ان بداية (*) النصف الثانى من القرن العشرين كان بالنسبة لبلدان المغرب العربى تحولا جذريا فى حياتها اذ انفتحت أمامها حياة السيادة والاستقلال وانصرفت من العمل الكفاحى (( الجهاد الاصغر )) الى بناء كيانها وتبوؤ مقامها فى العالم كأمم من حقها ومن واجبها ان تقوم بالدور الذى تراه وان تأخذ بقسطها فى بناء مصير الانسانية (( بجهادها الاكبر )) .
وان هذا الطور اقتضى بطبيعة الحال من النخبة المفكرة فى بلدان المغرب العربى ان يأخذوا بعين الاعتبار هذا الوضع الجديد وان يقفوا مواقف تختلف بحسب اتجاهاتهم ومناحى تفكيرهم وان ينتجوا انتاجا يتماشى مع نظرتهم للوجود ومع مدى تفتحهم على العالم او انغلاقهم على انفسهم وتراثهم .
فكانت الكتل المتعددة ذات الالوان السياسية والاجتماعية والفلسفية والاخلاقية والاقتصادية والثقافية وكانت الآراء المتضاربة المتباينة وكان الخصب المهول . ذلك ان المغربى لا يكاد يعثر على مجلة أو جريدة أو نشرية أو يستمع الى محاضرة أو حديث حتى يشعر بهذا الدفق الحى الذى غمر النخبة فى المغرب الكبير وجعلهم نهبة لتغيرات مجتمعاتهم ومتطلبات الحياة فيها وغرضا لسرعة التحول الذى نشهده فى العالم .
والمتتبع لهذا الفيض من الافكار والاراء ولهذه الحركة الفكرية الزاخرة انما مرجعه اصداء تبلغه من وقت الى آخر وشعور مبهم تارة ، وواضح أخرى بهذه الغزارة وهذه الحيوية . ذلك أن ما يصل الى السوق التونسية من كتب ومجلات ونشريات مغربية أو ليبية أو جزائرية انما هو قطرة من بحر يكون من المجازفة أن يبنى الدارس على أساسها استنتاجاته وأن يعممها على سائر الانتاج المغربى .
فالحيطة والحذر يجب ان يكونا نصب الاعين فى هذا الباب وخاصة عندما
يختار الكاتب دراسة الخلق الادبى من قصة وشعر ومسرحية اذ كم من تجربة جديدة ضاعت فى غضون مجلة من المجلات أو تلاشت فى رفوف المكتبات تنتظر الناقد الذى يفتح لها عقول القراء والظرف الذى يدفعها الى نفض الغبار واستشفاف شمس الكتابة .
لهذا فليس من السهل بحال من الاحوال وضع ولو خطوط عامة لمحتوى الخلق الادبى فى المغرب العربى والتحليق ولو من بعيد على صلب الاتجاهات الحقيقية التى تدفع هذا الكاتب أو ذاك الى أن يكتب فى موضوع دون غيره وأن يطرق غرضا دون آخر اذ جل الخلاقين ان صحت هذه العبارة لم يزالوا فى بداية الطريق أو هم توغلوا فى مسارب لا نملك رسما لها يدلنا إلى حيث تنتهى .
واذا كان هذا عسيرا فهو ليس بالمستحيل ، غير اننى اعرضت عن البحث فى هذا الوجه من الموضوع لا زهدا فيه وانكارا لاهميته بل ايمانا بان القضية التى تستحق الاولوية والتى يجب ان تفرض نفسها علينا جميعا فى المغرب والمشرق العربيين هى قضية اللغة التى تجتاز فى اعتقادى ، أزمة .
ذلك ان من المسلم به هو أن فى المغرب العربى وفى المشرق العربى آزمة خلق فى الادب والفكر سواء كانت ناشئة فى بعض هذه البلدان عن ندرة الخلافين أو عن تقصير فى النشر والتوزيع أو عن كليهما معا . وليس معناه أن الانتاج ، كما ذكرت من قبل ، قليل نزر بل هو غزير غزارة الحياة فى طفرتها زاخر بشتى الانفعالات ، حافل بعديد التيارات ، متفتح الى العالم لا عليه ، صاهر للآراء والصور وأنواع الخيالات ، متصد الى اصداء الخلق فى بلدان الدنيا يتجاوب معها ولكن رغم كل هذا لا نشعر أننا وجدنا قراء العربية الايقاظ قد ظفروا بغذاء أدبى بالعربية يحولهم عن أقطاب القصة أو المسرح أو الشعر فى العالم أو على الاقل يقتسم عنايتهم .
