الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 2الرجوع إلى "الفكر"

أبو القاسم شاعرا

Share

مدخل : يتوفر شعر أبى القاسم الشابى على خصائص متميزة فى أنساقه وصوره ودلالاته وايقاعه ومجموعات قيمه ، لأنه شعر صادر عن صدق معاناة وتمرس ، رغم قصر حياة صاحبه ، ما دام رواه المعاناة والتمرس قد اكتسب ثراءه من عبقريته الفذة وشاعريته الموسومة بالنضج وحسن المأتى .

ان الشابى ، فى شعره ، لم يكن اتباعيا يستقطر مادته الشعرية من السلف فى دنف العاشق المفتون به ، وانما كان يستوحى شعره من تجربته فى غير قليل من التفرد والابتكار . وحتى لو اتكأ - أحيانا - على غيره ممن سبقوه ، فان ذلك لم يكن يحصل الا في نطاق ما تدفعه اليه مكوناته الثقافية وتحث عليه الترابطية الشعرية العربية فى تواؤم اتساقها وتشابه ترسلها فى الصورة العامة التى كان يقبلها عصره ويدعو اليها ظرفه ومناخه الأدبي العام .

كان الشابى ياتى بالمؤتلف المختلف الذى هو غير المألوف طبعا ، وكان معتمده فى ذلك هو اجتهاده الشخصى فى التصور والتأثر والاستيحاء ، وهو حاسته الفنية الخاصة . وهذا مما ساعده على اصباغ شعره بالشفوف والعذوبة ، وعلى اخصاب الدلالات وتعميقها بكل ما كان يطيق الافصاح عنه من افكار وخواطر ، فكان بهذا ، يقف بتميز وينتصب وكأنه انعطاف بالشعر العربى نحو وجهة اخرى لم تكن معهودة او ملحوظة عند معاصريه الا بقدر يسير فى تونس وفى جهات عربية اخرى . فالشاب قد مزج بين تجربتين : تجربة شعرية اصيلة بدأ بها واغترف من معينها وحاول التوقيع عليها فى التزام شكلى بها وإلمام بقواعدها فى الاغلب وتجربة جديدة تنم عن استكشاف واستشراف لم يظهرا الا عنده وعند قلة من شعراء الرومانسية ، مما شكل لديه صحوة مبكرة لها

استمداداتها وآثارها الدالة على فعاليتها . انه فى التجربتين معا كان " دعوة عنيفة قوية صارخة الى التجاوز والتخطى والاستشراف الدائم للافاق الجديدة والدعوة الى المغامرة بها وطرح الاسمال البالية " ( 1 ) حتى لا تبقى الدلالات مألوفة تؤخذ من المألوف المكرور ، أو من الوجود العادى البسيط وحتى تأخذ الانساق بعدا تخيليا لا يشحط عن حومة الابداع الحق الا فيما تقتضيه الاضافة اليه وهكذا كان يزاوج بين تجربتيه مزاوجة واعية فيها من حسن التجاور ما كان يجعله ينبه فيهما معا ، وان كان فى بعض الاحيان قد نشر " قصائد ومقاطع ضعيفة " ( 2 ) وقد " ندم على نشرها بعد ذلك " ( 3 ) ، ولعل ضعفها ناتج عن كونه كتبها فى بداية حياته الشعرية .

ان مزجه بين تجربتين انبنى على مراعاة الاستهواء الذي كان يخلقه لدى قراء العربية بعض أقطاب الاحيائية - وعلى رأسهم احمد شوقى - ثم على اقتناع شخصى ومكونات ثقافية ضاغطة ، وان مزجه بينهما ينبئ بحقيقة أولى ، وهى ان الشاعر انطلق من القديم بعد أن سبر غوره واستروح من عرفه ما امتلأ به كيانه وصدره ، وصار ملما به الى حد الاستغراق ، فاستدرك أسراره وخبر قواعده ، وفر عن ذكاء وفطنة فى استجلاء منسربات أوديته ، فأحسن بعد ذلك البناء عليه والقياس على مقابساته . وان قيامه بهذا ، دفعه الى أن يخالف القديم فى استيحاء أفكاره مخالفة قوية عنيفة ، لأنه اعتبر أن " سبب جمود الفن العربى واتباعه تلك الطريقة الهندسية المتشابهة التى لا تمت الحياة والعمق والخيال بسبب قريب أو بعيد ، هي : روح الأمة العربية القديمة ، فهى روح مادية ساذحة " ( 4 ) ، فجاء ادراكه للقديم عميقا وغريبا فى ذات اللحظة ، لأنه اعتمد الشكل القديم وحافظ على أساس بنيته ، إلا أنه وظفه توظيفا آخر لابد ان يقع معه التساؤل عما إذا كان ممكنا ان تجيء البنية الشكلية القديمة فى توظيفات جديدة تماما ومخالفة لمألوف القول الشعرى العربى الموروث من حيث الوظيفة الشعرية ؟

لقد جاءت ثورة الشابى على القديم مبنية على وعى لم يدفعه الى التحلل الكلى منه ، وانما الى استثمار ايجابياته وتوظيفها باتقان واقتدار فى استكمال شروط تعبيره عن فلسفته الجديدة من حيث تأصيل التعبير وتجويد الأداة . وهذا يعنى اننا عندما نلحظ هذه البنائية في شعره ، فانها لم تكن لديه وليدة صدفة أو وليدة موهبة لا تعمقها الثقافة ، بل كانت وليدة ثقافة تراثية ، ووليدة استرواح جديد للثقافات الجديدة ، ثم وليدة استعداد فطرى زاد فى تفاعل عطائه وتجويد عناصر تكوينه ونموه . هل كان ذلك لديه مبتكرا يختص به وحده دون أن يكون فيه متأثرا بدعاوى فكرية وتيارات فلسفية وفنية راجت فى عصره وتفاعلت مع أجوائه وبيئته ؟

" ان محاولات الاصلاح التى قامت فى أواخر القرن التاسع عشر بقيادة خير الدين باشا ومحمد بيرم وابن أبى الضياف ومحمود قابادو والتي هيأت العقلية التونسية لتقبل الجديد في الافكار والثقافة والعلم ، أتت ثمارها منذ بداية القرن العشرين . ومما ساعد على انتشار هذه الافكار التجديدية ، الصحافة التى دخلت البلاد التونسية بعنف مؤثرة على العقول ومثيرة النفوس ومحركة الهمم " ( 5 ) . فاستفادت القلة من المثقفين من هذه الحركة وأسهمت في اغنائها وتوسيع مجال امتدادها وتفاعلت مع دعواتها ، وحصل اللقاح الفكرى المطرد النماء ، وكان بعض افراد هذه القلة يعمل بجد لتحريك جذوة هذه الحركة ولقد شارك الشابى فى تأسيس جمعية الشبان المسلمين بتونس ، وكان من دعائمها المتينة واختير لها أمين سر فى أوائل علم 1929 ، وفيها وعلى منبرها علت دعوة التجديدية الأدبية والاجتماعية ، وندد بالجمود وتأله المفكرين " (6). فكان " يضع شعره فى صميم حركات الاصلاح التى كانت تعتلج بها النفوس آنذاك من بعث لحركة الشبان المسلمين ودعوة لتجديد الجهاز الثقافى التقليدى " ( 7 ) .

