الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 2الرجوع إلى "الفكر"

لغة الشعر العربي الحديث، وقدرته على التوصيل ..

Share

                        (*) - 2 - 3 - أما التيار الثالث فهو ما يمكن تسميته بتيار التجسيد الواقعى . والتواقعية في الادب لا تفي ذلك المفهوم الذى سعى البعض فى معركتهم الايديولوجية ضد الواقعية ، ان يشوهوه باعطائه معنى الاستنساخ الآلى او التقريرية الجافة ، او العقلانية او الشعارية الى غير ذلك . والواقعية فى الادب لا تعنى كذلك فرض اسلوب معين او نهج محدد للتعبير والابانة . بل تتنوع فيها الاساليب واشكال التعبير تنوعا لا حد له ، فقد تستخدم الرموز والاساطير الاحلام إلى غير ذلك . انما المهم فى الواقعية اساسا - وهي مستويات مختلفة - هو الحس بحيوية الواقع وصراعيته والتعبير عنه ادبيا فى الادب ، اى بلغة الادب ، لا بلغة الواقع المباشرة . انه استخراج شعر الواقع ، وقسماته الجوهرية والمزج اغلاق بين الخبرة الذاتية والوعى الموضوعى ، باستخدام كل وسائل التعبير الممكنة التى لا تقف عند حد . وفي تقديري ان شعراء هذا التيار فى الشعر الحديث هم ، كما اشرت فى البداية ، امتداد المدرسة الشعر الجديد شعر الخمسنات ، وان تعمقت خبرتهم الصياغية والدلالية . حقا انها لا تقتصر كل شعراء الخمسينات بل تكتسب الى صفوفها شعراء جددا . فقد نجد بينهم محمود درويش الامتداد المتطور لمدرسة الارض المحتلة ، كما نجد بينهم وجوها جديدة مما يمكن تسميته باسم شعراء الجنوب اللبنانى ، فضلا عن اسماء مثل سعدى يوسف والبياتي واحمد عبد المعطي حجازي وامل دنقل والفيتورى

وغيرهم وهم من ابناء مدرسة الشعر الجديد فى الخمسينات وان كنا نجد بين ابناء هذه المدرسة من تراجعوا او تجمدوا او توقفوا لعلنا نذكر من بينهم نازك الملائكة وصلاح عبد الصبور .

وعلى الرغم مما نجده بين ابناء هذا التيار الواقعي الحديث من اختلافات فى مناهجهم الابداعية وفي خبراتهم ورؤاهم الحية ومواقفهم الاجتماعية ، فان هناك ما يجمعهم . ولعل ابرز ما يجمعهم هو ما نستشعره فى شعرهم من نبض لواقع الآني الحسى بابعاده الدرامية على اختلاف اساليب تعبيرهم . ونستطيع أن نتبين فى شعرهم ثلاثة عناصر متداخلة متشابكة ، فهناك التاريخ الذي يعبر عن نفسه تعبيرا أفقيا فى شكل قصة ، حدوثة ، حكاية صغيرة ، تفاصيل لخطة انية حية . وهو دائما تاريخ حسى زاخر بالتفاصيل الصغيرة والكبيرة ، ولكنها تفاصيل ملموسة تتحرك وتتلاقى وتتفرق لتشكل هذا الخط التاريخي الممتد وان عبرت عنه وعنها رموز واقنعة تراثية او شعبية او دينية . ولكن هناك دائما الدراما ، التى تتساقط عموديا على هذا الاتصال التاريخي الافقى ، متقطعه ، وتوتره وتعمق دلالاته وايحاءاته ثم هناك اخيرا الغنائية التى نستشعرها برغم - او بفضل - ما فيها من تجديد ايقاعى ، ومن تخل عن القافية احيانا وعن التفعيلة المطردة احيانا كثيرة . انه شعر التجربة الذاتية الحية ، بل التجربة الحسية جدا ، والوجدانية جدا ، وان لم تخل من فكر ، ولكنها التجربة الموضوعية كذلك . انه شعر الصور المتنامية افقيا فى شكل حكائى وان كان يرعشها دائما تقطيع درامي حاد وهو شعر غنائى في غير اطراد ، في غير رتابة انه الوعى بالواقع ، ومعاناة الواقع ، ومصادمة الواقع فى تشكيل شعري ابداعى فى كثير من الاحيان ، يكون شعر مناسبات . ولكن ... يا لها من مناسبات ! محنة تل الزعتر في قصيدة احمد زعتر لمحمود درويش وقصيدة الساعة الاخيرة سعدى يوسف . مصرع المناضل عمر بن خلدون ، انتفاضة مصر فى 17 و18 يناير 1977في قصيدتى عرس المهدى والقيامة والطفل الضائع لاحمد عبد المعطى حجازى الصلح مع اسرائيل في قصيدة ( لا تصالح ) لامل دنقل ، العدوان الطائف والصهيونى على الجنوب اللبنانى فى شعر شعراء الجنوب اللبناني عامة . على ان هذه التعابير عن تلك المناسبات ، هي تعاببير عن تلك المناسبات ، وتعابير بها ، فى بناء شعري يرتفع بالمناسبة المحددة ، الى ما هو غير محدد ، الى ما هو جوهرى فيها الى ما هو جوهرى فى تجربة حياتنا ، فى محنة حياتنا المعاصرة , تعميقا لخبرة حية ، وابداعا لرؤية شاملة متعددة الدلالات والايحاءات