قالوا انها أزمة أصالة : ولكن القصص والمسرحيات والقصائد التى تترجم عن أصيل كياننا وعميق أنفسنا ، ومستسر مجتمعاتنا تعد بالمئات والمئات .
وقالوا انها أزمة تفتح ومعاصرة والحال أن الكتب المترجمة الى العربية تكاد تطغى على السوق الادبية وأن انشغال النخبة بالمدارس والاتجاهات الاجنبية بلغ حدا ينذر فى بعض الاحيان بالخطر .
وقالوا انها أزمة ثراء اللغة العربية بالمصطلحات العلمية بينما ما أقرته
المجامع العلمية وما نشر بالقواميس والمعاجم من شأنه ، لو استعمل وراج بين الناس أن يكفى المؤونة .
وقالوا هى اذن أزمة تفكير ونظريات وفلسفات وراحوا يقننون الادب والفكر العربيين ويضعون لهما المدارس ويستنبطون لهما الاتجاهات ويقفون مواقف من الخلق العربى بعيدة عن معايير الخلق الحق . فلا يقرأ الاثر ولا يعتنى به حتى يعرف لون صاحبه وضغط دمه السياسى ودقات قلبه تجاه الاحداث ونوع الهواء الذى يدخل رئتيه . وبطبيعة الحال انعكست الآية وأصبح الانتاج يخضع للعرض والطلب ورحنا نبحث عن المنتج بين كل هذا فلا نجده .
وفى اعتقادى أن الازمة فى كل هذا أزمة لغة .
ولا أقول أزمة اللغة العربية لاننى لا أعتبر لغتنا شيئا مطلقا مجردا عن الزمان والمكان محفوظا جاهزا ينتظر فرصة للاستعمال بل هى كائن حى يخضع لمقتضيات الحياة ويتأثر بما يحيط به من ملابسات ويتجاوب مع قدرة الانسان المربوط به .
فالازمة هى فى الحقيقة أزمة فهم ووعى للغتنا من حيث هى تعبير أى من حيث هى أداة للخلق الادبى . ذلك أن الموجة الطاغية عند أهل العربية منذ انبثاق النهضة فى أوائل هذا القرن هى وضع الفكرة والصورة والخاطرة فى المقام الاول والانكباب عليها توليدا وتعصيرا وترك العقوبة أو الاتكالية تعمل مفعولها فى الاداة المجعولة لحمل الفكرة والصورة والخاطرة حسب تكوين صاحبها وتأثره بعباقرة العربية . ولعله رد فعل قوى ضد عصور الانحطاط التى كانت مشغولة باللفظ الخاوى والعبارة الفارغة أو لعله اطمئنان وثقة لا تحد فى جوهر لغتنا وامكاناتها العظيمة .
نتج عن كل هذا أن الخلق الادبى اصبح فى كثير من الاحيان تنقصه اشراقه التعبير وجماله واصبحت الفكرة والصورة والخاطرة يضحى من اجلها باللغة كطاقة يجب تفجيرها وتجديدها وصهرها لتعلق بالعقول وتحرك النفوس . فالغرض من هذه الكلمة إذن هو أن اصف الآفات التى اصابت لغة الخلق من جراء موقفنا هذا وأبحث عن الاسباب التى جعلت من حاملة القرآن والناطقة بالشعر الخالد اداة ينقصها الاشراق وتعوزها العبقرية فى هذه الفترة من حياتنا . وذلك من دون أن أتعرض بالبحث للغة الفلسفة والصحافة والعلم لأن القضية فى هذا الباب أقل خطرا من القضية التى أنا بصدد معالجتها . وسأعتمد فى أمثلتى بعض النماذج التى لن أقصرها على انتاج الادباء والكتاب
المغاربة بل أتعدى بها الى أدب النهضة عامة قديمه وحديثه لان القضية فى الحقيقة واحدة ولانه لم يتبدل شئ منذ مطلع هذا القرن من الزاوية التى أنظر منها رغم المحاولات الاخيرة اللهم الا بعض الاستثناءات .
