بحث قيم ممتع بذل فيه كاتبه الفاضل جهودا قيمة من البحث والدراسة مع شيخه العلامة عبد الله العمودى
إذا كنت معى ايها القارىء فى مدينة جازان ، حيث ترى بذور الحضارة الاسلامية الاصيلة ، وهى نامية تترعرع .. تراها فى مديرية التعليم وهى ترسل أشعة الثقافة ، فى اصقاع هذه المقاطعة البعيدة ، وتراها فى الحياة الاقتصادية حيث تسخر البواخر العديدة ، مياه البحر الاحمر الى ميناء جازان ، وتراها فى الحياة العمرانية ، بعد ان انسابت اليها مجارى مياه العين العذبة ، وتسللت بين شوارعها وتفجرت فى بيوتها ، وتراها فى مينائها الاستراتيجى حيث يصل اخصب بقعة زراعية ذات مساحة هائلة فى هذه المملكة السعيدة ، بالعالم الخارجى ، وتراها فى مطارها وهو يبتلع البعوث ، من اساتذة قديرين ، وخبراء فنيين . وغير ذلك من نظم وتنسيق واخبار عامة فى تاريخ حياة جازان ..
اذا كنت معى أيها القارىء فى هذه المدينة بالذات . فسوف لا يدهشك إذا ما رأيت هذه الصور الحية ، وهى تشق طريقها الى حيث الكمال .. فان الدهشة منها ستكون أكبر عندما
شاهد اعظم ناقلة للبترول ( الملك سعود ) وهى تتجه الى منابع البترول فى جزيرة فرسان .. وعندما تسمع خرير مياه مجارى السدود فى اصقاع هذه المقاطعة المترامية ، وقد جعلت اليد الحديثة من هذه الاصقاع . ظلالا وارفة ذات روعة وجمال ..
وانما لو كنت من الرجال المولعين بقرائتهم فى التاريخ ، وارجو ان تكون كذلك فلسوف تتساءل عن هذه المقاطعة . التى تسير صوب احداث جليلة .. هل كانت لها ضجة وجلبة وحضارة عربية عريقة على صفحات التاريخ واذا كان كذلك فكيف ومتى
وانا بدورى لا يسعنى الا أن أقف بك على ما يسميه رجال التربية والتعليم ( وسائل الايضاح ) فهى الكفيلة فى عرفهم الصحيح . بان تظهر حقائق الدرس واضحة وجلية ، وبدون أى مشقة ومجهود كبيرين ..
الى مدينتى المنارة والعدينة والآن فما عليك أيها القارىء الا
أن تركب معى فى هذا التاكسى بمدينة جازان ، وما علينا الا ان نتجه الى الخط الشرقى صوب مدينة ( ابو عريش ) ولا تتساهل - وانت تنساب فى هذا الخط - بهذه القرى المتناثرة بين الحقول على يمين الخط ويساره . فان من بينها قرية تقع على يسار منتصف الخط تسمى ( الواصلى ) ومنها سوف نتجه الى وسيلة الايضاح لتاريخ حضارة عربية عريقة ..
هيا بنا فلنعرج ، ها هى ذى قرية الواصلى ، أنظر الا ترى تلك القرية الرثة المهلهلة ؟ انها قرية ( الريان ) اذن فلندعها ولنتجه الى غربها ، والآن ما ترى ؟! الا ترى هذا الآجر الاحمر القاني ، المتناثر من هنا وهناك فى هذه المساحة الهائلة .. هذا الآجر الذى كثيرا ما استعان به عمالقة التاريخ القدماء ، على بناء الهيبة والصخب والعبودية ، هذا الآجر هو القوة ، التى أراد (فرعون) ان يستبد بها ويرسلها ستارا كثيفا على انوار العقل البشر البشرى ، حتى لا يعرف حقيقة الوجود ، ومن أوجد هذا الكون .. ( وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من اله غيرى فاوقد لى ياهامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلى اطلع الى اله موسى وانى لاظنه من الكاذبين )
ها هنا يا عزيزى القارىء . غرب قرية ( الريان ) ، وفى هذه المساحة الهائلة بالذات . المدينتان الضخمتان المعمورتان باحداثهما بين خلايا التاريخ نأمل هذه الآكام .. هل لا كانت فى يوم من ايام التاريخ القديمة ، اسسا
لصروح حربية شاهقة تناجى السماء باسرارها .. ؟ وانظر هذه الفجوات المنخفضة هل لا كانت هى ايضا شوارع منسقة رائعة ..
