حين نقرأ الشعر العربي نجد كثيرا من المعاني القرآنية تتضمن أبيات القصيدة وتظهر واضحة فيها لان الشاعر يأتي بها قاصدا متعمدا ليزيد بها فى جمال المعنى ، وعذوبة الالفاظ المختارة . . وفي الوقت نفسه يستشهد فى شعره بالآية القرآنية لتقوية القصد الذى أراد تبيانه فى نظمه .
وكان كثير من الشعراء الأقدمين يقتبسون المعانى والالفاظ من الايات والاحاديث المشهورة ، ويعتبرون ذلك مقدرة شعرية ، وقوة شاعرية على النظم بسلاسة وسهولة . . من ذلك ما اقتبسه القاضى محيى الدين بن قرناص من سورة " النازعات " فى قوله :
ان الذين ترحلوا
نزلوا بعين ناظرة
اسكنتهم في مقلتى
" فاذا هي بالساهرة "
يريد بذلك ان يوضح المعنى الذي هدف اليه . . وهو ان الذين ترحلوا لا يزالون أحياء على وجه الارض بعدها كانوا امواتا في بطونها . .
وجاء شاعر آخر لينوه بآية
" حسبنا الله ونعم الوكيل " فى احدى قصائده :
ان كنت ازمعت على هجرنا
من غيرما جرم ، فصبر جميل
أو كنت بدلت بنا غيرنا . . .
" فحسبنا الله ونعم الوكيل "
وذهب الشاعر " الحماسى ليقتبس الآية التى تصف التحية فى سورة النساء :
اهدى اليكم ، على بعد ، تحية
" فحيوا باحسن منها او ردوها "
وجاء الحتاتي المصرى يطلب محبوبته كشف القناع عن وجهها ليراها فيطمئن قلبه لأنها تتوارى عنه فى الحي خوفا من الناس . فيجنح الى اقتباس آية من سورة البقرة جاءت على لسان سيدنا ابراهيم عليه السلام :
اقول لذات حسن قد توارت
مخافة كاشح في الحي كامن
اريني وجهك الوضاح ، قالت :
الم تؤمن . . فقلت بلى ولكن
وتأثر بن سناء الملك برحيل جماعته وقومه ، فراح يصف شعوره بعد ان رحلوا وتركوه كسير النفس حزينا :
رحلوا ، قلت مسائلا عن دارهم
" أنا باخع نفسي على آثارهم "
وعرض شاعر بليغ بقوم خصوم له فوصفهم بقوله :
فياتون المناكر في نشاط
" وياتون الصلاة وهم كسالى "
واستاء الامام جلال الدين السيوطي من أعمال القضاة المشينة فى عصره فراح ينزل جام غضبه عليهم فى شعره ، وأتهمهم بأنهم ظالمون يحكمون اهواءهم لا عقولهم . . ويحبون المال ويكنزونه :
قد بلينا في عصرنا بقضاة
يظلمون الأنام ظلما عما
" ياكلون التراث اكلا لما "
ويحبون المال حبا جما "
وقال شاعر آخر يصف تقلب الانسان وتنوع ما يشتهيه فى دنياه ، وما يحرص عليه ويبتغيه :
يتمنى المرء في الصيف الشتا
فاذا جاء الشتا انكره
ليس يرضى المرء حال واحد
" قتل الانسان ما اكفره
وأراد آخر أن يشرح نظرية لكل شئ سبب ، فذهب يقتبس كلمات الآية الكريمة التى نزلت على السيدة مريم حين جاءها المخاض وهي قابعة تحت الشجرة :
الم تر ان الله اوحى لمريم
اليك فهزى الجزع يساقط الرطب
ولو شاء ادنى الجزع من غير هزة
اليها ولكن كل رزق له سبب
وهذا شاعر ظريف استملح آية من آيات سورة الدخان . . فراح يصف الدخان بقوله :
سالوني عن الدخان وقالوا
هل له في كتابنا ايماء
قلت ما فرط الكتاب بشئ
" ثم ارخت يوم تأتي السماء "
تلك آيات من كتاب الله اعمل بعض الشعراء قرائحهم للآتيان بها في اشعارهم بحسن قصد ، وصفاء نية ليبلغوا بها ما هدفوا اليه من معنى سام ، وشرح واضح . . وفي الوقت نفسه ليحولوا ذهن القارئ من عذوبة الشعر وموسيقاه الى سمو المعنى القرآنى وجلاله . .
واليوم فى عصرنا هذا لا نجد شاعرا واحدا يميل الى ذلك الاقتباس الجليل الذي ان دل فأنما يدل على سمو الروح ، وعلو النفس ، وذكاء العقل عند الشاعر العربى القديم
ان من بين شعرائنا من يحفظ القرآن عن ظهر قلب ، ولكن اشعارهم خالية كل الخلاء من معاني القرآن السامية فهل لنا ان نطمع من بعضهم ان لم يكن من كلهم ، فى ان يقلدوا اخوانهم الشعراء القدامى . . فيأتوا الينا بالجديد والمجدد معا فى هذا اللون من الشعر القوى ذى الجرس العذب ، والوقع المؤثر
