بعد لأى أفضت جهود جمع من السماسرة الى إسكاننا سطح إحدى العمارات : بيت للصابون تحول من غرفة للحارس إلى غرفة للايجار
انتقلت وزميلي في الظهر ، نمنا بعض الوقت بعد أن هدنا إعياء نقل الادباش . وعندما أفقنا فوجئنا بما لم نتركه عند الدخول : بيان كتابى من سكان العمارة للعازبين الجديدين بأن يتهيبا شؤون العائلات ، وألا يلجئا الى الصعود أو الهبوط إلا اضطرارا
بواب العمارة كان عند الباب يترصدنا ما إن رآنا نتهادى يتبع أحدنا الآخر حتى أكثر من التنحنح بصوت مسموع ، ثم بصق واقترب منا ، وأخذ يلقى بجملة من التعليمات عن الدخول والخروج ومواعيد إغلاق باب العمارة . . وعن الزبلة . . وعن . . وعن . .
فى اليوم الثانى وفى نفس المكان ألمح الى أن أحذينا تركت على الدرج بقعا لم يسهل عليه تنظيفها ، ورغم أنا وعدناه باستبدالها فى آخر الشهر إلا أنه أضمر شرا وأشاع بين السكان أن أرجلنا تستحق الغوث ، قبل أن تنحل فى أقدامها درجات الرخام المنكودة . . فكان لكلماته وقع مؤثر فى النفوس فعدنا لنشهد أكبر حشد للأحذية من جميع المقاسات على باب سطح العمارة وبطاقات تسكين المشاعر من ذوى البر والاحسان بأن لا نرفض عطاياهم
ومن شدة الابتهاج ظل صديقى يستبدل زوجا من الاحذية كل ساعتين طيلة نومه حتى لا يحرم احداها من مشاركته الفراش . وتفطننت الى انه توسد زوجا من الحذاء بدلا من قميصه الذى اعتاد أن يتوسده . الا انه أفاق فى الصباح ليجدنى قد جمعتها كلها ورميت بها الى المزبلة .
وأراد الاعتراض فأسكته بطريقتى فى معاملته . وعند الهبوط كان الحارس من الطابق الارضى يتطلع الى أرجلنا فتجاهلنا الامر . . ومضينا فى سبيلنا .
فى اليوم الموالى اتضح أن الحارس التهبت مشاعر عطفه علينا ، فأطلق فى سكان العمارة صيحة الاسترحام ، فعدنا لنجد مرة أخرى ذوى الاحسان وقد كوموا عند بابنا أنواعا شتى من فضلات اللباس : سراويل . . قمصان . بدلات . . ملابس داخلية . ورأى صديقى هذه الأشياء فأخذته الغصة : ودمعت عيناه ، ولم ينتظر حتى نؤم البيت ، فأنزل سرواله الذى برم به وأدخل ساقيه فى سروال آخر وأخذ يقفز فوق سطح العمارة ويدوم كالنحلة
كنت أراه من خلال فرحته العارمة وقد ارتد الى سن العاشرة : طفلا صغيرا جميلا ضحوكا كما عرفته فى حينا . . وحيد أبويه . شعره الاشقر الذى تتدلى منه خصلات على جبينه يغالط كل من يراه فلا يظن الا انه من أصل سلافى ، أشرب البحر وزرقة السماء ، ونجمة فضية خطرت ليلة كانت أمه تهم بوضعه .
تذكرت إيابنا من المدرسة ، والحصان ، ووالده وهو يعترض من حين لآخر أوبتنا ، فيأخذ بيده ويجعله وراءه . . ونواصل نحن الرحلة الى حينا ركضا على أثرهما . وظللنا نسميه الابن المدلل حتى بعد أن تبددت ثروة والده . وتركنا المدرسة ، وعاودنا الزمالة من جديد بانتدابنا فى سلك صغار الكتب الاداريين خلال آخر دورة
أشفقت أن أنغص فرحته فى الحين فتركته يلتف بما شاء من البدلات وينام بها جميعا لكنى أفهمته فى الصباح أن المساء سيأتينا اذا ما فرطنا فى هذه الأدباش بما سوف يغنينا عنها . فاستسلم المسكين على مضض لامرى وبالطبع جاء المساء وتبدد حلمه . . ومرت أسابيع . . ودب اليأس اليه .
وكانت هذه المدة كفيلة بأن تذيب ما قام بيننا وبين سكان العمارة من الجفوة والاحتراز . فكنا نلمح بابا ينفتح بين آونة واخرى عند الصعود او النزول وتطل منه يد أو رأس مما يدل على أن سكان العمارة من الآدميين
والظن أنهم كانوا حتى هذا الوقت يضعوننا تحت الاختبار مما جعلنا نشتد فى الاعلان عن وصولنا فى الميعاد كل مساء بقرقعة احذيتنا التى كانت تصل بلا شك الى أذن كل متساكن مهما علا صوت المذياع فى بيته ، أو تباعدت
غرفه عن مرقى السلم . فنتفطن الى أن أبواب شقق الطابق الذى نجتازه تنفتح فى صمت وترتفع العيون الينا متملية شكلنا وماهيتنا .