لو كنت ايها القارىء روائيا قديرا لوجدت فى هذه المشاهد المندثرة . المواد الخام لنسج أعجب رواية تمتاز بالواقعية والعفة . عن هذه الروايات الغربية الخليعة . التى لا تساير الضمير الانسانى . ولا تربى مواهب العقل البشرى . وتعنى أكثر ما نعنى الى تصيير الانسان حيوانا محروما من العقل والضمير ، منهما مشبعا غرائزه الجنسية ، الى أبعد حدود تعرفها حياة الوحوش فى الغابات ..
ها هنا يا عزيزى القارىء ، وفى هذه المساحة بالذات . كانت تعيش الشجاعة والفروسية والخيل المسومه وكانت الفاتنات الساحرات يملأن هذا الجو أبهة وجمالا وروعة .. وكان الحب العذرى البرىء ، والى جانب هذا كان هنا بالذات يعيش فطاحل العلماء ومصاقع الخطباء ومغالق الشعراء .. ها هنا كان يعيش العقل البشرى . بعيدا عن المدنية الحديثة ذات الطابع المادي المنسلخ .. ها هنا كان كل شئ جميلا ورائعا جدا .. حتى حتى اصطبلات الخيل ومبارك الابل ومرابض الغنم ، كانت هى أيضا جميلة ورائعة ..
والان وانت تقف الى جانب هذه المشاهد التاريخية ، تتلهف بدافع
حب الاستطلاع ، الى تاريخ هاتين المدينتين الحافلتين باحداثهما . ولكنى اطلب منك ان لا تتعجل . حتى ندرس مدينة أخرى . لها معالمها التاريخية واحداثها الضخمة . انها مدينة ( درب النجا ) وقبل ان نصل اليها تعترضنا مساحات هائلة من الارض الخصبة ذات المروج الخضراء .. انها معامل ( وادى جازان ) هذه المعامل وأمثالها فى هذه المقاطعة الخصبة . يرى فيها سكانها اشراق فجر حضارة جديدة زاخرة ..
الى حضارة جديدة والآن دع هذه المشاهد الاثرية ، ويمم وجهك صوب الشرق . أنظر هذا الافق الواسع الرحب. وتأمل هذه الكبرياء فى الحقول المترامية من الذرة والسمسم انها فتانة ورائعة . وهى لا تزال فى زيها البدائى ولما تمسسها اليد الحديثة ، انها تشرق على هذا العصر وهى فخور بأصالتها فى الخصوبة والنماء ، انها تبدو وهى قائله فى هذا الزهو والخيلاء : ان حضارة آبار البترول لن تكون فى يوم من أيامى الجديدة .. اكثر منى اسعادا ورضاء ..
وليس هذا الدلال وهذه الفتنه فى هذا المعمال الذى نشرف عليه ( معمال مخماس ) فهو لا يقاس بشىء الى جانب المعاميل التى أمامنا ( امخشابيه )
( امشعوب ) ( صلب امقرفى ) (بلاج) ( التربتيه ) ( مخرج ) ( سحيم ) ( صلب العقده ) ( امصافيه ) (امضغر) ( الفتحيه ) ( امهات البيض ) بتشديد الياء ( أمشباهن ) ( خريم ) (الجاره)
وفى هذا المعمال الاخير . المسمى بــ ( الجاره ) مسجد المدينة التاريخية ( درب النجا ) .. فما علينا الا ان نضغط على صمام الوقود ، لنهب من هذا التاكسى . ماردا جبارا ينساب بنا اذا شئنا فى ترفق تارة ويندفع بنا فى تهور أخرى ، والآن وانت تجوس ظلال هذه الحقول الفيحاء .. تصور كيف يمكن ان تبنى الزراعة هنا فى هذه المقاطعة ، صروح حضارة مشرقة زاهرة ..
