فى الذكرى السبعين لميلاد ميرزو ترسون زاده فى دوشنبي ( تاجيكستان ) 1977/1911 .
( ولد الشاعر التادجيكى الكبير "ميرزو ترسون زاده " فى قرية كاراطق من ولاية قويسارى بتادجيكستان فى عائلة نجار مختص بوضع السقوف الخشبية ، واعتنق منذ طفولته مبادئ ثورة أكتوبر الاشتراكية فأثر ذلك فى مساره الفنى وطبع ذهنيته ككاتب مبدع وشاعر خلاق اذ تشبع بالتقاليد الثورية التى تميز الادب السوفياتى المتعدد القوميات . ونضجت مواهبه فى معترك الكفاح الذى خاضه الشعب كله لتشييد المجتمع الاشتراكى العادل والمتكامل والمنيع . لذلك كانت اشعار ميرزو ترسون بمثابة الاناشيد الوطنية والترتيلات الحماسية الدفاقة النابضة بالحياة تشيد بالثورة وبالحرية وبالحب وترجع كابدع صدى نبرات اصوات ضمائر البشر الذين يعمرون الشرق الجديد وقد افاقه من سبات القرون المتلاحقة صور الثورة التى اندلعت فى اكتوبر المجيد .
فكانت " الترنيمة الهندية " وكانت " افريقيا يا اخيتى " وكانت " يا عزيزتى "وكان " صوت آسيا " و " حسن اربكاش " و " النور الخالد " ، وغيرها من القصائد والاناشيد والملاحم والاساطير الشعرية التى تعتبر اليوم من أثمن ما تحتويه كنوز الثقافة السوفياتية ) .
هكذا يقدم ترسون زاده يورى بوتشكارف رئيس تحرير مجلة الآداب السوفياتية فــ عددها 229 لسنة 1978 .
اما سرڤـاي ناروفتشاتوف الشاعر الروسى المعروف فانه يقول فى تأبينه :
" كان رفيقا باصدقائه حنونا متسع الصدر الى اقصى الحدود . وكان له بالاتحاد السوفياتى وبالكثير من البلدان الاجنبية بالمشرق اصدقاء لا يحصون . . كان مؤمنا بالثورة منذ حداثة سنه فاعتنق مبادئها واخلص لها حتى النهاية اخلاص المناضل الصادق الامين . وكان فى نفس الوقت الشاعر الكونى المهم الذى يعشق الشعر التادجى - فارسى ويطرب لاشعار الشعوب الاخرى ويقدر ثقافات الغير حق قدرها " .
كان ترسون دائم استلهام القدامى فى اشعاره يعتبرهم قدوة ويستوحى ما يساعده على ان يعكس فى اشعاره تلك التجربة الفريدة التى تتمثل فى قلب وجه العالم امام عينيه هو الشاعر وشاهد العيان الذى يعيش التحول الجديد الذى دفعت عجلته ثورة اكتوبر .
وان ابطال قصائده لرجال كلهم تعلق بالجميل وبالفعل الحسن وانهم لمصممون على بناء المستقبل الافضل للبشرية قاطبة وعلى صنعه بيديهم . لذلك هو عزيز علينا جميعا ولذلك سيبقى حبه يعمر قلوب الملايين من القراء فى مشرق الارض وفى مغربها .
وميرزو ترسون زاده منذ سنة 1946 لم يفتأ يدير اتحاد الكتاب التادجيك . مرنا لطيفا وشديدا فى الحق عنيفا فى ذات الوقت . يساعد كل المبتدئين فى الادب على البروز وينمي ملكاتهم الفطرية ويفتق قرائحهم لكنه لا ينفك يطالب بالحفاظ على المبدإ وبالتمسك بأخلاقية الثورة مع مناشدة الكمال الجمالى فى ممارسة الفنون والاداب السوفياتية .