أول ما ألاحظه هو التفاوت الموجود بين بناء الثقافة التى يعتمدها الكاتب والاديب وبين بناء اللغة التى يستعملها . ذلك أن كل من يتصدى لعملية الخلق الادبى لا بد ان يكون قد انغمس فى محيط ثقافى له هيكله وبناؤه الخاص يهضمه الكاتب ويكيفه حسب ميوله وذوقه واختيارراته ويجسمه فى سلوكه ومواقفه ويصير عنده كلا متماسكا قد ارتضاه لنفسه بعد الرفض والانكار أو القبول والانسجام . لذا فان الاراء والصور والخيالات انما تنبع من هذا المحيط الذى احاط الكاتب به نفسه وغرق فيه واستتأثر به فاذا هو تصدى الى التعبير عنه احتاج الى اللغة وهنا يكون الاختيار أيضا وتكمن الصعوبة . فاللغة ليست مسألة عفوية كما يعتقد البعض أو يوهم نفسه بذلك . لان اللغة التى ورثها عن آبائه واجداده دخلت فى الحقيقة فى المحيط الثقافى وتأثر بها ولكن اللغة التى يريد أن يعبر بها تفرض عليه ان يختار لها بناء عن وعى أو غير وعى ، شاعرا بها أو غير شاعر وهنا نجد الفوارق بين كتاب النهضة الحديثة وهنا نجد أن أغلبهم لم يقدروا على أن يوجدوا انسجاما بين بناء ثقافتهم وبين بناء لغة تعبيرهم .
فمنهم من اقتصر على الثقافة القديمة ولم يغص الى جوهر العصر ولم تنفتح عيناه الا الى قشوره ولم يمارس التيارات الادبية الجديدة وهذا قليل جدا نجده فى اوائل هذا العصر ولغته متقلبة حسب تأثيرات قراءاته ويكاد يكون انتاجه خاليا من الاسلوب وهو امتداد لعصور الانحطاط كمقامات اليازجى . ومنهم من تاقت نفسه الى متطلبات العصر وعرف عنه الكثير ومارس الحياة ممارسة المعاصر ولكنه اختار للغته بناء قديما ولم يقدر على أن يضفى على ما كتبه أسلوبا خاصا به فأنت لا تعرف هل الذى تقرؤه كتب فى هذا القرن أم لا . فما بالك اذن بكاتب يختار قالب المقامة . فمهما بلغت الفكرة والصورة والخاطرة والعاطفة من الجدة والاشراق فانها عندما تكسى بكساء غير ملائم لها تنطفئ ويضيع بريقها ويتلاشى تأثيرها . قال مصطفى آغة وهو ذو ثقافة عصرية :
(( مضيت نصف شهر ، أتجرع مرارة الحيرة والقهر ، أطارد الفكر ، وأطيل السهر ، وأترك لذة المنام ، خشية مرارة الاحلام ، فلا أهجع الا اذا تراءت الاشباح ، وانبثق ضوء الصباح ، منهمكا فى استعراض أشعارى ، أتأمل فى
صناعة مبانيها وأسح فى بحور معانيها ، وأخيرا اقتنعت بصحتها ، وتمليت بهحتها ، وبدت لى بعد الارتياب ، كأنها العرب الاتراب ، فقلت كتب على أن أقول ، وعليها أن تجر الذيول ، هذا ما يتوجه اليه الاحساس ، ساعة دفاعى النعاس ولكن بعدها تطغى موجة الارتياب على موج الاقتناع والاعجاب )) .
والكاتب هنا يعالج عناء الخلق بروح عصرية ولكنه عندما اختار هذا البناء فى اللغة ضاعت الجدة ولم يتمكن من استغلال رأيه ولم تطاوعه الاداة .