لقد كان واضحا فى توجههه هذا ، انه يستقى تأثره من محيطه ويصبغه بلونه الخاص : وان هذه الحقيقة مائلة بقوة لا يمكن بحال أن يحجبها الانتصار لأى توجه آخر ، أو لاية مذهبية جديدة مخالفة . فلقد " تحركت قرائح الشعراء فى

هذا الدور للتغنى بإحياء المجد الاسلامى والتطلع الى عظمته المقبلة والغيرة على عزته ..  فاتسع نطاق الشعر الحماسى بالاحداث الثائرة كحرب طرابلس الغرب .. وحركة الاكتتاب للهلال الاحمر ، وبالوعى السياسى وحركة التعليم القومي في تونس خاصة " ( 8 ) ، ونظرا لكون الشابى كان على تفاعل مستمر مع التيارات الفكرية والادبية التى سادت قبله واثناء فترة تبرعمه ، فانه كان لا يستعجل نفسه فى التنقل بين محطاتها للتظاهر بذلك ، والسبب هو أنه كان ينطلق من وعى الى وعى ، ويستوحى عناصر فكره باتزان وروية وينطلق من أصالة حقة ومن فهم عميق لمقتضى التوافق بينها وبين طموحه الشعرى .

انه فى تكوينه كان " قد تثقف ثقافة عربية واسعة ، وكان فيما يرى فيها من رأى ، انما يصدر عن معرفة كافية بها ، ولكنه كذلك قد ألم بأطراف مختلفة من الثقافة الأدبية العربية بصورة مباشرة - عن طريق الترجمات - وبصورة غير مباشرة - عن طريق الكتاب والأدباء العرب في مصر وفى المهاجر وفى تونس نفسها - فهيأ له هذا الاطلاع رؤية ادبية وفكرية أرحب وأعمق " ( 9 ) . على أنه " لم يكن يعرف لغة أجنبية " ( 10 ) لكنه " تمكن بفضل مطالعاته الواسعة من استيعاب ما تنشره المطابع العربية عن آداب الغرب وحضارته " ( 11 ) وكان لديه " الطموح على خير وجوهه " ( 12 ) ليجمع " بين التراث العربى فى ازهى عصوره وبين روائع الادب الحديث بمصر والعراق وسوريا والمهجر " ( 13 ) ، وبجمعه بين الايجابى من التراث العربى والمفيد من الثقافة الجديدة ، فانه " لم يكن متلائما بالروح أو بالعقل مع الثقافة العربية القديمة المسيطرة على بيئته فى تونس " ( 14 ) ، ولكن مع عدم تلاؤمه مع الثقافة القديمة ، كان يجد نفسه فى العموم حائرا " بين اتجاهين : اتجاه بالعودة الى القديم العريق كوسيلة للمحافظة على عناصر الشخصية العربية وجوهرها الصحيح . واتجاه نحو الغرب والتزود بما لديه من معرفة ، واتخاذها أداة للمشاركة الصحيحة فى الحضارة الانسانية

وايقاظ الأمة العربية وبعثها ( 15 ) فاستطاع أخيرا أن يخلق لنفسه مناخا مليئا بالجدة والقفز نحو الأعمق والأرحب فى الاتجاهين معا .

من هنا يتضح أن ما كانت تعج به تونس من تفاعل ثقافى عربى وغربى ، قد ساعد على تولد تيارات متكاثرة بلغت أحيانا أن احتدت حتى داخل الجماعة الواحدة . ففي الجماعة المشدودة الى العروبة كانت هناك تجاذبات مختلفة تستهدف الاستئثار بالجو الثقافى العام ، وكانت هناك ، فى نطاق هذه التجاذبات - تأثيرات عربية على مستوى الأقطاب . فالام محمد عبده " قد زار تونس مرتين : أ - الاولى مدة شهر تقريبا من 6-12-1884 حتى يوم 4 - 1- 1885 ، ب - الثانية من 9 الى 24-9-1903 ، ( 16 ) .

فالزيارتان حصلتا بدافع ما كان قد حث عليهما ، اذ نشطت جماعات مختلفة فى المجالات الوطنية والفكرية والدينية ، وألفت فيما بينها حركة هادفة " وقد زاد هذه الحركة توجيها صحيحا اتصال رجالها مباشرة بالشيخ محمد عبده والاستاذ محمد بك فريد حين زارا تونس وناقشا رجالها وحددا خطة المطالبة الاسلامية " ( 17 ) . كذلك فان احمد فارس الشدياق " زار تونس للمرة الثانية " ( 18 ) وكان " داعية للسياسة العثمانية " ( 19 ) له صلة قوية مع " محمد الصادق باشا باى تونس " ( 20 ) . كما زار تونس أقطاب آخرون لترسيخ دعاويهم واستقطاب الانصار وترويج المذاهب والافكار . وكان مما تمخض عن ذلك أن صار الصراع حادا حتى فى نطاق الثقافة العربية التقليدية . وان الشابى بوصفه مثقفا وأديبا كان لابد أن يتمثل ذلك ويستحضر محتواه ، ضمن باقى استحضاراته الاخرى ، فى بلورة مواقفه وقناعاته وابداعاته . كذلك فانه بحاسته اليقظة ، وبانفتاحه على الجديد ، اتجه نحو الترجمات ونحو ما أشاعه الرومانسيون العرب من أمثال خليل مطران - فى الاحيائيين المنفتحين - ثم

جبران وميخائيل نعيمة وايليا أبى ماضى فى المهجريين الشماليين ، واحمد زكى أبى شادى ومجموعة أخرى من الشعراء والادباء .

انما المؤكد هو أن شعر المهجريين الشماليين لفت نظره وأثر فى توجههه الشعرى ، بل وفي تغييره وظيفة الشعر مع محافظته على الشكل ، بالصورة التى كانت سائدة فى الاغلب - على الاقل من حيث العمود فى شطريه - وكانت بعض قصائد هؤلاء المهجريين مثل ( المواكب ) لجبران ، و ( حبل التمنى ) لميخائيل نعيمة ، و ( أمنية الاهة ) لا يليا ابى ماضى - اضافة إلى مكتوبات اخرى - من بين الآثار التى استهوت الشابى ودفعته الى أن يأخذ من قبساتها ما أعانه على تجديد رؤيته . فكان يأخذها خميرة تعينه على انضاج تجربته واخصابها من حيث التشكيل الجمالى ولا سيما فى عنصر الخيال الرحب ، ومن حيث ( المزاج الشهرى - اذا صح التعبير - كطابع مميز غالب . لقد " تفتحت عبقرية الشابى ، فى بداية هذا العصر ، فوجدت فى الرومانسية الشائعة فى كتابات الكتاب حينذاك ، تحقيقا لاحلامها والامها . وكان كل شئ فى الجو الأدبى ، مساعدا على تمكين هذا المزاج الرومانسى فيه  .. كانت قراءاته كلها من النوع الرومانسى الذى انتجه رواد هذا المذهب فى الغرب ، ومنهم جيته ولامرتين ، أو رواده فى الشرق كجبران " ( 21 ) . فالتعزى بمظاهر الكون ، والهروب إلى الطبيعة ، والاحساس الحاد بالغربة ، والتركيز على الاخوة الانسانية ، ووحدة الوجود ، وعقيدة التناسخ ، والحنين ونبذ القديم ، والركون الى الجمال والحب ، والميل الى التأمل ، وامتداح الخير ونبذ الشر ، من الملامح المشتركة فى شعر المهجريين الشماليين ، وقد " ترددت على أقلامهم باساليب متنوعة وتعابير متفاوتة " . ولقد استهوت الشابى ، لكنه لم يكن فى استقائه منها ليسمح لنفسه بالتزحزح من مرتكز وقوفه وتميزه ، أى انه لم يكن يحب ان يرى شمس غيره على حائطه ، بل كان يحرص على أن يرى شمسه هو على حائطه متميزة بمكوناته الذاتية والفكرية الى أبعد حد . لذلك فانه لم يكن مثل بعض المجريين يمزج الالوان ويخلطلها ب " عناصر من الواقعية " ويتحدث " عنها فى صدق لا يخلو من سذاجة " ( 22 ) ، بل كان يصدر عن خصوصيته البعيدة عن التهويم والايغال فى المتاهات المضببة الخارجة عن واقع نفسه