وكان ميرزو يوفق بيسر عجيب بين اعماله الادبية وبين العديد من أوجه النشاطات الاجتماعية والسياسية الهادفة كلها الى الكفاح المستمر من أجل السلام والتضامن بين الشعوب . فكان فى نفس الوقت نائبا باللجنة المركزية للاتحاد السوفياتى وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعى بجمهورية تادجيكستان وعضوا ناشطا بأكاديمية العلوم بجمهورية تادجيكستان وكان ايضا - ومن هنا أتت معرفتى به شخصيا ثم الصداقة التى ربطتنى به منذ أكثر من عشر سنوات - أحد المؤسسين لحركة التضامن مع شعوب آسيا وافريقيا ورئيس فرعها السوفياتى.
وبلغنى نعيه منذ أربع سنوات فانفطر قلبى اسى على فقدانه ولم اجد من سلوى الا فيما وجدته من اشعاره بمكتبتى وما اعدت قراءته من مقالات
وخطب وكلمات متناثرة فى الصحف والمجلات السوفياتية التى ترد علي من سفارة الاتحاد السوفياتى أو مباشرة من موسكو أو دوشنباي عاصمة تادجيكستان .
ودعيت فى بداية العشرية الثالثة من شهر سبتمبر للسفر الى دوشنباى بمناسبة احياء الذكرى السبعين لميلاد ميرزو ترسون زاده فقبلت الدعوة دون اى تردد رغم اشغال مستعجلة الانجاز كانت تسمرنى بالبيت منذ العديد من الاسابيع ... وهل كان لى ان أتردد وأنا ما انفككت مند عرفت ترسون ثم صديقه وصديقى مؤمن قناعات خلفه على راس اتحاد الكتاب التادجيكيين ، أتشوق الى زيارة مدينة " سوق الاثنين " ( بالترجمة الحرفية لكلمة دوشنباي ) ذلك أن من بعثوا هذه العاصمة الى الوجود كانوا تجارا مهرة وقد تكون فطنتهم السليقية هى التى أوحت اليهم بهذا الاسم الغريب الذى لا اتصال له بأية شخصية اسطورية أو حادثة بطولية فى التاريخ اذ اقتصروا على اطلاق اسم " اثنين " أو " بداية الاسبوع " على سوقهم ( الكشلاق = أو القشلة ربما ) لتصبح سوقا قارة ثم قرية ثم مدينة ثم عاصمة لجمهورية فكأنما الاسم ذاك " ثلمة للذكرى قدها نجار صناع فى كفاف باب مفتوح على المستقبل " كما يقول صديقى الشاعر الموهوب " مؤمن قناعات " الذى لا يفتأ يتغنى بمدينته كالمتغزل بفتاة أحلام سحرية . زرت دوشنباي وقضيت بحنة من جناتها اسبوعا كاملا بين التفاح والرمان والجوز والكرم وأنواع من الازهار والورود خلت والله أني فى بستان من بساتين فارس الغناء التى طالما الهمت الشعراء وفتقت القرائح .
أيكون أخى ترسون زاده هو الذى اهدانى بمناسبة احياء ذكرى ميلاده السبعين فرصة الانتقال الى دوشنباي والاقامة بدار الضيافه فيها لاسبوع هو خير من الف شهر ؟ قد يكون نظم ذلك وسهر على ادق دقائق الامور كعادته فى احكام التنظيم واغداق الكرم والعطاء . كنا فئة قليلة من الكتاب والشعراء الاجانب . أتيت من تونس وأتى معين بسيسو من جبهة التحرير - لست ادرى من أين على كل حال - وأتى أدونيس من لبنان وصديقنا ڤـاوسو من مالى وصديقانا جعفر جعفرى من بومباى وموكرشى من كلكونا وشيخنا الوقور فائز محمد فائز أمين عام اتحاد الكتاب الآسيويين الافريقيين من باكستان . ووضع جميعنا فى جنة فيحاء وارفة الظلال وافرة الغلال فما من احد منا لم يتذكر شعر ترسون فى " الصديق " .
