامية ، وان تتناول اكثر اطراف الحياة سياسة وادارة ، لان الحركات الاستعمارية كان لها مثل هذا الامتداد فى الارض ومثل هذا التسلط على الحياة ولكن ردود الفعل كانت تتخالف بفارق الظروف الخاصة . ومن هنا اتخذت هذه الحركات الى جانب تماثلها احيانا اشكالها المتميزة احيانا اخرى .
القسم الثاني : عوائق فى طريق هذه الحركات :
وما من شك فى ان هذه الحركات لم تعط ثمارها المرجوة دائما ، ولم تكن هذه الثمار فى مثل الاوقات التى يجب ان تكون فيها ، واذا كانت تتلاقى فيما بينها على هدف مشترك هو مغادرة التخلف الحضاري في جوانب الحياة المختلفة ، فهل نستطيح ان نتساءل لماذا لم يتحقق لها هذا الهدف المشترك على النحو المرجو .. وهل نستطيع ونحن على باب قرن جديد تجوز سنواته الاولى ان نتبنى الاسباب التى كانت وراء النجاح او وراء الاخفاق حتى نستطيع ان نفيد من ذلك فى تقويم المسار أو ترشيده ؟
ان المتتبع لهذه الحركات فى سيرة اصحابها ليتبين بوضوح ان المجتمعات العربية والاسلامية لم تكن حرة فى اتخاذها ما تتخذه ولا فى ترك ما تتركه حين كانت تواجه الحضارة الحديثة وتحاول ان تتخلى عن مواقعها فى دنيا التخلف وان قوى من القوى الخارجية كانت دائما تفسد عليها رأيها وتشوه تدبيرها .. والأمر هنا لا يتعلق بالحركات الاستعمارية فحسب .. ولكنه يشمل مرحلتين : مرحلة ما قبل الحركات الاستقلالية ، كما يشمل مرحلة ما بعد هذه الحركات حين خرجت هذه الشعوب من قبضة الاستعمار .
الشعوب العربية والاسلامية واجهت الحضارة الحديثة ، واستيقظت تريد ان تاخذ منها ، وان تاخذ بها ، وان تشارك فى صنعها .. كانت علامة الحياة الاولى فيها انها احست بغفلتها وتاخرها ، وانها انتبهت مذعورة فوجدت ان العالم الغربى قد تقدمها وخلفها وراءه بعيدا .. فكان لابد لها ان تتبين مكانها المتخلف وان تتملس الطريق للخلاص منه .. ان اسهامها الحضارى السابق كان كفيلا بأن يشق امامها السبيل الى تدارك ما واجهت من نقص والى اللحاق بالركب ولكن الذى حدث ان العالم الغربى ، ماخوذا بعداواته التقليدية المتمكنة منه ، لم يشأ لها ذلك ، وانما اراد لها ما هو نقيض له ، فاخذ نفسه بأن يضرب عليها بالاسداد وان يقطع عليها الطريق الى كل غاية .
اننا لا نتحدث هنا عن هذه الخصومات الدينية والحربية ، لانا لسنافى مقام التاريخ ..
وانما نريد ان نتبين اسباب الاخفاق الذي منيت به هذه المجتمعات العربية والاسلامية فى تحركها نحو الافضل .. على حين كان كل شئ فى ماضيها وموقعها وطبيعة معتقداتها واصول حضارتها وكثرة عديدها وتوزعها فى مناطق مختلفة من العالم - كان كل ذلك يدفعها الى ان تكون فى الصفوف الاولى وان تظل لها مواقعها فى هذه الصفوف الاولى .. فهل اخطأت الطريق : هل ضلت الغاية ؟ هل يرتد هذا الاخفاق الى مقصور ذاتى ؟ ... كان الامر متصلا بطبيعة هذه الشعوب كما يقول ذلك بعض المفكرين الغربيين (( رينان )) ام هى ظروف خارجية حالت بينها وبين تحقيق ذاتها وارادتها ؟
أ - عوائق خارجية : الحق ان الامر لا يعود الى شىء من القصور الذاتى فحسب وانما هى سلسلة
من العوامل والاسباب التى تظاهرت كلها على ان تحول بين هذه الشعوب وبين ان يثمر مسعاها فى التحرك نحو الحياة الجديدة .
1 - واول هذه الاسباب يعود الى المواجهات الاولى بين هذه المجتمعات وبين الحضارة الحديثة فقد اتصفت هذه المواجهات بكثير من التحدى ومن مظاهر الاذلال ... وتناول هذا التحدى والاذلال ابرز ما يميز به الافراد والجماعات : تناولت معتقدها وتاريخها فكان لذلك ما كان من اثار سيئة اقامت هذا السد النفسى بين هذه الجماعات وبين معطيات الحياة الجديدة .
