الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 4الرجوع إلى "الفكر"

آراء نقدية فى الادب المعاصر

Share

الأدب المعاصر له اتجاهات متعددة ومذاهب شتى . لكن الطابع الذى غلب عليه هو الطابع التنبئى الثورى . فقد كان النتاج الأدبى والفنى نتاجا متمما لأشكال الحضارة الأخرى وهو بالأخص منبثق عن التبع الفكريين للأرسطوقراطيات الحاكمة . فالشعر البلاطى هو أهم التعابير الفنية فى الأدب العربى وأدباء البلاط الكلاسيكيون فى فرنسا إنما كانوا ، فى نطاق ادعاء أساسى الى الانسانى الأزلى ، خاضعين لذوق الملك وحاشيته . لقد استمكن الاتجاه الثورى المستقل فى الادب ابتداء من القرن الثامن عشر واستقر استقرارا فى القرن التاسع عشر بتحرر العملية الخلقية الابداعية من كل أداة حكمية غير هدفها الاصلى الداخلى أى أن هذا التحرر ضرب على الضغط الاجتماعى بجميع أشكاله ما بين قوانين الذوق الارسطوقراطى أو البرجوازى وبين المطامح الفنية الغامضة للجمهور . وعاد الأثر خلافا بنفسه لوسط نفسانى يتأثر به راضيا كان عنه أو ساخطا . بل لقد تحرر الأدب حتى من أحكام النقد المهنى والنقاد المهنيين الذين صاروا يكيفون مقاييسهم بالقيم الوسطى التى داخلت الشعور الفكرى الجماعى تبعا لتطبعه بما بثه الخيال الخلاق .

إن هناك سوسيولوجية للأدب وتحليلا نفسانيا للخلق الفنى ولكن النقد الصحيح - وإن تأثر بهما - تواق لما هو أكثر . ذلك بأن الناقد وإن وضع نصب عينيه المحيط الأصلى الذى نتج عنه هذا الشكل لا ذاك من الأدب وإن وعى الأجهزة المسببة والمسهلة له يمكث دوما فى مستوى حياتى مطلق متعلقا بالأثر وما يرمز إليه .

فكل اثر بشرى متأثر بشروطه الأصلية فردية كانت أم اجتماعية لكنه يتجاوزها بما فى النفس البشرية من وزن حرية وقدرة انطلاق . تقيد الأثر الأدبى بالبيئة والعصر والشخص والتيارات ينفسخ أمام الشرارة الخلافة وأعنى بها لحظات التوتر الروحى التى تقفز الخالق الانسان عبر قيود الحالى و حدود الحالى . والنقد الحق إذن توفيق صعب المنال بين الاحساس بالمسببات والأعراض وبين الشعور النضاح بمطلقية الأثر وبما ينطوى على من كثافة وتغرب .

ولئن كان النقد كذلك فهو أيضا رد فعل إنسان على همسات إنسان وهو بذاته مقيد باختيارات فكرية سابقة أو منكشفة وفى الآن نفسه تجاوز لوجدانيتنا وتحيزاتنا وشعور مع واهتزاز مع .

الأدب هو الحياة وليس بالحياة وهو إرضاخ للواقع بوسيلة الفكر وتحد له أو بالعكس هزيمة مؤسفة أمامه . الآن ندخل من النقد الذاتى - لأثر ما أو تيار ما - الى النقد الماورائى الموحد المتعالى أى الى نظرات متجهة الى ما هو مشترك فى منتثرات أدب وعظمة خلق . فماذا فى مصير البشر ما يجعله يتأدب أو يتفنن ؟ فيه أن الطفولة مرت وأن عراك الحياة جملة متسلسلة من التوفيقات والتوترات وأن الأدب هو الشوق الى الحق الحياتى   authenticite  ' l أى شعور متألم وفى الآن نفسه آمل الى ما يمكن للانسان وما لم ينجزه الانسان : شوق الى المستحيل العذب ، الحق يقال لهذه هى إذن النواة الأصلية للتكدر الأدبى : إغناء الواقع ، إغناؤه الى ما لاحد . ومن هنا ضربت فى الأدب النزعات التنبئية الثوراتية . فلئن كان الفلاسفة الفرنسيون معبرين عن مطامح البرجوازية المستنيرة ضد أشكال الضغط القديمة لكفاهم هذا جلالة تنبؤية . لكنهم فى الحقيقة عاشوا على طبقة - بالمعنى الموسيقى للكلمة - ثقافة كاملة استمعوا الى همساتها المتعمقة المتأصلة . ولئن كان فلوبار فى القرن التاسع عشر ثائرا على سلم القيم البرجوازى المسيطر لأسباب شخصية اجتماعية فلقد كان كذلك يطمح الى عالم أخير ، الى إصلاح الحياة وما فيها من شوائب .