ومجتمعه . فالأدب عند المهجريين الشماليين عامة كان " انسانى النزعة يتعدى حدود الوحدانية الذاتية ليتصل من خلال ( الأنا ) الشفافة بالشعور البشرى العام " ( 23 ) ، وكان خروجا " من عقالات المعيشة المحدودة الى حرية الحياة التى لا تحد - من الانسان فى الله الى الله فى الانسان " ( 24 ) ، وان اشترط احيانا بان الادب المعتبر عندهم " هو الادب الذي يستمد غذاءه من تربة الحياة ونورها وهوائها " ( 25 ) ، فهم ينطلقون من ( عموم السلب ) ومن ( سلب العموم ) فى ذات اللحظة ، لأن فلسفتهم كانت تؤكد على ذلك بتعميم غير مقصود لذاته ، على اعتبار ان نزوحهم القسرى وانشغالهم الشعرى المفتون كانا لا يحددان لديهم الرؤيا الفنية والمنطلق الفكرى الا في حدود معينة .

لكن هذا لم يكن مما يمنع الشابى من الالحاح فى تلقيه من هؤلاء ، ثم من مدرسة الديوان في مصر ، وبالاخص من الاسهامات النظرية النقدية للعقاد والمازنى . لقد استرفد مادته الابداعية والفكرية فى احدى مراحل تطوره الشعرى من الرافدين معا ( المهجرى ) و( الديوانى - نسبة الى " الديوان " ) - بسبب " تلك القرابة الفكرية وهذا الارتباط الوثيق في الهدف والغاية " ( 26 ) بينهما ، فى الجانب النظرى على الاقل ( 27 ) وكان من تأثير ذلك عليه ، ان تحول إلى ناقد يسهم في دراسة مسألة الخلق الشعرى ، وفي تحليل أبعادها وتوصيفها ( او وصفها على الاقل ) . وهنا ينبغى أن لا ننسى محاولته الجريئة فى محاضرته عن ( الخيال الشعرى عند العرب ) .

هكذا يتضح أن الشابى انطلق فى بناء شخصيته الشعرية من مكونات فكرية وابداعية تنتمى الى :

1 ) الثقافة العربية الاصيلة المشبعة بالروح الاسلامية المتحررة من كل تزمت او استرداد يعاكس نصاعتها وحيويتها وقابليتها للتكيف مع التجديدات الفكرية والفنية اللازمة .

2 ) الثقافة الغربية المنخرطة فى اللحظة الحضارية والموسومة بكل ما يميزها بالابتكار والتجاوز للمالوف والاضافة اليه . وقد اعتمد فى تلقيه لها على واجهتين :

أ - واجهة المترجمات فى مصر ولبنان والعراق وسوريا وتونس .

ب - واجهة الشعر الرومانسى العربى وعموم الشعر التجديدى الذى ظهرت ملامحه بوضوح عند خليل مطران ، وجبران ، ونعيمة ، وايليا ابى ماضى ، وعند مجموعة اخرى من الشعراء بمن فيهم بعض الشعراء التونسيين.

3 ) المحصلة الثقافية الذاتية ، ودوافع هذه الذاتية نفسها ، مما شكل لديه ( قيمة خاصة ) كانت لها فعاليتها فى توجهه وفى تحديد كثافة مشاركته ، وأيضا ، فى تلوين شعره بما جعله شعرا متميزا يطيق الافصاح - بكل اطمئنان - عن جدة حقة ترقى الى مستوى الانعطاف بالشعر العربى نحو منعطف لم يكن معهودا قبل مجئ الشابى عند الشعراء التونسيين المعاصرين له من امثال محمد الشاذلى خزنه دار ، ومحمود قابدو ، والحليوى وغيرهم ، بل وعند كثير من شعراء العربية وقتئذ .

قلنا في بداية هذا البحث ان الحقيقة الاولى هى ان الشابى انطلق من القديم يبنى عليه ويقيس على مقابساته فى حدود ما ينسجم مع نزوعه الذاتى واحساسه الشخصى ، لانه - حتى فى هذا الانطلاق - لم يخرج عن عوالم نفسه وما يصطفق فيها من أجنحة الالم . فكانت استعارته لعواطف الاقدمين - أو ما يسمى بالتناص - مبنية على استخدامات ذاتية خاصة ترتبط فى اكثر من بوح ، بما سخر له تجربته عامة . فهو عندما يقول في قصيدته ( غرفة من يم ) :

والناس شخصان : ذا يسعى به قدم من القنوط ، وذا يسعى به الأمل

هذا الى الموت ، والاجداث شاخصة وذا الى المجد والدنيا له خول ( 28 )

فانه يكون قد أخذ المعنى من قول لبيد بن ربيعة :

وما الناس الا عاملان ، فعامل          يتبر ما يبنى وآخر رافع

فمنهم سعيد آخذ بنصيبه              ومنهم شقي بالمعيشة قانع

لكن الملاحظ هو أن الشابي قد أحسن توظيف ما استعاره في البوح بما يحس به ، فهو لم يميز الناس بين هادم ورافع لبناء أو بين سعيد وشقي فى العيش ، وانما ميزهم بين ساع يسيطر عليه القنوط ويقوده ، حتما الى الموت وتسخر منه القبور ، وبين ساع الى المجد ، تسلس له الحياة طولها المرخي دون أن تتعجل ثنياه أية يد سوداء ! .. فالمجد لديه هو سلامة البدن والتفاؤل القائم عليها فى الوجود وليس سوى ذلك . واذن ، فان الدلالة واضحة فى البيتين ، مبنية على صدق الطوية ومقتضى حالها لدى الشابى . وعندى أن هذا يدل على انه منذ بداية وعيه الشعرى كان ينطلق من منطلقين ، الاول قديم يتكىء فيه على بعض تجارب الاقدمين ، والثاني ذاتى يمزج فيه بين ما استعاره من عواطف أولئك وأساليبهم وبين دوافع نفسه وخصوصباتها فى أدق وأصدق عواطفها . لقد كان يأخذ الأداة القديمة ليغير بها وظيفة الشعر حتى وهو فى بداية رحلته الاستكشافية . يظهر ذلك بجلاء كامل فى هذين النموذجين ففى حديث الشيوخ يقول ( :

الا ان احلام الشباب ضئيلة              تحطمها مثل الغصون المصائب

سالت الدياجي عن اماانى شبيبتى        فقالت : "ترامتها الرياح الجوائب "

ولما سألت الريح عنها أجابني           " تلقفها سيل القضا والنوائب "

" فصارت عفاء ، واضمحلت كذرة   على الشاطئ المحموم والموج صاخب " ( 29 )

وفي ( المجد ) يقول

يود الفتى لو خاض عاصفة الردى                وصد الخميس المجر والأسد الوردا

ليدرك أمجاد الحروب ، ولو دري                 حقيقتها ما رام ما بينها مجدا

فما المجد فى ان تسكر الارض بالدما            وتركب فى هيجائها فرسا نهدا

ولكنه فى ان تصد بههمة                      عن العالم المرزوء فيض الأسى صدا (30)

فالقاسم المشترك فى النموذجين معا هو هذه المصائب التى تهتصر بها ( احلام الشباب ) مثل الاماليد الطرية وهذا ( الفيض من الأسى ) الذى لا يتمثل المجد الا فى الهمة القادرة على صده عن هذا ( العالم المرزوء ) .