كن مخلصا للصداقة .. ذاك الكنز الفريد لا تفرط فيه حب الناس لانهم موقدك الوحيد .. لا تفرط فيهم اذ كيف يعقل ان تحيا بدون صداقة او ان تفكر او تعمل ؟
صديقك كإرث اجدادك لا تفرط فيه وليربطك اليه قلبك والروح معا والى الابد فياتعسك لو قلت له فى يوم من الايام : وداعا صديقك لا تفرط فيه
نحن دائما نكرع من معين وحيد هو الشعب وحب شعبك الآنف الكريم لا نفرط فيه الازهار الباسمة التى تنير العالم حولك وتلك الشفاه التى يغار من روعتها الجنان لا تضعها ... لا تفرط فيها
يأتيك الصديق : ادعه للدخول وضمه الى صدرك طويلا فالكرم التادجيكى الذى ما انفك يضم صدرك لا تفرط فيه
كل ابناء القبائل البشرية اخوانى اناشدك اذن الا تضيع صداقة المكدودين صداقة الكادحين لا تفرط فيها .
وإني لأعد القارئ الكريم بلقاء مع شعر ميرزو ترسون زادة فى فرصة لاحقة قريبة بحول الله .
فى الذكرى ال 840 لميلاد نظامى غنجوى بباكو (اذربيجان)
ومن تادجيكستان انتقلت الى اذربيجان وعلى وجه التحديد الى باكو عاصمة النفط والزيتون للمشاركة فى الاحتفاء بذكرى مرور ثمانمائة واربعين سنة على مولد استاذ غنجة الشهير شاعر " المحبة والعمل " نظامى غنجوى
فى قلب مدينة النفط التى تعتبر من اكبر خزانات الذهب الاسود بالاتحاد السوفياتى انتصب تمثال كبير وسط حديقة غناء لشاعر اذربيجان وحكيم الشرق الاوسط كله فى القرن الثانى عشر نظامى غنجوى . زرنا النصب
التذكارى ووضعنا تحت قدميه عشرات الباقات من الزهور ثم كان لنا معه طوال اربعة ايام متتالية جلسات عمل جمعت بين التحليل المستقصى والنظرة النقدية الجامعة . اذ استمعنا الى العديد من اساتذة جامعات الشرق والغرب وهم يحدثوننا عن نظامى وعن عصره وعن آثاره " خمسة " و " اسكندرنامة " و " خسروف وشيرين " و " مخزن الاسرار " مدللين بالامثلة والاستشهادات وبمقتطفات من قصائده وملاحمه الشعرية الرائعة
نظامى غنجوى هذا حرى بعناية ابناء هذا العصر فى المشرق والمغرب على حد سواء . فهو شاعر العمل يمجده ولا يقيم للانسان وزنا بدونه وهو شاعر الحب العذرى يرفعه الى مستوى القداسة وهو الحكيم الذى يحلم بالمجتمع العادل الذى تتساوى فيه حظوظ المواطنين ويعم فيه الخير جميع الناس حتى يبلغ فيه الاطمئنان والسلم وحسن الجوار حدا يجعل المدينة الفاضلة فى غنى عن اقفال الابواب وحراس البساتين وقضاة المحاكم وعصا الشرطى وخوذة الجندى . وهو صديق الانسان مهما يكن لون بشرته ونبرة صوته ومنزعه فى الدين او الملة او المذهب السياسى يدعو الى التعايش السلمى ويندد بالغزو وبالحرب وبالظلم وبالتعسف وهو باعث المدرسة النظامية في الشرق الاوسط اثر أدبه في الشعراء والكتاب ورجال الفكر والثقافة منذ القرن الثانى عشر الى ايامنا فى جميع اقطار الشرق الاوسط فكان له تلاميذ بتركيا وبايران وبكازاكستان وبارمينيا وباوزبيكستان وبكرقيزيا وحذق الكثير من اللغات وكتب فى الفارسية وفى التركية وربما فى العربية فى عصره فذاع صيته فى كل الاصقاع وطبقت شهرته الآفاق من الشرق الاسلامى الى الغرب الاوربى اذ نقل اليه فرائد علوم اليونان وفلسفتهم وبعضا من آدابهم .