وأقرأ معى ما قاله شوقى فى الحرب وهى معان مستجدة مستحدثة ولكنه البسها لباسا قديما قال :
ولم أر كالحرب استراح قتيلها : وأفضى الى القيد الاسير المقيد
ولكن شقى الحرب والمصطلى بها إذا انفضت الحرب الطريد المشرد
ولولا اختلاف الحرب بالناس لم يهن عزيز ولا ينزل على القيد سيد
فهى تذكرنا بشعر جاهلى . أو قصيد الرصافى فى رياضة كرة القدم :
وقفوا لها متشمرين فألقيت فتعاورتها منهم الاقدام
يتراكضون وراءها فى ساحة للسوق معترك بها وصدام الخ ..
أو أمين الريحانى فى ريح سموم : (( من انفاق منورة تحت الانهار . من ارتال فيها يدفعها الكهرباء ويجرها البخار . من بوارج ماخرات فى البحار . من اساطيل تنذر بالدمار . من معالم ومعاهد فى الامصار . ما الذى تظنه يدوم )) .
والأمثلة فى هذا الباب كثيرة . وهذا كله يبين مدى التفاوت الواضح بين ثقافة الذى يروم الخلق وبين بناء اللغة التى يختارها .
غير أن هذه الظاهرة تفطن اليها بعض الشعراء والكتاب عن وعى تارة وعن غير وعى تارة أخرى وحاولوا أن يزيلوا هذ التفاوت بممارسة بناء جديد للغة فيه شئ من الانعتاق من القديم . ولكن رغم ذلك اختل التوازن بوجود الغموض لان بناء اللغة تجاوز بناء الثقافة او هو وقعت استعارته من ثقافة أخرى كقول نزار :
قومى الى أرجوحة غريقة الحبال
نلون المدى ندى ونصبغ المجال
نأكل فى كرومنا ونطعم السلال
فالنفس جديد والنسيج فيه طرافة ولكن المعنى فيه كثير من الغموض لان هناك انخراما بين ما يقصده الشاعر من معان وبين لغته .
وأكبر ظاهرة فى الشعر العربى الحديث التى رامت بناء لغة الشعر بناء جديدا هى حركة الشعر الحر وفى اعتقادى انه عدا بعض القصائد التى يمكن حشرها مع الموشحات فان اغلب قصائد الحر لم تتوفق الى محو التفاوت بين ثقافة شعرية جذورها عربية قديمة لها اركان طغت عليها اللغة العامية والروح الشعبية وبين لغة استنبط بناؤها من لغات أجنبية أخرى . قال نزار قبانى :
(( اكتب للصغار
للعرب الصغار حيث يوجدون
اكتب للذين سوف يولدون
اكتب للصغار
قصة بئر السبع واللطرون والجليل
وأختى القتيل
هناك فى بيارة الليمون أخى القتيل
اذا كان فى يافا لنا حديقة ودار
يلفها النعيم
وكان والدى الرحيم
مزارعا شيخا يحب الشمس والتراب )) .
فهل يمكن ان يتجاوب المثقف العربى مع ايقاع هذه الابيات اللهم الا مع المعنى . ذلك ان الالتزام بالتفعلية وحدها والتلاعب بها هو كسر فى الحقيقة لبناء لغة الشعر العربى واقرار التفاوت بين ثقافة لها ماض لا يمكن انكاره وبين بناء لغة الا أساس لها فى هذه الثقافة لنأخذ مثلا قصيد يا ليل الصب :
يا ليل الصب متى غده أقيام الساعة موعده
رقد السمار فأرقه أسف للبين يردده
فبكاه ورق له مما يرعاه ويرصده
ولنأخذ جميع معارضات الشعراء لها فاننا نستطيبها ونطرب لها بينما لو قرأنا لنازك الملائكة فى نفس بحر الخبب لوجدنا هذا المثال :
وعد فى شفة الزنبق غطى المرج شذاه
وتألق فجر منبثق فوق مسافات مبهورة
ونسائم تعبر فى وديان مسحورة
إن شاء الله رؤى أغنية طافحة وندى وصلاة
فالشاعرة هنا ادخلت على فعلن فاعل ورضيته فلم يعط من حيث الايقاع
والموسيقى شيئا .