فالتشكيل التقليدى عند الشابى فى النموذجين وفى كثير من نماذجه الأخرى ، لم يمنعه من أن يجعل شعره صدى راعشا منخرطا فى مفاهيم عصره وحاملا لايقاع هذا العصر ، حتى كأن الشاعر كان يعتبر الشكل مزدوج الانسراب فى الشعر . فمن جهة ، فانه تعبير خارجى يوهم باستقلاله ، ومن جهة أخرى فانه تشكيل متساند الاجزاء يتحكم فى نسجه وتحقيق صيرورته الصاعدة النابضة الشاعر الموهوب القادر على بلورة تركيبه فى صورة تحولية حتى ولو جاء هذا التركيب فى شكل قديم ، فالامر عند الشابى لا يتعلق بـــــــ " استرجاع طيب " ، ولا بانفراج تعبير ينم عن اتباع لا يطيق صاحبه الخروج - أو حتى الاطلالة - من بين تفاريجه ، ولكنه يتعلق بمراعاة دواعى اللحظة الحضارية في وقته وما تستلزمه من تنقل متزن هادىء كان الشابى مقدرا له ، ومقدرا لضلاعته فى تمثله واستخدامه مما جعله لا يحتاج الى البحث عن مخترع عروض آخر الا فى قليل من المرات ، فقصائده المتأثرة بالقديم عبارة عن كتلة علامات دالة على هذه الترابطية الشعرية وما يتولد فيها من بنيات تتزاحم لتشكل تساندا منتظما من الاصوات والايقاعات والصواتم والكلمات والجمل وعموم التشكيل الجمالى . ولقد يرى البعض أن النظر الى ما يسمونه ب " التناص " على هذه الصورة قد يعنى مجازفة قد لا تكون صائبة فى الاستنتاج حتى بالاستظهار والاستقراء من صميم النص او النصين او النصوص المتقاطعة لكن المتأمل فى استتباعات وتركيبات التجربة عند الشابى ، يؤكد أنها تخرج عن نطاق المراوحة بين تجربتين الى ما يمكن أن يتميز كثيرا بذاتيته ، الا ما كان من بداية الاتكاء فى أول درجة السلم ، ثم بعدئذ يتغير كل شئ . فعندما نقرأ قصيدته ( صفحة من كتاب الدموع ) التى يستهلها بقوله :

غناه الأمس وأطربه       وشجاه اليوم ، فما غده ؟

نتوهم أننا أمام معارضة منه لكل من الحصرى ، وشوقى في قوليهما :

يا ليل ، الصب متى غده               أقيام الساعة موعده ؟

مضناك جفاه مرقده                    وبكاه ورحم عوده

وربما يزيد قوة لهذا التوهم ، التقاء بعض عناصر التدليل على تشابه الدلالات الجزئية ، ولا سيما بينه وبين الحصرى . فالوزن واحد ، وكذا القافية . والتساؤل عن موعد " الغد " ( بلفظه ) واحد . لكن مع هذا التشابه تبقى الدلالة للعامة مختلفة تماما ، بل ومستقلة ، ومعبرة عن تجربة ذات خصوصية بالغة الصدق والتميز.

على أنه ينبغى أن لا ننسى المكونات الثقافية - وحتى الذوقية - للرجل فى ذلك الابان . فشوقى كان قد ملأ الدنيا العربية بقصائده ، اضافة إلى صحبه من الاحيائيين ، فى مصر وفى باقى العالم العربى . وكان المثقف العربى لا يستهويه الا الشعر الآخذ بتقدير الصياغة القديمة . وهذا مما كان يلزم الشابى - ولو مع نفسه احيانا - بان لا يتحلل من ضوابط الشعر العربي وقتئذ ، ولا سيما فى البناء وفي مراعاة تسلسل وتتابع هذه الترابطية الشعرية . فكان قياسه عليها ينبني على اعتبارها فى الصورة العامة ، لكنه كان فى العمق يخالفها مخالفة كبيرة بل اكثر من هذا ، فان بعض الاحيائيين كان على نباهة . فالبارودى وشوقى وحافظ كانوا فى بعض الاحيان يأتون ببعض الجديد ، ولو فى اطار محافظ ، وكان لابد أن تظهر بعض رواسبهم الجزئية عند بعض المجددين ، وضمنهم الشابى الذى ، وان اشتهر بانه لم ينهج نهج واصفى الاطلال ونادي الاظعان، فانه قد تأثر بما راج حوله من اشعار اولئك وطرائقهم وألوان تعبيرهم . ونتيجة لكون بعض الاحيائيين لم ينظر الى الشعر على انه " زينة خارجية آلية " ( 31) بقدر ما كان لديه " صياغة فنية لتجربة بشرية تقوم على دافعين متلازمين هما: رغبة الفنان فى أن ينفس عن عاطفة ، ورغبته فى أن يضع هذا التنفيس فى صورة تثير فى كل من يتلقاها نظير عاطفته " ( 32 ) ، فان الشابى ، بما تلقاه من تكوين ، وبما فحصه وانكب عليه من نصوص الاحيائيين وغيرهم ، تأثر وحمل زادا شعريا مختلفا كان لزاما ، وبالضرورة ، ان تظهر بعض ملامحه عنده ولا سيما فى مرحلة البدء.

لكن ، كما نلاحظ ، فان اعتماد الافصاح عن ( الدوافع الخاصة ) كان متميزا عنده ، لم تطق اخفاءه هذه الصياغة القديمة . فالخميس المجر ، والأسد ، والهيجاء ، والفرس النهد ، والصد ، والرياح الجوائب ، والنوائب ، وغيرها، كل هذه المفردات القديمة لم تحجب عنا بحال ، ما رام قصده الشاعر من كشف عن خلفية نفسه وعن ما يحتمل فيها من ألم ومن احساس به .

فالحزن " لازمة " ثابتة الحضور فى شعره بصورة متعددة الوجوه . وقد تفنن الشاعر فى التعامل مع حزنه فاستطاع أن يصبغ كل شعره به ، و كان جامعا بين معرفة الحزن وبين الاحساس به ، الأمر الذى عمق تعامله معه .