يقول عنه الاديب الالمانى غوته فى ديوانه " الشرق والغرب " " انه كان يعبد الجمال ويرفعه الى درجة التأليه " ويكتب عنه علماء الاتحاد السوفياتى منذ القرن السابع عشر الى ايامنا الرسائل المطولة والبحوث العميقة المستقصية المستفيضة ويدرس أدبه فى كليات اذربيجان والعديد من جمهوريات الاتحاد السوفياتى .
ويعتبر الكثير من علماء عصرنا ان نظامى اثر فى الادب الاوربى فى القرن الثانى عشر تأثيرا ملحوظا ومباشرا مما دفع الى الاهتمام بآثاره بصفة مكثفة ومتزايدة بداية من القرن السابع عشر بالخصوص . كما يعتبر الكثير من أدباء الشرق بكل فخر واعتزاز انهم تلاميذ لنظامي عنجوي ومنهم من
كرس حياته فى التآليف عنه والتعريف بادبه وترويج حكمه وامثاله واشعاره
وان مؤلفات نظامى عنجوى الذى نجهل عنها الكثير فى تونس قد ترجمت إلى كافة اللغات الحية الفصيحة فى العالم بما فيها اللغة العربية حسب ما اقرته بعض البحوث .
وفى سنة 1947 انتظم الاحتفال بالذكرى الثمانمائة لميلاد نظامى فترجم كتاب " خمسة " المشهور عشية الاحتفال بالذات الى الأذربيجانية والروسية كما ترجمت مقتطفات من نتاج نظامى الوافر الى اللغات الاوزبكية والتركمانية والكازاخية والكرقيزية والاوكرانية والليتوانية والارمنية والجيورجية وغيرها من لغات شعوب الاتحاد السوفياتى .
ونشرت الدراسات والمقالات العلمية عن هذه الترجمات من قبل الاساتذة بيرتلز وكريمسكى وبولدريب وجايكين وشاغينيان وزاهودوف وماكوفيلسكى وحسينوف وميرزو ابراهيموف ( صديقنا رئيس اتحاد الكتاب الاذربيجانيين ورئيس فرع الاتحاد السوفياتى لمنظمة التضامن الافريقى الآسيوى بموسكو ) ولقد قررت اللجنة المركزية للحزب الشيوعى الاذربيجانى سنة 1979 تكثيف دراسة التراث الادبى لنظامى غنجوى وتحسين طبع آثاره والدعوة الى نقلها الى اكثر ما يمكن من اللغات الحية .
وتقام بانتظام مهرجانات الشعر والمؤتمرات العلمية المكرسة لنظامى . كما يعرف متحف الادب الاذربيجانى باسم نظامى ويحتوى المتحف على قاعات خاصة بابداع الشاعر الحكيم فى شتى ميادين الخلق نثرا وشعرا . ويعكف الكثير من الرسامين والنحاتين والملحنين والكتاب على وضع ابتكارات جديدة مستوحاة من ادب نظامى وكثيرا ما يطلق الآباء على ابنائهم وبناتهم اسماء ابطال قصائده وملاحمه الشعرية تقديرا له واخلاصا لفنة مثل فرهاد وشيرين وليلى ونشابه .
يعلمنا نظامى غنجوى دروسا فى الحياة الراشدة النبيلة الهادفة كلها الى الخير والى السعادة فى السلام والطمأنينة ويدعو الاجيال المتلاحقة الى النضال من أجل ان ترتقى الحياة البشرية الى ذرى " العمل والمحبة " التى كتب من اجلها مؤلفاته وصرف فى الاشادة بها كامل اوقات حياته وقصارى مجهوداته وعصارة مواهبه .
فلننتبه الى هذا المعين الحى من الادب الانسانى ولنعر آثاره لفتة كريمة