على أن هذه الثقة ، أعقبها تبادل التحية بيننا وبين السكان لاول مرة .
أشهر تمر سكنت خلالها موجة احتجاجات أولئك الذين أنفوا أن يشاركهم السكن جمع من العزاب . . وهمد جامح نداء الاغاثة الذى وجد فيه الحارس فرصته للظفر بأكبر نصيب من الملابس المستعملة التى كانت تعود اليه مع صحيفة الزبلة . وتأيد لديه اننا لسنا طلاب صدقة أو عون . وبدأت الحياة أخيرا تعود الى طبيعتها . . فاصبحنا نرى النسوة من آن لآخر ، ونشاهد الفتيات يصعدن فى المساء بلا تهيب ، ولم يعد الاطفال يلجون فى التهريج كلما صادفونا بباب العمارة .
وإن الصورة لتكون اوضح اذا ما أخذنا بعين الاعتبار الصيغ الجمالية التى طرأت على هندامنا مذ لامسنا الشهرية الاولى من وظيفنا المتواضع . فقد انتهزنا فرصة مرورنا اليومى بسوق النحاس لنقضى بضعة ساعات من كل يوم نترصد بعض البدلات المستعملة . واستبدلنا أحذينا باحذية (( باتا )) ذات أقدام المطاط . . . ووجدنا لنا عند باعة الشوارع صنفا من الكرافاتات يلائم الوضع والميزانية .
وفى الجملة فان هذا الهندام الجديد كان مبعث ارتياح عام بين السكان جميعهم ولا سيما فى نفس الحارس الذى اخذ يضطر الى مبادرتنا بالتحية من أن لآخر . . خصوصا عند مطلع الشهر وقد روضناه على قبول بضعة دراهم ندسها فى كفه مما جعله يتبع معنا طرق المجاملة حتى عند إنزال الزبلة . فيصعد إلينا مع الثامنة ويدق على باب السطح ويطلق صرخة عالية كما يفعل مع بقية السكان : الزبلة . . الزبلة . وعندما أفهمته للمرة التاسعة أننا نتناول طعامنا خارج الغرفة ولا داعى لازعاج نفسه ، غمز بمؤخرة عينه وكاشفنى بأنما يقصد بهذه الصرخة إلفات انتباه سكان العمارة إلى أن لسكان السطح زبلتهم كبقية الناس واستمر يفعل ذلك على الدوام
التفاوت بين حياتنا الجديدة التى مسها الرفاه . . وبين ذكريات فقيرة
بائسة كالتفاوت بينى وبين رفيقى أحمد . . البدلة التى أضفت على شقرته جمالا ومهابة جعلتنى أبدو أكثر قماءة ونحولا . وللحظ فى الامر دور لا يستهان به ، إذ لم يعثر لى باعة الملابس المستعملة الا على بدلة سوداء تناسب مقاسى . واذا أصبت الحقيقة فهى (( رودنفوت )) مجنح ، عفا عليه البلى واضطر صاحبه الى التشذيب من مؤخرته الطويلة مما جعله الى منظر (( الجيلى )) أقرب
واقترح البائع المتجول أن تكون لهذه البدلة فراشة سوداء ظننت معه أن ذلك من الذوق والحكمة . . لكننى ما إن أصبت فيها بعض الانتعاش فى الصباح على باب الادارة وأنا أتعمد الابطاء ليرانى معظم الزملاء حتى كانت لملاحظة رئيس القسم فعل السم فى جسدى . إذ لاحظ أن الموظفين يتوافدون زرافات على المكتب الذى أعمل فى ركن منه ، ويعودون الى مكاتبهم ليغرقوا فى الضحك وتبادل النكات . فأقبل على وأخذ يتأمل هيئتى الجديدة ثم أرسل بعد لأى من يطلبنى من الشواش ليقول لى :
- هذه ليست إدارة السياحة . . ليست الاذاعة . . ليست سيرك بن عمار . . أفهمت ؟ وفهمت بالطبع ماذا يعنى غضب رئيس القسم فعدت الى البدلة السابقة فى انتظار مطلع الشهر أما أحمد . . أحمد الذى وهبه الله الكمال والجمال وأرسل الحظ اليه البدلة المناسبة فكان بالطبع أكثر سعادة منى ، إذا لم أقل انه ظفر بالسعادة كلها .