وليس معنى هذا اننا لا نجد فى غمرة هذه المحاولات مقاطع طريفة جميلة مستطابة ولكن الذى قصدته هو أن حركة الشعر الحر التى رامت بناء جديدا للغة الشعر ، قد أخطأت لانها لم تعتمد على ما فى بناء ثقافتها من عنصر هام كان هو السبب فى تطوير الشعر العربى الا وهو العنصر الشعبى العامى فى الايقاع الشعرى فلنذكر على سبيل المثال ظهور الموشح فى الشعر العربى . هل كان يمكن لهذا البناء الجديد للغة الشعر أن يظهر فى غير الاندلس ذلك انه اصبح من المسلم به ان الموشح هو نتيجة لتفاعل اشعاعى بين الشعر العربى الكلاسيكى وخاصة التسميط وبين الشعر الغنائى الرومانى وان كان الاول يعتمد على المقاطع والخرجة الرومانية ولكنه سرعان ما تفرع الى موشح ذى وزن عربى كلاسيكى وذى خرجة بالفصحى .
كذلك يمكن الاشارة فى هذا الباب الى محاولة قام بها القديس أوغسطينوس فى اوائل القرن الخامس وكان لها تأثير حسبما أقره الدارسون على الشعر الرومانى فيما بعد . لقد جره كفاحه ضد النحلة الدوناتوسية الى القرب من الجماهير فألف لها ألفباء له عدد قار من المقاطع والقافية ونفس الترجيعة مما تماشى مع نفوسها وأثر فيها تأثيرا كبيرا .
واذا رمنا البحث عن أسباب انواع هذا التفاوت الذى بينته نجد انفسنا أمام سبب أصلى وهو انفصال فى الحقيقة عن البيئة يتمثل فى قطيعة وقعت بين اللغة العربية الام واللغات العامية الموجودة فى كل بلد عربى لان اصدق ما يمثل بيئة من البيئات انما هى اللغة الدارجة . فبينما نحن نجد ان الفوارق بين اللغات الحية المعروفة ولهجاتها طفيفة يهولنا ما نراه من بون كبير بين اللغة العربية فى بنائها واللغة العامية التونسية مثلا وهذا نلمسه واضحا فى الشعر الشعبى واختلافه مع الشعر الفصيح فى الايقاعات والاوازان .
هذه القطيعة المتمثلة فى ثنائية قابعة فى نفس الشاعر الواحد الذى ينظم
الفصيح والعامى مردها فى ظنى الى عزلة العربية واقتصارها على نخبة معينة منذ القدم ومحافظة هذه النخبة على نزعة قاومها الاولون وحاولوا تلافيها ولكنها بقيت عالقة بالاذهان متجسمة فى أمر لانزال نقاسيه الى يومنا هذا .
هذه النزعة التى قاومها القرآن وساندها عباقرة العربية الكبار هى ما أسميه التفاوت بين بدائية الكتابة واكتمال اللغة .
ذلك ان اللغة العربية اكتملت جماليا وأدبيا بظهور الشعر الجاهلى الذى استوفى بناء لغته على أكمل وجه واستنبط ايقاعاته وموسيقاه بحيث بلغت فى تلك الفترة أوج ازدهارها ولكن الى جانب هذا لا نجد الا كتابة عربية بدائية غير شائعه حتى بين نخبتها . وهو أمر غريب اذ أن اللغات كما قيل (( تنشأ وتترعرع فى مهد كتاباتها )) ولكن سرعان ما ظهر الدين الاسلامى ونزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وأمر بالقراءة والكتابة ثم يدون القرآن ويضبط اعجامه وشكله ورغم ذلك فان نزعة السماع والاقتصار على المكتوب المنقوص أى غير المشكول بقى شائعا بين الناس وهو الذى زاد فى الفروق بين الفصحى والعامية . وكلما اتسعت الشقة بينهما تفاقمت (( برعاجية )) اللغة العربية وأصبح أهلها يشعرون بانهم أمام كائن مصطنع بعيد عن الحياة الحق المتفتحة على جميع التيارات .
وبتقلص أدب الروايه والسماع الذى كان يعوض النص المشكول والذى كان رغم ذلك بعيدا عن الروح الشعبية وبناء اللغة العامية وبشيوع الطباعة وانتشار الكتاب واقتصار الناس على النص غير المشكول اصبحت (( برعاجية )) اللغة الفصحى اكثر وضوحا واصبحت قراءة نص خال من الحركات يتطلب من الاصطناع والبعد عن العفوية وطبيعة الاشياء ما جعلنى اهتم بصفة خاصة بهذه الظاهرة واستنبط طريقة تسمح بكتابة نصوص الجرائد والمحلات مشكوله فى نفس الوقت الذى تكتب فيه غير مشكوولة ، مما سبق ان تعرضت له بمجلة الفكر فى مقالات عديدة (*) .