كان يرى أن اغصان حياته لا تمتد الا في الهموم ، ولا تطيق حراكا الا بجهد ، ثم يلوى بها الألم في الوهاد ليقتلها الثلج :

فى جبال الهموم أنبت اغصاني فرفت بين الصخور بجهد

وتغشانى الضباب فأورقت وأزهرت للعواصف وحدى

وتمايلت فى الظلام وعطرت فضاء الأسى بأنفاس وردى

وبمجد الحياة ، والشوق غنيت فلم تفهم العواصف قصدى

ورمت للوهاد أفنانى الخضر وظلت فى الثلج تحفر لحدى

انه هنا قد تجاوز طريقته الاولى ليبدأ فى رحلة الاستكشاف بإيثاره الانسياب والتدفق ، ودونما خضوع لسلطان التشطير اذ جعل كل الابيات مدورة ، ولم يكن القصد شكليا ، وانما كان دلاليا ، لأن حزنه الممض الحاد هو الفارض لذلك فهذه هي حاله ، وهذا هو ديدنه فى التعامل مع الشعر : تنفيس عن قلب معذب يرف وكأنه جناح مهيض يلح عليه النزف ، وتعبير عن قلق عنيف منذ بداية وعيه الشعرى ، فلم يكن تقفه خطى الاقدمين - أحبانا - ليمنعه من التحليق - حتى في مرحلة البدء - ومن ترديد وتأكيد حزنه . انه الشاعر الموهوب الرافض لكل مواضعة اجتماعية لا تنسجم مع الأخلاق والكرامة والاعتزاز بالنفس والترفع عن الصغائر ، فهو لا يقبل من احد أن يتمسح ويرتمى على الاعتاب أو أن يعيش فى وسط عقيم ميت . لا يقبل أن يركن الشاعر ، أى شاعر الى مثل ذلك :

الشاعر الموهوب يهرق فنه       هدرا على الاقدام والاعتاب

ويعيش فى كون عقيم ، ميت     قد شيدته غباوة الأحقاب

والعالم النحرير ينفق عمره        فى فهم ألفاظ ودرس كتاب

يحيا على رمم القديم المحتوى     كالدود فى حمم الرماد الخابى

ان الشابى قد اختار الثورة على القديم حتى وهو يتكئ عليه ، مما يعنى بوضوح أن رغبته فى التجديد كانت عميقة التفاعل فى كيانه وفكره ، تحثه على

قطع كل ما يشده الى القديم شدا عقيما ميتا . من هنا جاءت هذه الطفرات التجديدية لديه فى البوح بحزنه ، حتى ارتقى الى مستوى التأمل النابض الشعور فى بعض قصائده ، وهو فى تأمله هذا ، لم يكن يفتعل ما يسميه القدماء ب " التلدد " - أى التحير - فى الحب والحياة بقدر ما كان يفصح عن حقيقة حياة قلقة ، عنيفة ، يغمرها الحزن ويستدرك عليها كل انفاقها وأطباقها ، وتجيش بقلبه الاحزان وتطفح " صدوعه " بالأمواج ، ويصير قلبه مصدرا لدموعه بدل طرفه :

لكن قلبي - وهو مخضل الجوانب بالدموع

جاشت به الأحزان ، اذ طفحت بها تلك الصدوع

انه الصدق الكامل الظاهر فى ثنايا شعره وكأنه يدل على واقع حال بكامل العفوية واليقين . ففي أغلب شعره تكون لفظة ( قلب ) " هي نقطة الجذب والنبذ والمركز الذي يستقطب أجزاءه ويشع عليها " ( 33 ) . فهو عندما يتأمل فى نوع آخر من التأمل " ومن التلدد " يسمو بتجربته حتى ولو جاءت تقريرية جهيرة يأخذ فيها بالمباشرة ويحاول مزجها ببعض التشخيصات المجازية الخفيفة جدا كما هو الحال فى حواريته ( حديث القبرة ) التى هى " حوار فلسفى ، مداره الحياة والموت والخلود والكمال " ( 34 ) . انه فيها لا يستبطن دلالته استبطانا فلسفيا عميق التخيل والتوظيف الا فى حدود محدودة . فلم يسعف شعره فيها بالرموز التراثية او الصوفية العميقة المركبة ، أو بالايحاءات الجديدة القادرة على بلورة التركيب بكل ما يقوى من آصرته بدلالته الى درجة التكاثف الحميم الشديد القرابة ، لكنه كان يحسن الى أبعد حد ، الافصاح عن هاجس تغلب عليه العفوية وينطوى على حقيقة غير معقدة التركيب الا ما كان من تعقيدها الكامن فى طبيعتها الاصلية ، وفى هذا النطاق كان ياتى بألفاظ رامزة من طبيعتها ايضا ، الى جانب ما كان يتوخاه من توظيفها ، كالتدليل على الفرحة بالابتسامات ، وعلى الالم بانطفاء توهج الخدود ، وذبول الشفاه ، وسقوط النهود فى التراب ، وانهدام القوام الرشيق ، وذهاب الفضاء الرحب البعيد ، وهلاك النجوم وهرم الزمان ، وموت الصباح ، وحتى الليل - فى استعمال

مخالف لما عهد لديه - وكذا موت الشمس والبدر والضوء المرصع لموج الغدير ، والسحر المطرز للمحاسن . يقول الشاعر :

اتفني ابتسامات تلك الجفون              وتهوى على الترب تلك النهود ؟

وينهد ذاك القوام الرشيق                  ويذهب هذا الفضاء البعيد ؟

وتهلك تلك النجوم القدامى              ويهرم هذا الزمان العهيد ؟

ويقضى صباح الحياة البديع             وليل الوجود الرهيب العتيد ؟

وشمس توشى رداء الغمام               وبدر يضئ وغيم يجود ؟

وضوء يرصع موج الغدير              وسحر يطرز تلك البرود ؟

لقد تدافعت الكلمات فى حواريته تدافعا متصاعد التماوج ، انها تنبئ برغبته فى استكشاف ما يوجد داخل الصدف فى خضم الحياة من لآلئ وحقائق وأسرار هو متأكد من ادراكها عامة ، لكنه مع ذلك يستفهم عنها ويتساءل وكأنه يعبر باستفهامه وتساؤله عن حيرته التى لا يكون عليها جواب الا بتزاحم استفهاماته وتساؤلاته فى هذا التدافع القلق العجيب . والا فما العمل مع ليل الفناء المطبق على الوجود ؟ وما السبيل أمام الموت اللاهى بكل شئ خلف هذا الوجود ؟

ايسطو على الكل ليل الفناء    ليلهو بها الموت خلف الوجود ؟

لقد " تصادف أن كان احساس أبي القاسم الشابى حادا ، وجعلته حدته محبا للحياة صبا بها " ( 35 ) وبقوة حبه لها وحدة احساسه كانت قصائده حادة الانفعال ، " فكلها حزن وبكاء ، وكلها ثمرة هذا الألم الذي كان يعصر قلبه عصرا ، وكان هذا الألم هو مبعث وحيه ومنبع شاعريته ، فلولاه - على ما يظهر - ما تحركت في داخل نفسه الباطنة عبقريته الشاعرة " ( 36 ) . كان ينطلق فى احساسه من ذاته الى ذاته ويمر خلال رحلته منها واليها عبر عوالم كونية يحرص على اصباغها بدموعه الواكفة وبحدة حزنه . فـــــــ " ماذا يحدث عندما يصب الكل فى الأنا ويذوب فيه وتتحول الطبيعة من موجود موضوعي الى غرض شعرى ( 37 ) أو الى افصاح وجدانى عميق الحدة والعنف ؟