واذا كان هذا هو ما نجده قسمة مشتركة بين شعراء هذا التيار ، وان اختلف وتفاوت المستوى بينهم كذلك ، فى اعمق ما تتمايز تعاببيرهم الفنية ورؤاهم الخاصة .

محمود درويش مثلا ، نجد فى شعره هذا النسج القصصى الدرامى الغنائى وان تميز بغلبة النبض الدرامى الحاد الذى يجعل من الخط الافقى القصصى تقطيعات ووثبات وانتقالات مفاجئة فى المكان والزمان والدلالة ، كما يتسم شعره كذلك وخاصة فى المرحلة الاخيرة ببروز الفكر الذى يندمج احيانا فى عملية بناء القصيدة على انه يتخذ احيانا اخرى شكل عملية استدلالية او سياسية تحريدي (22) بل تقريرية تفجر روح الادانة والشك والغضب والتساؤلات الحادة والاصرار المناضل ، دون ان يفقد شعره توتره الدرامى ، وغنائيته فلنتامل هذه الفقرات عن قصيدته الاخيرة (بيروت) تأكيدا لهذه السمات :

...من مبنى بلا معنى الى معنى بلا مبنى وجدنا الحرب ..

    هل بيروت مرآة لنكسرها وندخل فى الشظايا

     ام مرايا نحن يكسرنا الهواء ؟

   تعال يا جندى حدثني عن الشرطى :

   هل اوصلت ازهاري الى الشباك ؟

  هل بلغت صمتى للذين أجلهم ولاول الشهداء ؟

  هل قتلاك ماتوا فيك من اجلى واجل البحر ..

  ام هجموا على وجردوني من يد امرأة

    تعد الناى لى والشاى للمتحاربين ؟

  وهل تغيرت الكنيسة بعدما خلعوا على المطران زيا عسكريا ؟

    ام تغيرت الفريسه ؟

  هل تغيرت الكنيسه ؟

  ام تغيرنا ؟

   او يقول فى القصيدة نفسها :

فسر ما يلى:

بيروت ) بحر - حرب - حبر - ربح (

البحر : ابيض او رصاصي ، وفى ابريل اخضر ،

ارزق ، لكنه يحمر فى كل الشهور اذا غضب

والبحر : مال على دمى

ليكون صورة من احب

وهكذا يواصل بنية القصيدة مفسرا الحرب ، فالحبر ، فالربح الذى يقول فيه :

والربح : مشتق من الحرب التى لا تنتهى

منذ ارتدت اجسادنا المحراث

منذ الرحلة الاولى الى صيد الظباء

حتى بزوغ الاشتراكيين فى آسيا وفى افريقيا .

والربح يحكمنا

يشردنا عن الادوات والكلمات

يسرق لحمنا

ويبيعه

بيروت - اسواق على البحر

اقتصاد يهدم الانتاج

كي يبنى المطاعم والفنادق

دولة فى شارع اوشقة

مقهى يدور كزهرة الصبار نحو الشمس.