وتفصيل ذلك ان المؤرخين يجمعون على ان حملة بونابرت كانت بداية هذا اللقاء بين الشرق العربى والعالم المسلم من جهة وبين هذه الحضارة من جهة اخرى ... وواضح ان هذا اللقاء لم يكن لقاء سلميا ، وانما رافقته جيوش الاحتلال وابواق الحرب واصوات المدافع ... فهو اذن لقاء بدأ مع احتلال الارض واذلال الناس والهجوم عليهم فى عقر دارهم .. فافسد ذلك الى حد كبير حركة هذه المجتمعات وتطلعها .
ومن هنا فان الذى تعود المؤرخون ان يقولوه ، حين يدرسون اسباب النهضة واقتران ذلك بحملة نابليون والبعثات العلمية التى رافقته وبعض مظاهر الحضارة التى اجلتها نقيض صارخ للحقيقة ومحاولة - لا ندرى كيف تسربت الينا - لتحويل الآثار السلبية لهذه الحملة الى آثار ايجابية ، واعتبار الفضل فى حركتنا الفكرية وتحركنا الاجتماعى عائدا الى هذه الحملة والى مثلها .
والامر فى حقيقته ، عند الدراسة المتأنية مجاف لذلك مناقض له ، فالناس الآمنون فى القاهرة فتحوا اعينهم على خيل نابليون وهى تقتحم ابواب الازهر وتدوس حرمه ، وبعض العلماء - والعلماء فى قمة التقدير الاجتماعى فى المجتمعات الاسلامية - لقوا شيئا كثيرا من الاذى بلغ حد القتل .. ولم يكن الامر مواجهة حضارية وانما كان مواجهة حربية .. والضمير العربى والاسلامى لم يكن قد غفل عن الحروب الصليبية وانتقاص الشوافى الاسلامية فى افريقية ومهاجمتها كان متداولا معروفا .. فكيف نتوقع ان تكون النتائج النفسية لهذا اللقاء الاول ؟
من المؤكد انها ستكون مباعدة بين هذه الحيوش وما يقال عما كانت تحمله من اسباب النهضة ، وانها ستخلف هذا الشرخ النفسى العميق بين هذه
الجماعات والشعوب الامنة وبين هذه الجماعات والشعوب الغازية ، وان الناس لن يفتحوا عيونهم على مطبعة يحملها هذا الجيش لتنشر انباءه ولا على جماعة من العلماء ينظرون فى الآثار او ينقبون عنها او يمسحون الارض وانما سيفتحون عيونهم على جيش مسلح وقوى دخيل ، واستفزازات تمس عقيدتهم واحتلال ليغرس فى ارضهم وركانات ودعاوى تساق اليهم ليس لها من الصحة نصيب (I) .
هذا الا ان دنيا العرب والاسلام لم تكن كما تعودنا ان نتصورها غارقة فى الجهالة الى شحمتى الاذن .. ولم تكن افكار النهضة والاصلاح افكارا اجنبية واحدة ولم تكن الحياة الاسلامية جسدا هامدا . خافتا .. كان هناك دعاة للاصلاح وكان هناك مفكرون يحثون على النهضة وكان فى عاصمة دولة الخلافة
حركات فكرية وتحركات اجتماعية وكان من الممكن لو ترك لهذه الحركات حرية النماء الطبيعى والنماء العفوى الذي يستجيب لحاجات المجتمع وضرورات الحياة ان تعطى ثمارها وان تغادر هذه المجموعة البشرية طور التخلف ، وان تأخذ باسباب الحياة الجديدة واساليبها .. اذ كان كل ما فى مواقف التحدى التى واجهتها . يدفعها نحو نشدان اسباب القوة والحياة .. ولكن الهجمات الاستعمارية التى لبست اقنعة مختلفة بادئ الامر : قناع التجارة او قناع الحضارة او قناع الانتصار الكاذب للاسلام .. هذه الهجمات غيرت الاتجاه الطبيعى للنمو الحضارى المرتقب ودفعته فى مسالك ضيقة من العداوات المادية والمعنوية من مثل الاحتلال الاستيطانى والاستغلال التجارى والمواجهات الدينية - فاذا نحن نقرن بين وعينا الظاهر وبين وعينا العميق بين الحضارة وبين الغزو باشكاله المختلفة .. فكان من ذلك ان تكونت فى ضمير الجماعات العربية والاسلامية مثل هذه العقد تجاه الحضارة وتجاه بعض مظاهرها بل تجاه بعض مسلماتها .. واذا نحن ننفر من الحضارة ونفر فى مثل هروب الخائف الذى يحاول ان ينشد معتصما له او ملجأ - الى الاستمساك بالذى كنا عليه والاعتصام به .