ففي كل محاور شعره أو " مراتب أغراضه " - بلغة القدماء - كان لا يبرح هذه الحدة في الاحساس بالحزن وتلك المعرفة الكاملة بها . نلمس ذلك لديه فى ركونه الى نفسه ، وفى شعر غربته المزدوجة الذاتية والموضوعية ، ونلمسه فى لجوئه الى الطبيعة ، والغاب بصورة خاصة ، وفي الحب الذي أفرد له قصائد ومقطعات صادقة النبرة وجديدة التناول فى انسيابها وتدفقها وتعدد أجناس المواكبة فيها وكأنها مقاربة عاطفية فى غاية الفتنة ، بل في غاية الامتداد الآسر الأخاذ ، بما يحيط بها من عوالم التعددية الكونية الخارقة ، ونلمس ذلك فى وطنياته المنحازة بتطرف الى الشعب التونسى ، ونلمسه فى تبرمه به احيانا بسبب استكانته واستسلامه لقبول واقع ممسوخ ليس من صنعه ، ونلمسه حتى فى الابيات والمقطوعات الاخيرة التى اكتشفت وجاءت حاملة لمسات هذه التعددية فى أبسط مراتبها ، ولمسات هذه الحدة الاحساسية .

وعلى كثرة التحليلات التى كتبت فى تحديد " مراتب الأغراض " المذكورة ، او فى تحديد محاور معينة تتعلق بشعر الشابى فى مناسبات مختلفة - تدخل ضمنها المناسبات المماثلة لهذه - فاننى وددت أن لا أكون صدى لما تردد من قبل فآثرت أن أميز هذه المداخلة بتركيز معمم لا يقتصر على محور واحد ، وذلك بسبب تعدد محاور الشعر ، رؤية ، ومضمونا ، وبناء ، لدى الشابى. انه كشاعر رائد ركز راية التجديد وجسد بداية الصوة التجديدية فى منطقة شعرية عربية شديدة الحساسية ، كان لابد أن يترك بصمات تأثيره على أجيال كثيرة فى المشرق والمغرب معا .

كيف كان تأثير الشابى على غيره من شعراء العربية ؟ وما هى سمات هذا التأثير وحدوده ؟ وهل جاء تأثيره بناء على ما استخرجه من تجربته الشخص ام من جماع عناصر شعره المتداخلة فيما بين اكتسابه وعطائه الذاتى ؟

مهما يكن ، فان الشابي قد أثر بعمق في التجربة الشعرية العربية الحديثة ، مشرقا ومغربا . فالبنسبة الى المشرق ، فانه بمجرد ما أخذ ينشر شعره فى مجلة ( ابولو ) التى كان يصدرها الدكتور احمد زكى أبو شادى ، لفت النظر اليه ، وجذب اهتمام قرائه . ذلك انه كاد أن يشكل اتجاهها البالغ الجدة ، رغم قلة ما نشره بها ، والسبب هو أنها جماعة فاقدة لاتجاه موحد ، لأنها لم تتقيد بمذهب شعرى معين ، بل لم ينقلب اتجاهها الوجدانى الغالب الى مدرسة

شعرية ( 38 ) ، وحتى فى نطاق وجدانياتها فانها لم تقترب لتجسد اتجاها فنيا أو فكريا متقاريا . فشارك فى نشر الشعر بمجلة أبى شادى العديد من الشعراء الذين لا تجمع بينهم اية مذهبية ، وكان من الطبيعى أن تكون هذه الجماعة على هذه الصورة ما دامت لا تقوم على اسس نظرية ذات استمداد فكرى يكفل لها توحدا فكانت ، والحالة هذه ، تعتمد على عبقريات أفرادها وكأنها سوق شعرية يتبارى فيها الشعراء ويدلى كل منهم بدلوه لعله يظفر بخلق حالات الجذب الى اتجاهه الشعرى . ولم يتميز من أفراد هذه المجموعة الا القلة ممن امتلكوا ناصية القريض واستطاعوا تجاوز المكرور المألوف ، وخرجوا عن محيط الموروث ، وشبوا عن طوقه ، وجددوا الشعر ، مادة واهابا ، وكان الشابى ، بصدق نبرته وجدة افكاره وخطراته وبتلويناته الوجدانية الخارجة عن التوصيفات المفتعلة ، وباعتماده ، أساسيا ، على حدة احساسه وقوة شاعريته الذاتية المفرطة فى الرقة والعذوبة والطلاوة والقوة والتماسك وحسن التجاور بين وحداتها الموسيقية الصغرى والكبرى ومجموعات تشابكها فى تركيبها ، وتنويعه انغامه ، ومواءمة مضامينها مع مقتضيات الجدة ، وتوافر عناصر تأثيرها الى حد الاستهواء الكلى للآخرين ، كل هذا جعله يلفت النظر ويؤثر في جملة من الشعراء اللاحقين الذين كانوا يواظبون على نشر اشعارهم بـــــــ " ابولو" من أمثال : على عبد العظيم ، وعبد الغني الكتب ، وحسين شوقى ، ومحمد الغنيمي التفتازانى ومحمد ابى شادى واحمد كامل عبد السلام ، ومحمد مصطفى الماحى ، وعبد الله عبد المجيد ، ومحمد فريد عين شوكة ، وغيرهم .

لقد تجاوز تأثيره هذه الحدود ليوغل فى عمق التجربة الشعرية الجديدة وقتئذ لدى شعراء آخرين لهم وزنهم وتميزهم ، بل ان منهم من عاصر الشابى من أمثال الشاعر اللبنانى أديب مظهر الذى " أطل على عالم الشعر العربى الحديث فى لبنان بنغم قاتم ارسله من أعماق نفسه ، بعد ان عصر الأسى وتره ( 39) ودفعه الى دعوة شبح الموت في قوله ( نشيد الخلود ) :

فياشبح الموت اطفئ غدى         بمخلبك الناعم الأسود

هذا الشاعر تأثر بالشابى ، ولا سيما فى بعض قصائده ، مثل نشيد السكون ، حيث يقول :

فالليل سكران وأنفاسه    تلفح أجفانى وأحلامى

تنساب حولي زفرة زفرة    حاملة أكفان أيامى

بالله هلا وتر قاتم          على بقايا الوتر الدامى ؟

لقد تأثر بالشابى في قصيدته ( قيود أحلامى ) التى يستهلها بقوله :

وأود أن أحيا بفكرة شاعر   فأرى الوجود يضيق عن أحلامى (40)

هذا التأثر ظاهر حاضر فى التقاء الخطوط العامة لخطراتهما على نحو شبه موحد ، يتجه فى عمقه الى الحزن ، حيث يكون الليل فى عربدة ، تلفح حرارة زفراته الأجفان والاحلام ، وتحمل هذه الزفرات أكفان الايام فلا يبقى من شئ ألا نشدان الحزن ذاته فى طلب الحصول على وتر قاتم ينضاف الى بقايا الوتر الدامى ، وحيث لا يود الشاعر الا ان يحيا شاعرا بوجدانه يرى الوجود كله يضيق عن احتواء أحلامه ، لانه لم يكن يحس بحزن محدود يندرج ضمن ما يعرف بالحزن الاخلاقي الذاتى ، بل كان يحس بمأساة ترقى الى مستوى فلسفة وجودية برقعت رقعة شعره كله وغطت على كل فضائه فالشابى كان يستقى شعره من واقعه الخالص ويغنيه بتونسيته الزاعقة فى تعميم مخصوص فكان ينقل محتواه باتقان وصدق ساعداه على توليد الصور والمعاني وتشيئهما باقتدار ، وهذا ما جعل الاعجاب به يتكاثر ، فحاكاه _ أو على الاقل استفاد منه _ شعراء مختلفون ممن كانوا يرغبون فى الخروج عن المجالات الرتيبة المألوفة .