وعلى أى شىء تدلك هذه الحواجز الرملية المنسقة المسماة ( الزبر ) .. والتى تحتضن الحقول ، وننظمها رائعا . وعلى أى شىء تدلك تلك الحواجز الرملية الهائلة ، المسماة ( العقوم ) والتى تمتد إلى بطن الوادى وتعترض السيل الجرار وتوزعه توزيعا عادلا .. وعلى أى شئ تدلك هذه النظافة والاناقة فى الحقول والتربة افلا يدلك هذا على ان الفلاح فى هذه المقاطعة . يبذل مواهب غزيرة من فكره واعصابه فى ازدهار الزراعة وتقدمها ..
الى درب النجا والآن وانت فى معمال ( الجاره )
افلا تلفت نظرك الهضبة المرتفعة ،ذات الصخور السوداء الكبيرة ، والواقعة فى الجنوب الشرقى من المعمال .. ؟ وهل لا يلفت نظرك وأنت تتطلع اليها من بعد ذلك السور الشاهق .. ؟ انه يحتضن مساحه قدرها اربعون فدانا . وهو هو معقل المدينة التاريخية العريقة ( درب النجا ) .. وكلما كنت اقرب الى الهضبة كانت القلعتان الشمالية الشرقية .. والشمالية الغربية اقرب الى الظهور ..
أنت الآن فى الجهة الشمالية من الهضبة ، وامام الباب الشمالى الكبير للسور ، أنظر أى قوة هذه التى جعلت من هذه الصخور الصماء الضخمة هذا السور الحربى الرائع .. اذن فلنترجل ولنتسلق هذه الهضبة المرتفعة والآن وقد دلفت من الباب الشمالى وتسلقت المبانى ذات الصخور الهائلة الى قمة القلعة الشمالية الشرقية الق بنظرة منك الى داخل السور وتأمل القلعة الشمالية الغربية الشاهقة .. وآثار القلعتين الجنوبية الشرقية والجنوبية الغربية .. وآثار القصور والثكنات والشوارع التي يكتنفها السور مع القلع الاربع .. ثم الق بنظرة اخرى الى خارج السور وتصور كيف كان يجلس رجال الدولة وارباب الترف على شرفات هذا السور وهذه القلع الشاهقة . وهم ينظرون تارة الى أمواج مياه الوادى من الجهة الشمالية
الشرقية وهى تضطرب وتتلاطم واخرى الى المناظر الطبيعية الخلابة الممتدة غربا الى حيث لا ينتهى الطرف .. وتصور ايضا الحشود الهائلة من شكاة السلاح والرؤساء والوجهاء وقد تصدر مجلسهم المهيب شريف احمد المهدى صاحب العصر الذهبى لآل قطب الدين الذى كان يربى مواهب الشعراء ويجيزهم الخيل العتاق .. تصور هؤلاء وهم يتمايلون نشوة وطربا من ذلك الشاعر الموهوب ( الهبى الصعدى ) الذى اضاف الى خيال الشعراء حكمة الفلاسفة .. وستعرف تاريخ هذه الآثار وتفصيل هذه الاحداث بعد أن ندرس الآثار فى مدينة ( ابو عريش )
الى ابو عريش والآن فلنترك دنيا التاريخ والعبر ونحن فى طريقنا الى الآثار التاريخية فى ( ابو عريش ) ولنتمتع بدنيا النضارة والجمال فى الحقول الخضراء بمعمال الجارة الممتدة غربا الى قرية حاكمة .
وهذه (حاكمة ) وهل تدرى ما يقول الناس هنا عن (حاكمة ) انهم يقولون : بانها ستكون مأوى الآلات الزراعية الحديثة ، المصيف الذى يكشف كل سر من اسرار الجمال وخلابة الطبيعة فى معمالى (خريم ) والجارة
وقبل ان نصل ( ابو عريش )
تعترضنا مساحة زراعية كبيرة ذات ظلال وروعة انها ممال ( الزويبله ) نحن الآن فى الخط الزراعى الممتد من ( حاكمه ) الى ( ابو عريش ) وهذه هى مدينة ( ابو عريش ) باكواخها الغبراء الكثيرة المتناثرة ، اذن فلندع الخط الذى ينتهى بنا الى السوق الواقع هى قلب المدينة ، ولنتجه شرقا الى المركز الشرقى مركز الاشراف الامرة ذرية الشريف قطب الدين ..