وقد كلفنا ذلك بعد ، عقودا من الزمن ، وعهودا من الجهود من أجل رأب هذا الصدع النفسى الذى تكون بين مجتمعاتنا وبين الاقبال على الحضارة ، بذلها بعد ذلك المصلحون والمفكرون على مدى زمنى طويل .. ان تبذل هذه الجهود وان تتعقد هذه العقود فى اكتساب الحضارة لا فى التمهيد لها .
2 - وقد يبدو للوهلة الاولى ، مثل هذا الكلام غريبا او مبالغا فيه بعد الذى حشونا فيه اذهان اجيالنا عن اسباب النهضة فى البلاد العربية وربطنا ذلك بالحملة الفرنسية على مصر ... ولكن الذين يعرفون السنن النفسية لتطور الافراد والجماعات يطمئنون اليه ويدركون اثر هذه المواجهة الحضارية التى
خالطها الدم والاذلال والخداع .. فاذا اضفنا الى ذلك ما كان بعد هذه اللقاءات الاولى مع الحضارة من مواقف واحداث حروب اطمأننا الى انه لم يكن فى تفسير هذه الظاهرة شئ من مبالغة او تفخيم .
ذلك ان الحضارة الغربية تابعت اسلوبها فى عقد الصلات بين الشرق والغرب وكأنها عمدت عمدا الى تنفير الجماعات العربية والاسلامية بما اتخذت من مسالك واستخدمت من اسباب .. فاذا تجاوزنا الاستعمار نفسه من حيث دراسة اثاره - وقد كان الاستعمار قمة هذه الوسائل وجماعها - الى ما رافقة من حركات التبشير والاستشراق واجهنا شكلا جديدا من اشكال التنفير من الحضارة الغربية ووضع الجماعات العربية والاسلامية فى موضع الحذر والخوف والهروب .. فقد انهالت البعثات التبشيرية ، وانهالت معها كل الوان التنديد بالمجمع الاسلامى والثقافة العربية ، وحملات التشكيك بالمقدسات والاراء والمعتقدات ، والتنفير من الأدب والتراث وابراز الصفحات السوداء من التاريخ وطمس الصفحات النقية وانكار الحقائق وتشويه النصوص واظهار العقيدة فى غير حقائقها الجوهرية ، وعرض سير الرجال : حياة رجالات العرب والاسلام من زاوية الاوهام والاساطير التى علقت بسيرتهم وكانت دوائر الاستشراق عونا على ذلك ، من حيث كان ينتظر ان تكون اداة منصفة ومراكز اضاءة وتنوير .. بل ان بعض المستشرقين الذين حاولوا انصاف العرب فى بعض ما قالوه لم يتأخروا عن وصفهم بأنهم غزاة .. واعتبر بما كتبه غوستاف لبون فى كتابه (( حضارة العرب )) ذلك انه لم يتردد فى ان يصم العرب في كثير من صفحاته انهم غزاة .. على ما اضطر اليه من ابراز لحضارتهم واظهار لاثرها والنفاذ عن طريق التبشير كان له اسوا الآثار لانه اتصل بطبقات الناس ومجموعاتهم ولابس حياتهم اليومية فى انفسهم وفى اولادهم فى المستشفيات والمدارس وما اليها من النتائج الايجابية او الانسانية التى اعطاها ، لا يمكن ان تعدل ما كان من نتائجه السلبية على سير الحركة الحضارية بعامة في شرقنا ، وعلى تقريب مسافة الخلف بين مجتمعاتنا وبين هذه الحضارة او بين ضمائرنا وروحنا وبين هذه الحضارة .. حتى يكون الاقبال عليها اقبالا لا يخالطه حذر منها ولا يداخله خوف او اشفاق .