فمنذ أيام كنا نعود الى غرفتنا كالعادة والمفتاح واحد وهو معى على الدواء فاذا بنا نفاجأ برسالة تحت الباب ، لا تحمل عنوانا لاحد . . وكان من العدل ان يتم فتحها على يدى ففتحت الرسالة وقرأتها ووضعتها فى جيبى وما إن خلوت الى نفسى من الغد فى المكتب حتى أخرجتها لأعيد قراءتها مرات ومرات : (( فلماذا تعذبنى أيها الاشقر الحبيب
كنت اتعمد الوقوف كل صباح أمام شقتنا بالطابق الثانى . . . ولكنك تتعمد الاغضاء إننى اندفعت للكتابة اليك بعد ان عيل صبرى ، فاكتب شيئا يريحنى من عذابى . .)) . خطر لى أن مثل هذا القلب يستحق بعض المسكنات اللفظية ، فاندفعت الى
الآلة أخط لها رسالة بلاغية مفعمة بشذى الحب المسفوح على درجات العمارة . . والليل اذ يطول فى السطح ، والنجوم الشاهدة على سهادى .. وأمضيتها باسم حبيبها الاشقر
ونحن فى طريق ممغادرتنا العمارة صباحا مددت الرسالة الى أحمد وطلبت من يضعها فى مكان بارز حددته من الطابق الثانى . . موهما اياه بان الجارى رغب الى أن أحبر له شكوى يرفعها الى البلدية ، واتفقت معه على وضعها فى عين المكان
ومن الغد كان جوابها .. فأردفته بجواب . لكن تساؤلها ظل معلقا فى هذا التجاهل الذي أبديه عند الصعود والنزول . وطلبت صورة فالتجأت الى تكبير صورة أحمد ووافيتها بها وكرد على ذلك بعثت بصورتها
وتطور الامر إلى طلب لقاء فى الخارج فحددته . وذهبت لأراقبها من بعيد تنتظر طويلا ثم تعود بعد أن سبقتها الى باب العمارة لأتملى من وجهها : فى حوالى الثامنة عشرة من العمر . . الشعر كستنائى عقصته عند مؤخرة الرأس . الفستان قصير . . وبلوفار فى لون العشب يهتز فى اختلاجات صدر نفرت مشداته . . كانت جميلة . . جميلة . . . ولعلى حلمت آنئذ بوجوب أن أحبها أو أحب واحدة تحمل نفس خصائص الوجه والملامح
وواصلنا المراسلة على عنوان اقترحته فى إحدى رسائلها . كنت أكتب إليها من كل قلبى . . أبثها ما أحمله من الجوى . . وكانت تكتسب الى الأشقر المسافة بيننا قارات ومحيطات . اندفعت بكل ما اصابنى من هواها ألح فى لقاء خاطف تحت ستر الظلام بمكان ما . ظننت أن مثل هذا اللقاء سيهيئ لى فرصة مكاشفتها على بقية من رجاء ورحمة تجد سبيلا الى قلبها ورغم الرفض المتواصل فقد جاء يوم . . .
غاب والدها فى سفر وأمها عجوز تنطوى فى الفراش مع الساعات الاولى للليل . هكذا أوضحت الامر فى رسالة عاجلة وصلت الى باب السطح ، ولا بد من أن أكون متأهبا للمغامرة عند الحادية عشرة .
طال الليل ولا شك تمنيت لو أن البلدية تهتدى فى هذه الليلة الى إغراق البلاد فى ظلام دامس . ما بال ساقى تضطربان فى سروال أحمد الذى أغفى كعادته مع نواياه وأحلامه وأثقل كاهلى بهذا العبء . . . ومع البدلة لبست حذاءه . وللحظات تخيلت أنها لن تخطئ ملابسه على الاقل . .
إن المسافة من الطابق الثالث الى الطابق الثانى لا حدود لها فى ظلام العمارة الساكنة . هبطت الدرجات مهتديا بحافة الدربوز ، وتنفست الصعداء لأن ساقى لم تخونا خطواتى فى هذا الطريق الذي بدا أصعب الطرق التى اجتازها فى حياتى . . حياة لها بطولات فى الانحدار ومع ذلك فقد بدا النزول من طابق الى آخر هوة لا قرار لها .
بأناملى زحزحت الباب الموارب ، ودلفت الى حيث وصفت الموضع ، وانى لى أن أخطئ وقد استغرق اتقانى لرسم حجرات المنزل كما وافتنى بها رسالتها أضعاف ما استغرقه منى تدربى على إمضائى فى الاشهر الاولى من جلوسى للمكتب ؟ ! .
أحست بى عند ملامسة غرفتها ، فمدت يدها وتشابكت أيدينا . شعرت بالرضى لهذه البادرة . . وقر قرار ساقى ، أخذتا لهما مكانا راسخا فى الارض كأنما كانتا هناك منذ أزمان . . تلك التخوفات الرهيبة امحت فى لحظة تشابك أيدينا ، واستحوذت السعادة على
وحين اندفعنا فى خطوة مماثلة بالاحضان خامرها الشك فى مستوى قامتها التى لا تقل عن قامة أحمد . فاهتدت أصابعها الى رأسى حيث تجمد الدم فى عروقها وفى عروقى وندت عنها صرخة مدوية ، بينما ظلت أصابعها لا تستطيع فكاكا من أحراش الشوك .
وعوض أن اتجه فى مهربى الى الباب ، خانتنى الذاكرة ، وانفرطت انثناءات لسروال الذى حسرت فتحاته الطويلة وظللت أطرق أبواب الغرف جميعها طلبا للخلاص . . ولم أفق الا بين أيدى سكان العمارة يهبطون بى الدرجات وفي مقدمتهم الحارس . ولمحت أحمد بينهم يلبس بدلتى السوداء ويضع الفراشة حول عنقه ، وخصلة من شعره الأشقر تتدلى على جبينه .