والشىء الذى يلفت نظرك فى مدينة ( ابو عريش ) هذه النظافة فى شوارعها ، لو قدر لك ان تدخل اكواخها لرأيت عجبا فى النظافة والتنسيق وزخرفة الاكواخ بالالوان ولمعانها المتوهج بالطلاء الابيض الناصع المسمى عندهم ( النورة ) وتنظيم السرر والوسائد الوثيرة ، وهذه الظاهرة النبيلة كانت ولا تزال ارثا عن حضارة الاشراف الذين حكموا أبو عريش فى سابق عهده ، وهذه الظاهرة هى ايضا التى استرعت انتباه احد الخبراء الاجانب فقال بعد أن ذكر خصوبة هذه المقاطعة : ان شعب وادى جازان شعب عريق فى حضارته ومدنيته ، وقد نشر هذا التصريح فى احد اعداد الايمان التى تصدر فى اليمن ..
القلع الامامية وهنا فى شرق مركز الاشراف الامره نرى آكاما مرتفعة ومنخفضة ، هى
آثار القلع الامامية واذا ما قدر لك ان تدخل المسجد الشرقى الذى هو من الآثار الامامية ولا يزال يصلى فيه الجمعة حتى الآن . اذا ما قدر لك أن تدخل عدا المسجد ، فسوف يلفت نظرك بيتان من الشعر بخط هندسى عربى رائع على اطار المحراب وهى :
أيها الناظر هذا
من شريف ولى العزم مقاده
كان ما كان من المجد الـ
ـذى اعمر البيت اعاده
وستجد أيضا صخرة كبيرة على شكل مسطيل قد كسرت ، وقد تفنن صانعها فنقش عليها . النسب الامامى العريق وافرغ فى هذا النقش كل ما عنده من مواهب فنية رائعة ..
الشامخ وهنا .. فى الجنوب الشرقى من ( ابو عريش ) ترى آكاما بآجرها الاحمر القانى ذات مساحة مربعة الشكل ، ولا تزال يطلق عليها حتى الآن اسم ( الشامخ ) فى النصف الشرقى منه بئر واسعة ، هى أوسع بئر فى ( ابو عريش ) والشامخ هذا هو المعقل الفخم الذى بناه الشريف الحسن بن محمد
أما الآن وفى العصر السعودى الزاهر فقد مسح فكانت مساحته
٢٠٠ ×٢٠٠ مترا ليكون مستشفى كبيرا . له استراتجيته فى قلب هذه المقاطعة المترامية الاطراف . وهكذا يعرف الناس هنا فى ( ابو عريش ) فى هذا العهد المشرق بدل الآثار التاريخية مستشفى ضخما يغزو فيه الطب الحديث الامراض الفتاكة ويهب من الشعب شعبا قويا صحيحا ..
الظاهر ومعجبة والبرشاء وهنا فى المركز الغربى المسمى بالديرة ، تقع ثلاث معاقل تاريخية ، اما احداها وهو الظاهر فيقع شرق المركز . ولا تزال تتوسطه قلعة
شامخة . لا ترتقى قمتها الا بعد مشقة وجهد كبيرين . والمعقل الثانى معجبة ، ويقع فى الجنوب الشرقى من المركز ولا تزال آثاره تشغل مساحة كبيرة ويقع غربا عنه المسجد التاريخى الكبير . ويمتاز بدعائمه القوية وتصميم اطاراته المحكمة وقببه الثمانى عشرة الكروية البيضاء ، ومنارته المرتفعة .. والمعقل الثالث ( البرشاء ) ويقع غرب المسجد الكبير وفى الجنوب الغربى من المركز ولا تزال آثار هذا المعقل ايضا تشغل مساحة كبيرة ، وكل هذه الثلاثة المعاقل مع المسجد الكبير هى آثار الشريف حمود
(البقية فى العدد القادم )