3 - وقد كان مما عاق الحركات الاصلاحية وافسد نتائجها هذه الخصومات الحادة التى نشأت بين الدول الاجنبية فى صلاتها بالجماعة العربية والجماعات الاسلامية وبصورة خاصة هذه الخصومات بين السياسات الفرنسية والانكليزية والروسية وعلى حين كان يفترض ان يكون هذا الخلاف بين هذه السياسات منفذا لتخلص الجماعات الاسلامية من هذا المكر السياسي العريض ،
فان الذى كان من نتائج هذه الخصومات ان انصبت اثارها على هذه الكتل من الناس وقد تكون اطالت في عمر الدولة العثمانية من حيث هى دولة ، اما من حيث هى مجتمع انسانى فقد اسهمت فى تأخيره وتخلفه لانها استنزفت قواه ولانه كان من ابرز وسائلها ان تصطنع احدى هذه الدول بعض الرؤساء او الامراء او الصدور او المتنفذين الاقوياء .. وان تصطنع دولة اخرى افرادا اخرين ثم يؤول ذلك الى صراع داخلى والى مقاتل وحروب تفنى فيها الجماعات قواها واموالها وتكسر وحدتها فلا تجد بين يديها من قوى الفكر والمال ما يساعدها على ان تصلح شيئا من احوالها .
وليس هذا فحسب . وانما وقعت الجماعات الاسلامية والعربية فى مواقف داخلية اليمة اذ ان هذه الصراعات اثارت عندها الشكوك برجالاتها وقياداتها فادى ذلك الى فقدان تماسكها والتماسك هو الشرط الاول فى سلامة البناء الاجتماعى وبالتالى فى تحركه نحو النهضة .
لقد كان استقطاب بعض الرجالات والاسر من مسالك الدول الاجنبية فى صراعاتها السياسية واول ما يدل على ذلك ما كان من احداث الافغان فى القرن الماضى فقد وقع هذا القطر فريسة التنازع بين انكلترا وروسيا وانقسم الامراء الذين تعاقبوا على حكم الانفاق بين متابع للانكليز ومشايع للروس ، ومحاول ان يقف بينهما باعتدال .. وفى حالات الصراع بين هؤلاء الامراء على الملك ، كثيرا ما كان يلجأ احدهم الى احدى هاتين الدوليتين حتما او نكاية بخصمه او تحينا لفرصة انقضاض ، فيقيم فى الارض التى تمد سلطانها عليها فيعيش فى رعاية روسيا مثلا اوفي رعاية انكلترا وتنفق عليه السنوات الطوال ليكون ركيزة لها فى المستقبل .
4 - والسياسة الاجنبية ، وهى تقف فى وجه هذا الشرق الاسلامى لم تكن متناقضة دائما وانما كانت تجد الطريق الى الالفة والتوافق والاجتماع حين تجد الطريق الى اقتسام الضحية والى الحيلولة بين هذا المجتمع العربى الاسلامى وبن التحرك ويمكن ان نذكر فى ذلك ما كان من حركة محمد على باشا وابنه براهيم باشا ، وهى حركة كان لها فى وجه من وجوهها معناها العربى .. وكان من الممكن ان ينتج عنها قيام دولة عربية كبيرة بعد ان قطع محمد على باشا فى مصر اشواطا فى طرق الحضارة والتقدم .. ولكن ذلك اخاف هذه الدول ودفعها فى الاتجاه المضاد .. فاذا هذه الجيوش المصرية تتوقف واذا هى تعود الى موطنها الاول واذا الصلح ينعقد بين الدولة الخديوية وبين آل عثمان ، واذا
كل ما كان كأن لم يكن لان هذه الدول الاجنبية لا تريد لهذه الجماعات العربية الاسلامية طريق النهضة ، ولا تريد لها ان تفلت من التخلف وانما تريدها ان ظل حبيسة الجهل تصارع مشاكلها الداخلية بعيدا عن معاودة طريقها الحضارى .
5 - ويبدو ان السياسة الاجنبية لم تكن لتغفل عن الصغيرة والكبيرة فى حياة هذه الشعوب والمحميات كانت لها عيونها النافذة واساليبها الواصدة .. انها لم تكن لتقتصر على اخراج دولة الخلافة .. او الدول الاسلامية الاخرى وارهاقها ، ولم تكن تحاول اضعافها فى المجال الدولى وحسب .. وانما كانت تمتد الى حياتها الداخلية فى نوع من التدخل الوقح والمباشر .. وكان لها من رجالها الذين تصطنعهم او تنشئهم ما يساعدها على ذلك .