فالشاعر الشرنوبى الذي قيل عنه انه " ينقل الألم من صورة المعاناة الشخصية أو الجزئية الى مستوى المعاناة الشاملة للحياة بأسرها " (41) ، تأثر بالشابى واستفاد منه فى بناء شعره وفى زرع مضامينه بذلك الزرع الشديد الألم حتى وهو يتوخى التقليل من الحدة فيه . يتجلى هذا فى قصيدته التى يستهلها بقوله :

فوق هذى الربى نبت وحيدا   ومعى معزفى صموتا جهدا

حيث تأثر بقصيدة الشابى المستهلة بقوله :

في جبال الهموم أنبت أغصانى ، فرفت بين الصخور بجهدى

وحتى فى ادراك الشرنوبي لموته فى حياته ولحياته فى موته كان لا يسبح ألا فى عالم الشابى لكن بشئ من التميز انبنى على ربط تأثره المقصود بمقتضى احساسه وبدوافع ذاتيته وشؤونه وفلسفته . يقول الشرنوبى :

أنا أهفو الي الحياة وروحى    تشرب الموت في كؤوس الحياة

أنا أرنو الى الغروب بعين       قبست نورها من الظلمات

أنا استقبل الربيع بقلب      هامد الحس ذاهل الخفقات

فى التقاء بهذا المعنى كان الشابى يقنع نفسه بأن تسير مع الحياة دون خوف من أهوال أو أحداث أو أى شئ آخر ، لأن من يخاف منها شقي يسخر منه الموت :

سر مع الدهر ، لا تصدنك الاهوال أو تفزعنك الاحداث

سر مع الدهر ، كيفما شاءت الدنيا ، ولا يخدعنك النفاث

فالذى يرهب الحياة شقي سخرت من مصيره الاجداث

لا نريد أن نحمل فلسفة الشابى فوق ما تحتمل ، لكنه بفوران تعبيره فى شكل لجج قوية الترامى والتأثير ، استطاع أن يؤلف منها قوة جذب متميزة في مسيرة الحداثة الشعرية فى وقته ، وهذا ما جعله شاعرا مؤثرا فى طائفة من الشعراء العرب المحدثين . ففي المغرب ، كان هناك ادباء ومثقفون " يشتركون فى عدة صحف مصرية وتونسية " (42) ، ويقرأون المجلات والدوريات التى كانت تصدر هناك ، فوطدوا صلتهم ببعض أعلام الشعر والادب بمصر ، فكان د . احمد زكى ابو شادى " يعرفه الأدباء في المغرب ، وخاصة منهم الذين تتبعوا

الانتاج فى مصر فى ربع القرن الأخير ، يعرفونه فى مجلته أبو لو " (43) ،  ويعرفون كل الادباء والشعراء النابهين الذين فرضوا انفسهم بقوة ابداعهم  وجدة عطاءاتهم وتوقد قرائحهم بما وفر لهم مكانة الريادة ، وعلى رأس هؤلاء أبو  القاسم الشابى الذي أثر أيما تأثير فى شعرائنا بالمغرب وصار لهم مهمازا  يحركهم ويعينهم على تلوين مضامينهم وأشكالهم بالمبتكر الجديد ، فكان بحق ،  شاعرا معتمدا حتى فى تفطنهم الى استخراج ( المقابل الشعرى ) من دواخلهم  ليتحدث بما يمور فيها ، ثم كان بمثابة الرافد الثر الذى يخصب هذا المقابل  ويرتقى بمكوناته ويمدها بأسباب ما يسمونه اليوم ب " الشعرية " . فعبد  الجيد بن جلون ، وعبد الكريم بن ثابت، وعلال الهاشمي الفيلالي (الخيارى الآن)  ومحمد الطنجاوى ، ومحمد الحلوى- في مرحلته المبكرة - ثم مصطفى المعداوى  كل هؤلاء تأثروا بالشابى تأثرا متفاوتا،وعلى فترات متفاوتة ايضا تراخي حبلها  واستمر في تراخيه الى غاية السبعينيات وكأن أواخيه لم تفقد ترابطها الا فى  ما يلح عليه التأثير ويتلون به ، اما في التشكيل اللفظى ، واما في الرؤى وما  يتولد عنها من " أجزاء مضامين " . فالشاعر عبد الكريم بن ثابت ، عاش فترة  طويلة بمصر ثم بتونس ( عندما كان يعمل بالسلك الدبلوماسى هناك ) ولقد  تأثر بالشابى على فترتين ، فترة الطلب بمصر ، فى وقت كانت أصداء الشابى  تملأ القلوب والاسماع ، وفترة العمل بتونس ، حيث عاين التربة التى خرج منها  ذاك الشاعر وخبر أسراره ، وعايش أجواء شعره ، وتعرف على بعض معارفه ،  واستمد من تجربته ما قد أسعفه ، فاخذ فى الفترتين معا عن الشابى عدة عناصر  فى تشكيل بعض قصائده .

" فقد كانت آفاقه آفاق شاعر روما نطيقى يعيش فى العصر الحديث " (44)،  وكان لابد أن يغترف من معين شعراء الوجدان والخلجات المفرطة الاحساس ،  و لم يكن ، فى اغترافه منهم ، قاصر النظر لا يقدر على تشبىء رفده بمستلزمات  ذاتية ، لهذا فانه فى اغتراف الكثير من التشكيلات والدلالات والصفات قد  صبغها بذكائه واجتهاده وكاد أن يستقل بنفسه لو لا ما لوحظ من تعثر فى  سيره الشعرى .

لقد تأثر بالشابى فى منحيين اثنين :       1) فى اطراد المقابلات الادائية لديه ، على غرار اطرادها عند الشابى ، لقد      كان اطراد المقابلة " يحتل من عالم الشابى الشعرى حجر الزاوية ، اذ تصب      كل المقابلات عنده فى مقابلة أساسية عنها تولدت رؤيته الشعرية ، وجل      مضامينه وأشكاله وهى مقابلة النور الظلام " (45) . يظهر تأثر بنثابت بالشابى        فى هذا الاطراد ، فى قوله :

  وبات خيالى وراء الوهاد          يطوف ليكشف هذا الوجود

   وسر الحياة ومعنى الجماد          ومعنى الفناء وسر الخلود

   ودنيا الضلال وكنه الرشاد        وأصل الوفاء ودنيا الجحود (46)

   وفى القلب نار وما من رماد      لديها وما أججت بالوقود الخ

ف " الحياة " و " الجماد " و " الخلود " ، "الضلال " و " الرشاد " ،    و " الوفاء " و " الجحود " كلها تقابلات أدواتية جيء بها للتدليل على نهج شعرى     نعرف انه كان متميزا وحاضرا عند الشابى .

      هذا زيادة على أنه في أغلب قصائده فى ديوانه الحرية قد سلك مسلك      الوجدانيين ، وحاول أن يميز بعض قصائده بمثل هذه المقابلات ولكن بخفوت       واقتصاد .