ومع شاعر آخر هو احمد عبد المعطى حجازى نستشعر ذات النسج القصصى الدرامي الغنائى كذلك ، ولكننا نستشعر غلبة الطابع الحكائى القصصى ، التواصل الافقى لبناء الصور البارزة لا تساقط فى فراغات ، لا انتقالات مفاجئة ، بل نتحرك حركة تكاد تكون منطقية الخطوات في تشكيل بنية القصيدة دون أن نسقط فى تجريد أو شكلية القصيدة عنده ملاء متماسك متصل وجدانيا

دلاليا ونغميا . بل لعل ايقاع شعره ان يكون عنصرا اساسيا من عناصره الدلالية. على اننا نحس احساسا شبه لمسى باشياء العالم ، لا أقول معطياته ، وانما اشياءه ، ملموساته . إنه شعر الواقع المباشر الحي متجسدا متشكلا مصاغا فى واقع الشعر . إنه شعر لا يستنسخ الواقع وإنما يكتشف فيه شعريته . وواقعه الاشارى المباشر ، هو واقعنا العربى ، همومنا القومية جراح حياتنا اليومية ، مفاخرنا وامجاد تراثنا ، الا انه فى شعره وبشعره يرتفع الى رمز انسانى شامل وان لم يفقد خصوصيته الحارة . ذلك انه فى اعماقه وفى اعماق شعره ، بقايا الحزن الريفى الرومانطيقى . ما زال الضياع بين القرية التى غابت ولم تغب ، والمدينة التى تغيب وتغرب ، حلما فروسيا من اجل الحق والسعادة وانسانية الانسان ، ولكنه لحلم - على فروسيته - حزين حزين .

ولعل قصيدته ( طردية ) ان تكون من ابرز قصائده تعبيرا عن جوهر نهجه الشعرى :

هو الربيع كان ، واليوم احد

وليس فى المدينة التى خلت

وفاح عطرها سواى ،

    قلت أصطاد القطا ،

    كان القطا يتبعنى من بلد الى بلد

    يحط فى حلمى ويشدو

    فاذا قمت شرد

حملت قوسى وتوغلت بعيدا

وجه الصبى الذى ليس يؤكل ميتا ، ووجه النبى

الذى تتآكله خطوة فى السماء الغربية

واذ يقف الناس فى ساحة الطيران جلوسا ، يبيعون اذرعهم : سيدى قد بنيت العمارات .. اعرف كل مداخلها ، وصبغت الملاهى.. اعرف ما يجذب الراقصين اليها . ورممت مستشفيات المدينة ... اعرف حتى مشارحها. سيدى ... لم لا تشترى ؟ ان كفى غريبه (23 ) .

- اجس ذراعك ؟

- يا سيدى جسها ...

- امس . اين استغلت ؟

تطير الحمامات فى ساحة الطيران ... وعينا المقاول

تتجهان الى الاذرع المستفزة . يدخل شخصان

سيارة نقل . ثم يدور المحرك ، ينفث فى ساحة

الطيران دخانا ثقيلا ... ويترك بين الحمائم والشجر

المتيبس رائحة من شواء غريبة .

وقد اكتفى اخيرا بالحديث عن شاعر آخر يتميز شعره كذلك بهذا النسج القصصى الافقى الذى يقاطعه ويتقاعد عليه بنض درامى حاد وغنائية عالية ، هو الشاعر امل دنقل ذلك ان لهذا الشاعر ما يميزه عن اغلب الشعراء المحدثين فهو يكتب احيانا ، بل فى كثير من الاحيان ، بلغة اقرب الى النثر العادى ، على انه يتمكن بها من رسم صور حسية بارزة ناتئة فى خشونة قاسية وهو يوظفها فى اقتدار للتعبير عن تهكميته الحادة وسخريته الشديدة المرارة ، والتى تجعل منه نسيج وحده فى هذا المضمار .

نقرأ فى ديوانه ( تعليق على ما حدث ) (24 )

كل صباح

افتح الصنبور فى ارهاق

مغتسلا فى مائه الرقراق

فيسقط الماء على يدى .. دما

    .....

  وعندما

  اجلس للطعام مرغما

  ابصر فى دوائر الاطباق

جماجما

مفغورة الافواه والاحداث .

  او يقول فى الديوان نفسه :

توقفنى امراة ..

  فى استنادها المثير

على عمود الضوء :

كانت ملصقات ( الفتح ) و ( الجبهة ) ...

فى النهار المبتعد

ابحث عن طير القطا

حتى تشممت احتراق الوقت فى العشب

ولاح لى بريق يرتعد

كان القطا

ينحل كاللؤلؤ فى السما ثم ينعقد مقتربا ،

مستجمعا صورته من البدد

مسا قطا ، كانما على يدى

مرفرفا على مسارب المياه كالزبد

وصاعدا بلا جسد

صوبت نحوه نهارى كله

ولم احد .

عدوت بين الماء والغيمة ،

بين الحلم واليقظة مسلوب الرشد

ومذ خرجت من بلادى ..

لم اعد .

( يتبع)

اشترك في نشرتنا البريدية