ان مثل السفير الروسي اغنانيف مع المصلح الكبير مدحت باشا ابرز الامثلة على ذلك .. ولنترك لجرجى زيدان وهو من هنا ان يتحدث عن ذلك يقول زيدان عن مدحت باشا من كتاب : ( تراجم مشاهير الشرق ج 2 ص 358 ) :
( وانتبه مدحت الى امر ذى بال كان سببا فى اكثر متاعب الدولة فى البلقان وذلك ان بعض البلغاريين كانوا يرسلون اولادهم للتخرج فى جامعات اوربا أو خركوف او كييف وكلها بلاد الروس فكانوا يتشربون حب الجنس السلاحي ويعودون لبث تلك الروح فى الاهالى فيثيرون التعصب الجنسى او الدينى فيعود ذلك بالقلاقل والمتاعب على الدولة فارتأى مدحت ان يتلافى ذلك بانشاء المدارس العالية فى الولاية نفسها بحيث يغنى الناس عن ارسال ابنائهم الى الخارج فضلا عن تآلف الشبان على اختلاف مذاهبهم اذا شبوا فى مدرسة واحدة وتربوا تربية واحدة . ورفع بذلك لائحة للباب العالى وقسم النفقات اللازمة لهذا العمل الى نصفين النصف يؤخذ من فضلات الخراج فى الولاية والنصف الآخر يكتتب به الاهالى .
فلما وصلت هذه اللائحة الى الاستانة علم بها اغنانيف سفير روسيا هناك فقاومها بكل قوته لانها تخالف الترتيب الذى رتبه الروس لتحويل قلوب البلغاريين عن دولتهم وبذل جهوده فى ايغار صدر السلطان عبد العزيز على مدحت فاوهمه ان الخطة التى يتخذها مدحت فى الولايات تنافى سياسة الخليفة المطلقة وتؤول الى تشتت شمل المملكة العثمانية باستقلال كل ولاية بشؤونها فلم يصغ السلطان لوشايته فى بادئ الامر ولكنه دفعه الى غلطة وقعت فى لائحة نشرها مدحت باشا فى الجريدة الرسمية يطلب فيها تعيين
اعضاء مجلس الاهالى المشتركين مع الحكومة فى تدبير شؤون الولاية فسماهم (( نوابا )) ولم يغفل اغنانيف عن تنبيه ذهن السلطان الى ذلك فاقتنع بسوء عاقبة تلك البدع وابى المصادقة على طلب مدحت تجنبا للنفقة ولم يذكر السبب الحقيقى .
فذهبت اعمال مدحت فى سبيل الاصلاح ادراج الرياح ، وايد اصحاب اغنانيف استنهاض بعض العصابات فى البلقان للتعديات ونحوها ، فما احس مدحت الا وقد ظهرت عصابات فتكت بالمسلمين وقتلت اطفالا من الرعاة فنهض المسلمون لمثل هذا العمل والمسيحيون ، فركب مدحت بنفسه وقبض على بعض المتمردين من النصارى فوجد باستنطاقهم انهم رسل من جمعية السلاف فى بوخارست وفى كشفوا فحكم المجلس على الرؤساء بالاعدام وعلى الآخرين باحكام اخرى فانقضت الثورة وعادت السكينة .
على ان جرائد اوربا شددت النكير على تصرف القضاء العثمانى فى هذا السبيل ، وعدوا احكامه بريبرية ونسبوها الى مدحت فبرأ نفسه .
لكنهم لم يعدموا وسيلة اخرى لنكاية وذلك ان سمع برسل بسرية قادمة من غلاتز الى بلغراد لدس دسائس واعداد مشاكل جديدة فقبض عليهم على ظهر باخرة نمساوية عند روستشوك وبعث بصورتهم الى قنصل النمسا وطلب اليه ان يأذن بفحص تذاكرهم واخذت الضابطة العثمانية في تفتيشهم ومعها مندوب من القنصلية النمساوية فأطلق احد الرسل مسدسا على الضابطة فى قاعة السفينة فاجابهم العثمانيون والتحم الفريقان وانجلت الواقعة اخيرا عن القبض على اولئك الحساسين وقد جرحوا جراحا بليغة .
فكان لهذه الحادثة دوى فى أوربا واتخذ اغنانيف ذلك ذريعة لطلب اقالة مدحت فلم يفلح ، فاخذوا يسعون فى قتله سرا فأطلق عليه احدهم في روستشوك رصاصة فأخطأته وحاول سربى قتله ففشل ، ولما قبض عليه وسئل عن سبب عمله قال : (( ان اثنين من كبار السرب اغروه على ذلك فحوكم الرجل وعوقب .. ))
ان تدبر هذا النص والوقوف عند جزئياته يضعنا امام حقائق خطيرة وتفاصيل مثيرة عن التدخل الاجنبى وعن اساليب هذا التدخل وعن تسربه الى مكاتب السلطات وأوراقه وعنه رصد حركات الاصلاح واتخاذ مختلف السبل الى اعاقتها ولو كان من هذا السبيل جرائم القتل واثارة الفتن الطائفية .
( يتبع )