2)  فى حدة الالم والهروب الى الطبيعة والاحساس بالغربة الذاتية - يظهر       ذلك بارز الوضوح فى أكثر من قصيدة لديه ...

٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠        ان الفارق الملحوظ بين الشاعرين فى أسلوبهما ورؤيتهما وعموم مكونات      شعرهما ، لا ينفي وجود نقط تلاق بينهما وهذا ما لا يمكن أن يحجبه اللون      النثرى الغالب أحيانا على شعر عبد الكريم بنثابت .

عبد المجيد بنجلون من الشعراء المغاربة الذين تأثروا ، فى احدى المراحل ،     بالشابى ، لقد قبس من شعره بعض التلوينات ، ولا سيما فى الطبيعة ، الا انه    زاد عليها بعض الاثر من الانجليزية فى حدود خافتة الضوء . اذ " اتسع أفق    عبد المجيد فاندمج فى الطبيعة واندمج فى الغزل وراعته الصور الفكرية    الفلسفية فأحالها صورا شعرية رائعة " (47) . على أن بعض شعره الآخر كان   حاملا لميسم خصوصى فيه معاناة واجتهاد وتميز ، حتى ان بعض قصائده قد   " نقلها الى الانجليزية الاستاذ آرتر آربرى " (48) ، وذلك نظرا لنكهتها الجديدة   ولطابع التأمل الفلسفى فيها .

لكن هذا لم يمنع الرجل من استيحاء بعض الدفقات والعناصر الشعرية من     الشابي ، فى تأمل الطبيعة ، وفي الوجدانيات ، أو بعضها على الأقل . وحتى فى     قصيدته ( نحو المصب ) التى كتبها قبل موته بقليل ، كان قد عاد الى الشابى     وتجاوب معه فى بعض خطراته ، لكن بشئ من الهدوء على عكس الشابى الحاد     الانفعال والالم .

 بعد هذا ، نتساءل :        - هل كان الشابى شاعرا مجددا قد اقتحم ما استغلق على غيره من مجالات     الشعر ونبه فيها نباهة خصوصية تتوضح وتتحدد فى لون معين او فى الوان     مما لا شك فيه هو أنه شاعر مجدد اقتحم ما استغلق على غيره من مجالات     مختلفة وكفل لنفسه فيها نباهة ملحوظة ، فكان شاعر طبيعة ، وشاعر وجدان     يغنى آلامه وأحزانه بنبرة بالغة الصدق والفنية،وكان شاعر غربة سوداء تبرقع     فضاء نفسه وتلوح على شعره بنفس اللون الذي هى عليه هناك ، وكان شاعر     تمرد اجتماعي يتبرم بمواضعة مجتمعه وينتقدها باقتدار فنى سامق المنزلة .    وكان شاعر وطنية ، وشاعر عروبة ، وشاعر انسانية ، وشاعر فلسفة تأملية    حفيفة .

انه شاعر مبدع يشخص ظاهرة ابداعية متكاملة تمتد عبر حياة انسانية   وذاتية فى الآن نفسه ، لأنه أماط اللثام عن خبايا الاسرار ومجاهلها وأفاد

شعريا بخلق رؤيا جديدة كل الجدة ، وربط ابداعه وتجربته بما يحيط حوله      ويؤلف عالم نفسه وانسانيته . ان ابداعه كان " وثبة حياة " _ كما يقول      " كير كجارد " - ينتظم سكناته فى توافق فذ ، ولذلك فانه شاعر متعدد      الاهتمامات والاسهامات . شاعر مجدد فيها جميعا ، ولقد امتد تجديده الى      التشكيل الجمالى فاستخدم اوزانه استخدامات متراوحة ما بين المالوف      والمخترع ، وكان مجموع الابحر التى استخدمها هى بالضبط :

بحر ( الخفيف ) 29 مرة ، و ( الكامل ) 14 مرة ، و ( المتقارب ) 12 مرة ، و ( الرمل ) 10 مرات ، و ( الطويل ) و ( البسيط ) 8 مرات فى كل واحد منهما ، و ( المتدارك ) و ( السريع ) مرة فى كل واحد منهما ، اضافة إلى مجزؤات واستعمالات مخترعة اخرى بلغت في مجموعها 16 مرة . فمجموع الابحر التامة لديه فى ديوانه هي ثمانية ، وهذا يعنى أنه استخدم نصف الابحر العمودية فى شعره بضلاعة وفهم وحسن تصرف ، وزاد عليها من المجزؤات ومن المنهوكات والمخترعات ما ابان به عن اقتداره وعن رغبته فى تجاوز الرتابة المملة بشئ من الذكاء والحركية والتحكم .

كان أغلب دورانه يحصل فى نطاق هذه التفاعيل : مستفعلن ، فاعلاتن ،  فاعلن ، فعولن ، مفاعيلن ( مع مراعاة ما يلحق بها من زحافات وعلل بالزيادة   والنقص ) .

ان صلة النسب الايقاعى بين هذه التفاعيل أو بين البحور التى استعملها فى شعره ، صلة متقاربة ، وكان يهتدى فى التعامل معها وفي الجمع بينها بحاسته المرهفة القابلة لهضم عناصرها وتمثل بنائها الاصلى ، مما وفر له أسباب النجاح ، بل التفوق فى هذا التعامل لأنه لم يقصر تعامله معها على الناحية التقنية المجردة ، وانما كان يعرف أنه يتمم عملية بناء تتساند وتتكامل بعناصرها جميعا لتعطى قيمة كلية لا يبقى معها للقيمة الجزئية من اعتبار الا فى حدود ما تؤدى اليه من خدمة هذه القيمة الكلية التى لا تشكل الا وسيلة لبلوغ غاية ، هي ما يسمى ب " التجربة الخاصة " .

لقد كان يكثر من التزحيف ، ومن تغيير حركات القافية الواحدة ، فكان بضع المتكاوس مع المتراكب مثلا ، دون أن نحس بخلل موسيقى لديه ، لأنه كان يدرك بحاسته الفنية ، وبيقظة وجدانه كيفية التحكم في سيرورة الايقاع

المناسب ، وفي حسن تجاور الوحدات الموسيقية الصغرى والكبرى ، ولقد زاد من قيمة تشكيله الجمالى ، حسن تقابل تقنياته تلك ، مع أسلوبه الخاص. معنى هذا أنه لم ينغلق عن الخبرة الخارجية ولم يستسلم لها لتكون دليله ، فجمع بين روافد الابداع ، تقنيات واسلوبا ، ورؤيا ، ومضمونا ، واستخرج زاده ، فكان " الأنا " مصدره ، وكانت منبهاته الشعرية فى اطار هذا الأنا ، هى حاسته وقدرته على استيعاب ما يواجهه فكريا واجتماعيا .

الشابى شاعر متعدد المناحي والخصائص ، تميز بتشخيص تفرده الادبى ، وكان بحاجة الى وثبة غامضة ، يحتاج اليها دائما المبدعون الكبار (49) وتمكن من  ايصال رد فعله الذاتى بالشعر وللشعر فى شبه موضوعية من نوع آخر ، فكان ايصاله مزدوج التعبير والحركة ( 50 ) .

ان الكثير ينبغى اضافته بخصوص تجربة الرجل في اكثر من محور . وهذا ما ساقوم به فى دراسات لاحقة .

اشترك في نشرتنا البريدية