وهنا اقترح أن ينكب المؤتمر على هذا المشكل الخطير بالنسبة للغة العربية وهو خلو الجرائد والمجلات من الشكل وايجاد طريقة سريعة لذلك . حتى نضمن ديمقراطية الثقافة وشيوعها بين جميع الطبقات .
وأذكر هنا ما وقع فى اجتماع ندوة التربية والتعليم لبلدان المغرب العربى
بالجزائر فى الشهر الماضى اذ أدرجت هذه المسألة فى توصيات لجنة الرصيد اللغوى مع مطالبة جميع الحكومات بالنظر فى هذا الامر .
فأنا أذهب اذن الى ان من اسباب القطيعة بين الفصحى والعامية أى بين الكائن الاصطناعى وبين الكائن الحى غفلة اهل العربية عن شكل كتاباتهم وامعانهم فى ذلك والاعراض عن الاقتناع بأن هذه الظاهرة خطيرة على مستقبل لغتنا رغم ما أقره العلم الحديث من تأثير المكتوب على دماغ الانسان وافرازه ضربا من التفكير يتماشى والمجهود المبذول ونوع النص المقروء ورغم أن العلم اثبت وجود نقطة القراءة ونقطة الكتابة فى دماغ الانسان كنقطة الذاكرة والبصر وغيرهما .
وعلى كل فان أزمة الخلق الادبى ما زالت ممتدة مهيمنة ومرجعها عجز الكثير من كتاب العربية باستثناء شواذ عن محو التفاوت بين بناء ثقافتهم وبناء لغتهم أى عجزهم عن استنباط بناء جديد لتعبيرهم من دون الاتكال على الانماط القديمة من التعبير والاساليب المطروقة .
ذلك أن اغلب كتاب العربية وشعرائها الا النادر منهم اتكلوا على أساليب وقوالب جاهزة ولم يحاولوا تفجير اللغة وبناءها بناء جديدا حتى انه من السهل جدا استشفاف عدة اساليب فى الكتابة الواحدة علاوة على اسلوب الكاتب نفسه بينما المفروض فى الخلق أن تكون لغته نمطا آخر يتجاوز الاسلوب والقوالب المعهودة ويكون شأن الكاتب مع لغته كشأن بعض الاشعة الفعالة (radioactivite ) التى تزلزل نواة جسم من الاجسام فتخلق جسما آخر جديد لا شبه بينه وبين الجسم الاول ولا يكون شأنه كشأن التفاعل الكيمياوى البسيط بين جسم وجسم لخلق شئ آخر ولكن تظهر فيه من أول وهلة مكونات الجسمين .
يقول القائل كيف يمكن ذلك . أقول ان هذا يجب ان يتم على الاقل فى الشعر بالاستناد الى ما وقع بالنسبة لانماط الشعر التى وجدت عند أهل العربية وهذا لم ينشأ الا بتأثير العامية . ولهذا فاننى ادعو الى استنباط موسيقى الشعر الشعبى وتذليلها وتطويعها حتى تعطى بناء جديدا للشعر
نتمكن بواسطته من الخروج من الصور والخيالات التى فرضها علينا بناء بلى وتداعى حتى صار ضربا من الآثار .
ان هذه الملاحظات التى عرضتها عليكم هى صلب القضية تجاه الخلق الادبى حسب رأيها عندما تحظى بعنايتكم ويكتب لها أن تتظافر عليها الجهود بالدرس مع اقتراحات وآفاق تفتحها دراسات أخرى تنظر الى قضية الخلق الادبى من وجهات متعددة لعلها تكون مساهمة فى المجهود الكسر الذى يقوم به الجميع للسعى فى جعل لغتنا تقفز قفزات عملاقية من شأنها ان تكون بين اللغات الحية ، اللغة التى تثرى آداب العالم وتفرض نفسها كغذاء روحى على المتطلعين فى كوننا الى غد مزهر مشرق.