إصلاح الحياة ! رسالة عظمى أثقلت كواهل عظماء من المحررين والقادة والمفكرين والأدباء . إصلاح الحياة باسم نداء داخلى فى قلب الانسان المتحير . لكن هنا نتوقف هنيهة أمام تراكمات من سوء النية لم يسلم منها الأدب الحديث أو المعاصر .

فباسم ماذا - أولا - يطلب منا أن نقيم فكرة التساؤل والحيرة وتشكيل المشاكل حول كل موضوع la mise en question باسم ماذا رفع الغضب والتشاؤم الى أجل المراتب الأخلاقية وهو ألم فى قلب ذاته وعذاب . باسم ماذا ندد ببساطة النفس السليمة وبالبسمة الصافية الى الغير . أباسم طموح قوى الى الخير المطلق أجعل من قلبى روضة شر تزرع فيها الزهور الشائكة . فان كان حقا أن القعر الذى يستقيم عليه الأدب حب الحق الحياتى فالوساطة التى توخاها للوصول الى هذا الهدف وهى الكلمة - فى رواية أو مسرحية أو أقصوصة - هى وساطة مغالطة . وإنا لنتصفح الأفلام المعاصرة والنتاج المعاصر فنجد فيه دوما ترنيمة الشقاء فى هذه الحياة وقساوة الانسان وكل هذا حق لكن الحياة كذلك حب ورحمة وتضامن . إن سوء نية الأدباء مأتاها خروجهم من تجارب وجدانية إلى تعميمات مصورة حول كنه الحياة : هروبهم من الشخصى ومن شخصى مضطرب الى عمومى يفرض فرضا على أنفس قد تكون سلمت من

الاضطراب كما أن النزعة التنبؤية هي توق الى المستقبل . لكنى أريد أن أعيش حاضرى مدفوعا بماضى فاتحا عينى أمام مستقبلى . سوء نية كذلك تندديد فلوبار بالغباوة ورفضه لمجتمعه رفضا مصبوغا بكل ألوان الأسى . فلماذا الحنق لو لم يؤمن هو بنفسه بسلم القيم المرفوض ظاهرا ولو لم يشته فى قرارة نفسه أن ينجزه فيحوز بذلك رضى الغير واعتباره . لقد وعيت أن آثار فلوبار - وقررته من الأول - متجاوزة لشروطها النفسية ذلك لأنه صب حيراته فى قالب موضوعى له قوانين . ولكن الأدب الحالى عاد نفثا لهمسات وجدانية وتعبيرا مجردا من كل قانون مهنى فنى - تقنى - لسخط آخذ عروقه فى عدم انسجامات مع واقع لم يرفض فى الحقيقة . أن أريد وأشتهى أن لا ينحرف الأدب عن رسالته الأصلية الأصيلة : تقويم الواقع من اعوجاجاته الدنيئة ، سخط عن كل ما أكل قلب العلاقة البشرية فى حقيتها الحياتية , نزوع الى بناء المستقبل ولكن أيضا وفاء بالماضى ، تفتح أمام هذه النسبية الغريزة المنبسطة أمامنا والتى هى حاضرنا ، احترام لوساطة الكلمة حتى لا يبتلع الهدف الوسيلة إيمان حق بالقيم ولو نبذها المجتمع ، شعور بسوء النية ورفضها ولم لا ؟ الحب دوما والرحمة دوما والذهاب الى الغير وحتى هذا الاتزان المسكين الذى كم سخر منه ناقد أوروبى ضال ( mystifie ) .

اشترك في نشرتنا البريدية